قضايا وآراء

الإنسان والإرادة المتسامية في فلسفة الجيلي الصوفية / ميثم الجنابي

سوى الكيان الذي يحتوي في ذاته على كل شيء مما في عوالم الملكوت (الماوراطبيعي) من عرش وكرسي وسدرة المنتهى والقلم الأعلى واللوح المحفوظ. كما أن فيه استمرارها الوجودي في العناصر والهيولي والهباء واستمرارها في الأفلاك المجردة وسماواتها وأفلاكها الطبيعية واستمرارها الطبيعي في مبادئ الحياة من نار وتراب وماء وهواء ومستواها الأدنى في الغرائز.

بعبارة أخرى، إن الإنسان يحتوي على كل شيء! والإنسان الكامل، بالتالي، ليس كيانا مجردا خارج الملك (الطبيعة) والملكوت (ما وراء الطبيعة)، بل هو الكيان الذي يحتوي في ذاته على مكوناتهما جميعا، بحيث يجعل من قلبه وأنيته ومقامه وعقله ونفسه وطبعه وقابليته وهيكله ورأيه وإدراكه وهمته ووهمه وهمومه وفهمه وخياله وفكره وذاكرته وجميع قواه الحسية وعناصر وجوده الطبيعية من حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة، وخواطره ووساوسه وغرائزه (حيوانيته) حقائق مقابلة للحقائق الوجودية والعلوية. حينذاك فقط يمكنه أن يكون كاملا.

مما سبق يتضح، بأن الإنسان الكامل في منظومة الجيلي هو ليس "سوبرمان"، بل أنموذج للكمال الإنساني الفاعل بمعايير الحق المطلق. فهو يجسد في ذاته تناسب الأوزان الضرورية للفعل الأخلاقي المتسامي. إذ فيه تتناسب وتتكامل مكونات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي، وبالتالي، فإنه ممثل الوحدة. إذ فيه من كل شيء نسبة معقولة ومتجانسة من أقصى مكونات المطلق (الحقائق العلوية) إلى أدنى تجلياته في الشيطنة والبهيمية.

وقد حدد ذلك غاية الإنسان الكامل، بوصفها رهن المساعي الإرادية للحق. من هنا قول الجيلي، بأن "مثال الإنسان للحق مثال المرآة التي لا يرى الشخص صورته إلا فيها. وإلا فلا يمكنه أن يرى صورة نفسه إلا بمرآة الاسم الله. فهو مرآته. والإنسان الكامل أيضا مرآة الحق، فإن الحق أوجب على نفسه أن لا ترى أسماؤه وصفاته إلا في الإنسان الكامل". بعبارة أخرى، إن الإنسان الكامل هو الإنسان الذي تتكامل فيه مكونات الوجود ووحدتها المتناسقة، بحيث يصبح كالمرآة قادرا على عكس حقائق الوجود الملكوتية في علمه وعمله. الأمر الذي يحرره من رق الاغيار، ويجعله قادرا على الفعل بمعايير ومقاييس الحق (المطلق). انه ممثل المعاني الخالصة والحقائق العلوية في وجوده التاريخي. وعّبر الجيلي عن هذه الفكرة في تأويله للآية (كل يوم هو في شأن) بطريقة تقول، بأن "تغيره في كل زمان إنما هو أثر للشأن الإلهي الذي اقتضاه التجلي الحاكم على الوجود بالتغير"، أي أن التغير في الزمان (التاريخ) هو نتاج للشأن الإلهي الذي يتحدد بدوره بأحكام التغير الضروري في الوجود. وأسّس لهذه الفكرة في سلسلة الشأن والأثر والمقتضى والتنوع، انطلاقا من أن لكل تجل شأن، ولكل شأن أثر، ولكل مقتضى تنوع في الصور وذلك لأن الحق (الله) وإن كان ثابتا بذاته إلا أن له في كل تجل تغيرات هو عين "التحول في الصور". بهذا المعنى انه متغير لا متغير، متنوع لا متنوع، متحول في الصور لا متحول في نفسه، كما يقول الجيلي. والحقيقة كما هي تمثيل لهذه الفكرة. أنها ثابتة من حيث ذاتها متنوعة في الصور. بل أنها غير محدودة وغير متناهية. وإذا كان الأمر كذلك، فإن منطق الإنسان الكامل في تعامله مع أي شيء يتحدد بعلاقة الثبات والتغير، أي الثبات في الحق والتغير في الصور. من هنا نرى الجيلي يرى في القرآن ليس كتابا محصورا للمسلمين، بقدر ما وجد فيه "عبارة عن أحكام الوجود المطلق"، الذي هو أحد وجهي ماهية الحقائق. من هنا تصبح سوره وآياته "الصور الذاتية وهي تجليات الكمال. فلكل سورة معنى فارق تتميز به". حينذاك تصبح الآيات "عبارة عن حقائق الجمع"، لأن كل "آية تدل على الجمع الإلهي من حيث معنى مخصوص". وتصبح الكلمات "عبارة عن حقائق المخلوقات العينية". وتصبح الحروف عبارة عن "الأعيان الثابتة في العلم الإلهي".

إن تحول القرآن إلى عبارة عن "أحكام الوجود المطلق"، والسور إلى "تجليات الكمال" والآيات إلى "حقائق الجمع" والكلمات إلى "حقائق الموجودات" يعني تحرير النص القرآني من صولة السلفية وتقديس الحروف وأوهام العقائد وسطوتها "الفقهية". بهذا يكون الجيلي قد أعطى للعقل التأويلي، عبر تحويل القرآن إلى ميدان "معرفة الوجود المطلق" والسور إلى "تجليات الكمال" والآيات إلى "حقائق الجمع" والكلمات إلى "حقائق ملموسة" إمكانية السباحة الحرة في بحر الوجود والتاريخ بالطريقة إلى لا يقيدها شيء غير الإخلاص للحقيقة. وذلك لأن حقيقة "اللوح المحفوظ" هي "النفس الكلية"، أي "نفس الإنسان الكامل"، كما يقول الجيلي. فهي النفس التي تتكشف فيها حقائق الوجود المطلق، لأنها هي نفسها تجسيدا له. فاللوح المحفوظ الذي يحتفظ على معاني القرآن وتبدله في الصور ما هو إلا نفس العارف الكلية. ذلك يعني أن حقائق الأشياء (الكلمات) على قدر "حقائق الجمع" ومن ثم على قدر جمع الذات أو تكاملها. كما أن تكاملها هو صورة ذاتية وبالتالي تجل للكمال. من هنا فكرة الجيلي، عن أن فهم القرآن وأسراره وتأويله يعكس العملية الذاتية لإدراك حقائق الأشياء باعتبارها حقائقنا نحن، وبالتالي الاضمحلال فيها بحيث يبلغ المرء حال "أنت بلا أنت"، وتتحول الأنا العارفة إلى تجل للكمال.

وهي عملية تتسامى بالمرء للدرجة التي تتحول فيها الكلمات (حقائق الأشياء) إلى "حقيقة ذاته"، أي على خلاف تحولها إلى "خيال المتضادات" مثلما هو الحال عند العوام، كما يقول الجيلي. من هنا موقفه مما اسماه بحقيقة السرّ في القرآن، الذي جرى ستره "بقشور عبارات وسطور كما فعله النبي محمد"، وذلك لأن "الذي أمر محمد بتبليغه ظاهر، والذي خيّر في تبليغه باطن". إلا أن الذي "اخذ على محمد بالكتمان يوجد في القرآن ومودع فيه لا تعرف حقيقته إلا عن طريق التأويل لغموض الكلام، فلا يعلم ذلك إلا من اشرف على نفس العلم أولا أو بطريق الكشف الإلهي".

تنبع ضرورة التأويل من حقيقة وجود "الأسرار الإلهية" والحقائق التي يحويها "اللوح المحفوظ"، أي لوح الوجود الدائم ولوح الكشف الدائم. إذ ليس اللوح المحفوظ سوى "نفس العارف". ومن ثم فإن تبدل الصور هو نتاج التبدل الدائم في كمال الإنسان. إذ ليست السور القرآنية سوى "الصور الذاتية" و"تجليات الكمال الإنساني". وهي حالة تحرر الإنسان من قيود الكلمة وتجعلها جزءً من حقائق الوجود المكتشفة في مجرى معاناة الإخلاص للحق. آنذاك يصبح "الهدى" على سبيل المثال عبارة عن "كيفية رجوع النور الإلهي المتنزل في الهيكل الإنساني إلى محله ومكانه". ويصبح معنى "الأرض يرثها عبادي الصالحين" هو "الوراثة الإلهية" والأرض هي "الحقائق الوجودية المنحصرة بين المجالي الحقية والمعاني الخلقية". ويصبح معنى الأب والأم والابن في المسيحية هو على التوالي أسم الله وماهية الحقائق والكتاب أو الوجود المطلق، لأنه فرع ونتيجة عن ماهية الحقائق. وان معنى سورة الفاتحة يقوم في إشارتها إلى قسمة الخلق والحق في الإنسان. فالإنسان الذي هو الخلق باعتبار ظاهره هو الحق باعتبار باطنه، لأن دلالة الفاتحة هي إشارة إلى "هذا الهيكل الإنساني الذي فتح الله به أقفال الوجود". أما كلمات النبي محمد عن أن "الله ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من كل ليلة"، فإنها تحتوي على معان عديدة، منها أن الليلة هي الظلمة الخلقية، والسماء الدنيا هي ظاهر وجود الخلق، والثلث الأخير هو حقيقته. كما يمكن تأويل الحديث على أساس "أن كل شيء من أشياء الوجود تنقسم بين ثلاثة أقسام، قسم ظاهر يسمى بالملك، وقسم باطن ويسمى بالملكوت، وقسم ثالث هو المتنزه عن القسمين السابقين".

وطبق موقفه هذا من تأويل مختلف الآيات والأحاديث المتعلقة بمختلف قضايا الفكر الإسلامي. بل نراه يقول في بعض تأويلاته بأن بين بعض "أهل النار أناسا عند الله أفضل من كثير من أهل الجنة، أدخلهم دار الشقاوة ليتجلى علمهم فيها فيكونون محل نظره من الأشقياء. وهذا سر غريب وأمر عجيب". لقد أراد الجيلي القول، بأن "للأشقياء" نماذج ودرجات في الظاهر، كما أن النار مصدر الدفيء وأداة الحرق، والماء مصدر الحياة وأداة الموت أيضا. وهناك من "الأشقياء" الذين يخرجون عن المألوف في تحديهم إياه بحيث يجعلهم ذلك اقرب إلى الحق. وتعّبر هذه الرؤية عن عمق الحرية المتسامية في منظومة الجيلي، بحيث وجدت تعبيرها أيضا في تأويله "لخروج آدم" من الجنة. إذ وجد في أكله الثمرة والخروج بسببها أمرا منطقيا، استنادا إلى أن النفس مخلوقة من الذات الربوبية، وليس من شأن الربوبية البقاء تحت الحجر. وهو حكم يستجيب عليها في الدنيا، كما يقول الجيلي.

أننا نعثر في منظومة الجيلي عن الإنسان الكامل على استمرار منطقي في تحدي الواقع والخروج على خيالاته، باعتبارها قيوده. وذلك عبر الخروج عليها بها، انطلاقا من أن "كل أمة من الأمم مقيدة بالخيال في أي عالم كانت من العوالم". فأهل الدنيا مقيدون بمعاشهم والمعاش خيال. وكل ما هو مقيد بجزء هو خيال. إنه ضروري للوجود، لأنه جزء منه. لكن الحقيقة تقوم في تذليل جزئيته. وينطبق هذا على كل شيء وموقف. الأمر الذي جعل الجيلي يتكلم عن بلوغ حال أن "تكون أنت بلا أنت والله المدبر". بمعنى تذليل الأنا الجزئية، وبالتالي العلم والعمل بمعايير الحق المطلق. آنذاك يمكن رؤية الوجود على حقيقته بوصفه وحدة يحتل الإنسان مركزها. والمقصود بذلك مركزية الإنسان الذي يجسد في ذاته حقيقة الحق. ومن ثم تمثيلها بوصفه خليفته في العلم والعمل. بمعنى النظر بعين الرحمة للوجود والعمل بمقاييسها. الأمر الذي يمكن رؤيته في موقف الجيلي من العقائد والأديان والإنسان الكامل في الوجود.

ينطلق الجيلي من أن الإنسان هو سرّ الوجود و"الكنز الإلهي". وبالتالي فهو المقصود من وراء كل عبارات أهل الشرائع جميعا. وذلك لأن الشرائع جميعا تسعى إلى الله كل على قدر استطاعته. وتعكس هذه الاستطاعة تجلي الحق فيها. انطلاقا من أن رؤية الشريعة هي تعبير عن الحق (الله) وأحد مستوياتها. ووضع الجيلي هذه الفكرة في عبارته القائلة، بأن الله يتجلى "في كل منقول ومعقول، ومفهوم وموهوم، ومسموع ومشهود. فقد يتجلى في الصورة المحسوسة وهو عينها وباطنها". وهي مقدمة فلسفية تفسر التعدد والتغير والاختلاف، وتؤسس لشرعيته وأبعاده الأخلاقية والمعرفية. أنها تفسح المجال أمام التسامح الفكري، وتؤسس للاختلاف باعتباره بحثا عن حقيقة الإنسان. وفي بحثها هذا ترى ما يناسب إدراكها، أي أن الحق في حقائقهم على قدر اقترابهم فيها منه. من هنا تأويل الجيلي لكلام المسيح وفكرة النصرانية عن الثالوث كما وردت في الإنجيل في رد عيسى على الله، بأنه قال ما قال لقومه هو على سبيل الاعتذار لقومه، وذلك لأنه قال لهم ما قاله من أمر الله. وعما بلغهم كلامه حول الأب والابن، فإنهم حملوا كلامه على ظاهره. ومن ثم فلا ملامة عليهم لأنهم فيه على ما علموه من الكلام. ومن هذا التأويل استنتج الجيلي بأن "شرك النصرانية هو عين التوحيد"، وذلك لأن أتباعها فعلوا ما علموه بالإخبار الإلهي من أنفسهم. فمثلهم مثل المجتهد الذي اجتهد، واخطأ فله اجر الاجتهاد". من هنا مطالبة عيسى بالمغفرة للمذنبين، مع أن الأنبياء لا يقومون بذلك. وسبب هذا يقوم في أنه "كان يعرف أن أتباعه على حق رغم باطلهم". ذلك يعني أن الجوهري في الاعتقاد هو صدق المرء، ومن ثم فإن الاعتقادات جميعا اجتهادات. وبالتالي كلها تسعى للحق كما تراه. وفي أعماقها تعبر عن الحق كما تراه. إضافة لذلك إن جميع الناس هم عباد الله. وبما أن عيسى هو حقيقة الله، كل ذلك جعل الجيلي يؤكد على أن "أتباعه على حق أيضا".

لقد جعل الجيلي من صدق الأتباع والإخلاص فيه مبدأ حقانيا من حيث كونه سعيا عن الحق، وهو موقف لا يبرر الخطأ والخطيئة، بل يتسامى عن الانسياق وراء الجدل معها بمعاييرها. إنه يرتقي إلى مصاف الرؤية المتسامية لما فيها من جزئية ذات معنى في الكلّ، يوصفها صورة من صوره. من هنا قول الجيلي، بأن "أتباع عيسى على حق لأن عيسى حقيقة الله"، كما "أن كل شيء هو حقيقة الله". ذلك يعني إنه يضع كل الآراء والمعتقدات الساعية للحق ضمن "حقيقة الله". مما يعني إزالة القواعد الجامدة، التي تجعل من تجارب الآخرين المتنوعة والمختلفة عن الأفراد والجماعات والأمم أيا كانت معيارا مطلقا للحقيقة. إذ لا يعني أن "كل شيء هو حقيقة الله" سوى تجدد الحقائق وتنوعها وتغيرها وتبدلها في تجارب الأفراد والجماعات والأمم. ومن ثم، فإنها تمتلك جميعا حق الوجود والشرعية والاحترام بوصفها أجزاء ومستويات ومظاهرا لحقيقة الحقائق.

***

The article is supported by the Russian State Fund No. 10-03-00411-?.

  

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2112 الأحد  06 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم