قضايا وآراء

مسلة حمورابي .. رؤية تشكيلية / حكمت مهدي جبار

وجاء حكم (حمورابي) منذ(1793- 1751) قبل الميلاد بعد سلسلة حكام عراقيين حكموا (بلاد الرافدين) ضمن العصر البابلي الممتد من حدود 2006قبل الميلاد أبتداء من سلالة (لارسا 2025- 1763ق.م.وسلالة (أيسن 2017 – 1794) وسلالة (أشنونا 2000- 1761)حتى (سلالة بابل الأولى 1894 – 1595)والتي أشتهر فيها أعظم ملوكها وهو الملك السادس (حمورابي) من سنة 1792 – 1750)ق.م. (+).

حكم (حمورابي) بابل التي لم تكن مساحتها (++) تزد عن دائرة قطرها خمسون ميلا.وقد برع في قيادة الدولة وسرق أعجاب الدنيا في تلك الأزمنة السحيقة.والحديث عن ذلك طويل طويل.ولكننا سنكتفي هنا في هذا المقال بما تميزت به بابل في عهده من أبداع في أنواع الفنون من عمارة ونحت وتصوير.

واضعين (مسلة حمورابي) أنموذجا فنيا عظيما.

المسلة عبارة عن قطعة من حجر (البازلت) على شكل شبه أسطواني وبقمة محدبة بأرتفاع (8) ثمانية أقدام وما يعادل المترين وربع المترتقريبا .ضمنها الفنان البابلي موضوعا رائعا عكس من خلالها سعة أفقه وخياله الخصب الجامع بين الوعي الفني والأفق الفكري في تلك العصور.وقد وظف الفنان (البابلي) رؤيته الفنية في مجال (التشكيل وخاصة (النحت) لينقش على الحجر الصلب (البازلت) موضوعا أنشائيا تمكن فيه من أتقان عناصر العمل الفني على الحجر.معززا أياه بنصوص كتابية لبنود أول مواد قانونية في التأريخ وبالخط المسماري.

المسلة من انواع النحت الناتيء الريليف((Relefالذي وكما يبدو ان الفنان (البابلي) قد ابدع فيه وفطن مهارة التنفيذ كون النحت الناتيء يتكون بواسطة خلق أشكال ذات ابعاد ثلاث تقوم من أو تقع في سطح مستو ذي بعدين.والريليف يجمع كثيرا بين خصائص الرسم والنحت وهو عموما يبدو موازيا للرسم في أساليب التشبيه والتنظيم. فموضوع المسلة المتضمن (أنشاءً تصويريا) للملك (حمورابي) وهو يأخذ الأذن من آلهة الشمس (شمش) لتخويله في تنفيذ بنود القوانين لجعلها دستورا للبلاد عكس قدرة الفنان على ضبط المشهد التشكيلي من ناحية الشكلين.(الفكر) الواقف و(الفكر) الجالس.ليخلق حالة من حوار كهنوتي مقدس اتضحت فيها تداخل الفكرة التشكيلية من خلال النقش على الحجر الصلب بالفكرة الدينية سعيا لتأسيس نظاما للحياة بأدوات جمالية .

أن المتمعن في موضوع المسلة التشكيلي النحتي.يجد روعة التنفيذ في تفاصيل الأشكال، حيث طيات ملابس الملك والأله.والتأكيد على ما يحيط بالوجهين من حالتي خشوع وهيبة عبر ازميل (النحات) فضلا عن مراعاة موضوعة توازن الموضوع (مشهد اللوحة) بتلك الدقة المتناهية.لتبدو دلالات أظهار العمق وألأشكال بأبعاد ثلاثية بـ (الأيهام) جعلت اجزاء التكوين الأنشائي تبرز لتحسب تأثيرات الظل والضوء التي تسقط عليها.

ان الناظر الى موضوع المسلة العلوي يجد انه لايخلو من وضع عنصر العمل الفني المهم وهو (التخطيط) وبرهافة وشفافية لمسات أزميل النحات.ليثبت لنا انه قد فطن الى أن مكونات (التخطيط النحتي) تنتج من خلال الظلال التي تصنعها الأضواء الساقطة على النتوءات الناعمة والدقيقة للأشكال .مؤكدا على واقعية كثيرا ما كانت ملتزمة بالشروط (الأكاديمية) كما هو عليه في (المدرسية) المعاصرة.وبذلك فأن (الفن البابلي) وفق ذلك يبو أكثر تنظيما وصرامة في الشكل.فوقفة (حمورابي) المحاطة بالجلال أمام الآلهة (شمش) فيها من الأسلوب (الفني التشكيلي) الدقيق ما يوحي بهيمنة الروحية الهندسية (للثقافة البابلية).وذلك ما اكدته ألأخبار عن ان حضارة بابل ارتبطت كثيرا ببيئة سعى اليها حكامها لتنظيمها حيث مشاريع الري والزراعة وبناء المدن فضلا عن تحضير وتمدين المجتمع.

وهكذا امتاز الفن البابلي بالتنظيم الشكلي الصارم القريب من النزعة الدينية المتزمة المرتبطة بالحكم المطلق الأشد صرامة.فجاءت المسلة بموضوعها رغم بساطته يوحي بتمجيد الفكرتين الألوهية والملوكية نحو ترسيخ النزعة الدكتاتورية في الحكمين الديني والدنيوي.وقد امتزج الأسلوبين التجريدي والواقعي القريب من العقلانية في التعبير عن الجو العام لحركتي الشكلين (حمورابي وشمش).ويبدو ومن خلال تفسيرات الباحثين والنقاد من الفنانين والمفكرين من أن ألأمر لم يكن يقتصر على عرض هيئة (حمورابي) البشرية عن طريق الألتزام الدقيق لمبدأ المواجهة(الصورة الأمامية)بحيث يدار الرأس لأظهار المنظر الجانبي .بل أن اجزاء الوجه اظهرت لتكون جامعة للحالتين لأشراك الرؤية الواقعية للملك كحاكم دنيوي بالرؤية التجريدية المطلقة للألهة كحاكم آخروي.

 

أهتم الفنان صانع هذه المسلة كثيرا بتشريح الجسم البشري.وأتضح ذلك في حركة ذراع حمورابي اليمنى، حيث بروز عضلة العضد والكتف وتمدد عضلة الساعد نتيجة تنفيذه لطقس ديني في مراسيم استلام التخويل ألألهي من (شمش).وكذلك تقلص عضلة عضد (شمش) اليمنى ايضا وهو يمد يده ليسلم التخويل لـ (حمورابي).أما تفاصيل طيات الملابس فبدا رداء (حمورابي) منسابا بطيات منسرحة تبدو كأنها متوازية.لتوحي بصرامة الملوكية وهيبتها.في حين ظهرت ملابس (شمش) أكثر نعومة وأعتدالا في الطيات ولم تظهر عليها (عقفات) لتوحي بالنزاهة والقدسية.وأتضحت الرؤية التجريدية الهندسية واضحة على شكل المقعد الذي يستريح عليه (شمش) حيث تتداخل المربعات والتي تبدأ بمربع كبير محيط ليتدرج يالتصاغر داخل مركز المربع الكبير.

 

وفي المساحة المخصصة لنقش النصوص القانونية تحت الموضوع، التي كتبت فيها تشريعات (حمورابي) فنجد ان هناك فسحة تحتوي رموزا كتابية توحي بفضاء تجريدي وكأنه يستخلص الأشياء وينضبها في مضامين كتابية.والحقيقة ان الفنان التشكيلي المتمعن (لغابة) تلك (الرموز المسمارية) اذا ما اراد تجريدها من صورتها الكتابية كنصوص قانونية فأنه يتعاطف معها وكأنها (لوحة تجريدية) لا كتابة.وتبدو وكأنها أكثر من مجرد نصوص، انما عمل فني تجريدي خالص يتوافق مع الأنشاء التصويري العلوي للمسلة.

  

ــــــــــــــــــــــــــــــ

+ - هذه التقسيمات التأريخية، حسب رأي الأستاذ والباحث العراقي الكبير (طه باقر) في كتابه (مقدمة في أدب العراق القديم) الصفحة 24الصادر سنة 1976عن جامعة بغداد كلية الآداب.

++- تأريخ العراق – باب العراق القديم - الفصل الثالث – العصر البابلي القديم – الصفحة - 88

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2113 الأثنين  07 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم