قضايا وآراء

مسلة حمورابي / زهير صاحب

وذلك التفضيل متأتي من الأفكار الانسانية العظيمة التي قدمتها نصوص المسلة القانونية للفكر الانساني.. التي ما زالت حية تفكر في عقولنا حتى هذه اللحظة.

اكتشفت المسلة من قبل بعثة الاكتشافات الفرنسية في مدينة سوسة العيلامية بايران، بعد ان نهبها الملك العيلامي.. من مكان عرضها في احدى ساحات مدينة سبار في اليوسفية جنوب بغداد.. كما اسلفنا القول، ومحفوظة في متحف اللوفر بباريس حالياً. ويبلغ ارتفاعها 225سم.. ولها شكل شبه اسطواني غير منتظم التدوير، منحوتة من حجر الديورايت الصلب.. الاسود اللون.. وقطرها من الاعلى 165سم.. ومن الوسط 160سم.. وفي الاسفل 190سم.. وارتفاع المشهد الممثل في اعلاها يبلغ 65سم.

اذا فهنا التعبير في المنجز التشكيلي: على انه متأتي من تفاعل عناصره البنائية.. فان (مسلة كل العراقيين).. بثت بلاغها الفكري من خلال عرضها في اهم ساحات مدينة سبار.. تلك المدينة التجارية الهامة في هيكل الدولة البابلية. وامتلكت اهميتها الاخبارية من خلال ضخامة حجمها.. ولونها الاسود اللماع المشع.. الذي نسجت بريقه.. خيوط اشعة مدينة سبار التي عرفت لدى البابليين بأسم مدينة الشمس.

فمسلة الملك البابلي.. تمثل انزياحاً هاماً.. في بنية المنجزات النحتية الرافدينية بصدد غرائبية ارتفاعها الشاهق.. وخاصية خامتها.. وطبيعة موضوعها.. ونظام تكوينها لشكلي.. وتقنية نحتها.. وآليات إلاظهار المتفردة الجديدة في اخراج مشهدها التصويري. فاذا فهمنا التاريخ بدلالة الفن، فان مسلتنا تعد من اعظم منجزات النحت البارز في تاريخ النحت العالمي.. وفي ملمح آخر: فانها تشير الى خاصية تكامل الاسلوب البابلي ونضجهِ في خارطة النحت العراقي.

هندس النحات.. وهو من اعظم النحاتين على ارض الرافدين..رغم تخفيه خلف المشهد، وجه المسلة على شكل محدب تقريباً.. لاتاحة فضاء تصويري يتسع لتمثيل تفاصيل المشهد من جهة.. ولتوسيع مديات خاصية الأستيعاب البصري من قبل جمهور المتلقين من جهة اخرى. كما ان النحات حقق تفاوتاً في مستوى سطح المسلة.. بان حصر المشهد المصور داخل مستطيل غائر في الاعلى.. قياسا بسطح المسلة الكلي. وتلك ظاهرة تقنية في آليات إظهار المشهد.. لونّت المسلة بمساحات من الضوء والعتمة.. وفعلّت خاصية التلقي الجمالي لتكوينه النحتي.

احتلت مساحة المستطيل العلوي.. الذي خصص لتمثيل لقاء حمورابي بإله الشمس (شمش) حوالي ربع مساحة السطح البصري للمسلة. وذلك فضاء تصويري كافٍ بالنسبة للملك.. للأخبار عن حميمية فرحهُ النفسي. الذي قَدِمَ متحركاً بتأنٍ من اليسار الى اليمين.. ويظهر وهو في سن متقدمة من العمر، بعد ان انهى مشروعه الوطني الكبير بتوحيد البلاد.. مرتدياً غطاء راسه الملكي الانيق.. وتميز بانف ضخم.. وتلك اهم سمة من سمات صورتهِ الشخصية، وتمظهر بقلادة جميلة.. عُقدت من احجار ثمينة زرقاء اللون، مزيناً رسغه الايمن بزوج من الاساور الحجرية الملونة.

ومرتدياً (دشداشة) من قماش رقيق.. تركت يده اليمنى عارية، والتحف فوقها بعباءتهِ الصوفية الخشنة.. بعد ان لفَّ حافتها على ذراعهِ الايسر.. مؤدياً تحيتهُ المعهودة (سلامٌ عليكم) برفع ذراعهِ اليمنى الرشيقة بحركة محترمة..كما اعتدنا ان نفعل ذلك حالياً في المناسبات المختلفة. ثم توقف..حيث الصمت سيد الملكات.

فيما جلس قبالته: سيده الاله (شمش) على كرسي اسطوري نحت بشكل معماري يمثل مدخل احد المعابد، متوجاً برمز الالوهية وهو شكل تاج صيغ بعناية من اربعة ازواج من قرون الثور.. وقد اضاء المكان بفعل حزم اشعة الشمس المنبعثة من كتفيه.. فيما امسك بيده اليمنى رموز السلطة المحفوظة لديهِ: وهي عصا السيادة.. وحبل القياس.. محتفلاً بلقاء ممثلهِ على الارض بزي احتفالي خاص.. نظم بشكل رداء طويل ملون بالاصفر والازرق.. وقد صمّم بشكل طبقات لونية متتالية.. لينساب بكل رقة، مغطياً جسمه.. تاركاً ذراعه الايمن عارياً.

فيما تشّفر الاشكال الحرشفية المتراكبة من اشكال انصاف اقواس..اسفل قدمي (الإله) الى ان لقائه مع سيد ارض الرافدين..كان في منطقة جبلية منعزلة. إذ ان هذه الاشكال.. تمثل علامة عرفية في الكتابة البابلية: تعني الارض الجبلية البعيدة. فنحن هنا بحضرة احتفال اسطوري: هو بذاتهِ نوع من المحرك الذي يشحن اشكالات الحياة بفعل عاطفي يسيّرها. وبفعل تبؤّر الحدث على دائرتهِ الداخلية التي تجاهلت العالم الخارجي، فبدا هذا المشهد التعبيري المبجل: باثاً لخطاب صوفي متصل باعمق مناطق الروح.. فالمكان وتمثيله هنا: مُغيب..ليس كما هو بالوجود المُتعين.. كونه فاقد لتحديده الجغرافي.. على وفق شدة علاقته التي عقدها مع المتخيل او اللاواقع في بنية المشهد.

من الصعب التكهن: هل ان الملك حمورابي..حضر للقاء إله العدالة في الفكر البابلي: بقصد تلاوة مواد شريعته القانونية على مسامعه للحصول على رضاه لتطبيقها على بني البشر.. أم ان دعوته كانت لافهامه مواد الشريعة من قبل الإله..بوصفه المسؤول عن تطبيقها على الأرض. ومهما كان الحل: فان الرغبة السايكولوجية للملك، كانت تواقة للحصول على قبول الإله للقانون.. بغية (تعميده) واكسابه صفة القدسية الملزمة التطبيق على الجميع.. وفي ملمح آخر.. ربما يتسع تشفير المشهد ليكون بمثابة احتفال باعادة تتويج حمورابي: ملكاً على الامبراطورية البابلية من قبل إله القانون: وذلك فعل ربما يحصل في بداية كل عام.

غلقَ الفنان الانشاء التصويري للمشهد.. غلقاً تاماً: بقصد الحفاظ على سرية الكلمات التي تطايرت بدائرة مغلقة.. وخاصة جداً. ورغم تفاوت الوضع الحركي للشخصيتين: ما بين الجلوس والوقوف.. فان صورة الإله تهيمن على المشهد بشكل كبير.. لان محاولة اقتراب حمورابي من تعالي (الماورائي).. بقيت على مسافة، وذلك سر القلق الوجودي الذي عاشه البابليون.

عبدَ البابليون الشمس بذاتها..دون ان يفكروا بخالقها: ويا للخسارة!!، فتصوروها حية، ولها ارادة خاصة، وشخصية محددة. وحين رغبوا بفكرة أنسنتها.. بغية اشراكها في طقوسهم وشعائرهم الاجتماعية المختلفة. فانهم قولبوا صورتها بهيئة بشرية.. وسلحوها بمنظومة متكاملة من الاشكال الرمزية: كالتاج المقرن والشارات القدسية وغيرها. فالبنية الظاهرية لسطح المشهد قد (دمجت) دائرة البشري بدائرة (الماورائي)..لتبث البنية العميقة للنص تشفيرها الدلالي: بان يلبي (الماورائي) إحتياجات الحضور البشري. وذلك مجرد (وهم) احاله المُبدع البابلي بجهده التخيلي..من فكرته المجردة الى تمظهراتهِ المرئية.. التي تؤدي فيها الشخصيتان دورين كونيين.. يقرران فيهما سعادة الانسان في معظم الاحيان.

ضايفت المسلة بين النص المصور والقانون المكتوب، فبعد ان انهى النحات تشكيل مشهده في الاعلى.. جاء دور الكاتب ليسّطر على سطحها البصري الصلب موادها القانونية.. التي كتبت بالخط المسماري.. واللغة البابلية. لم يكن لدى ذلك الكاتب البركاني.. الذي اولاه (حمورابي) كما اولى الادباء والمثقفين كل اهتمامهِ.. سوى شكل مسمار واحد (  ).. وبفعل عبقريتهِ التي تحتفل بها الانسانية كل صباح في متحف اللوفر، ادار شكل المسمار.. وركبّهُ بما لا يحصى من العلامات الكتابية: فابدع الف كلمة وعشرة آلاف مدولول.. وتلك هي فضيلة الشعب البابلي على الفكر الانساني.مهما توالت الايام والسنين.

فيما يتضح رقي الذائقة الجمالية للملك حمورابي.. في خاصية إختيار خامة المسلة.. فسهول بلاد الرافدين واحراشها المائية.. من بابل في الوسط.. وحتى اور في الجنوب: تفتقر لمثل كتلة مسلته الهائلة الحجم والصلبة.. والسوداء اللون. فقد بحث (الملك) عن (الكيف) الذي سيحّل بهِ مشروعه الوطني، في وعاء الخامة.. لتحيا بهِ في وجودها الخاص. لقد كان مصّراً في خاصية التفعيل التعبيري لمشهده المصور وكلماتهِ المحفورة حجراً على حجر.. ليدوم الى الابد: بذات الطريقة التي وجد بها (كلكامش) حلاً لقلقهِ الوجودي.. بان حفر ذاكرتهِ الفكرية عميقاً.. على اسوار الوركاء المنيعة.

تتميز منظومة خطوط المشهد الممثل على سطح المسلة: بحساسية شاعرية وتعبيرية خاصة جداً.. موسقت المشهد بوحدة شكلية متينة. فرغم صلابة السطح البصري للمسلة.. فقد تم تفريغ المساحات (السالبة) في بنية المشهد الى عمق كبير.. مما جعل شخصيات المشهد الدرامي.. تتحرك وكانها امام (ستارة) مسرح، كونها عالية البروز عن ارضيتها.. وتتميز بالتجسيم والوضوح. مع ميل النحات الى (تجسيم) بعض المناطق من التكوين.. التي ترتبط بالتشفير الدلالي عن خطاب المشهد الفكري، وخصوصاً ذراعي الإله والملك.. اللذين درسا دراسة تشريحية علمية ناجحة.. ونحتا برشاقة متناهية الدقة.. الامر الذي حقق تقارباً مع خاصية الأظهارات التقنية في المنحوتات البارزة الآشورية.

كما حقق نحات المسلة البابلي، اولى السمات الفنية لدراسة المنظور على السطح البصري. فقد مثلّ الفنان تاج الإله المقرن.. الذي عُقد من اربعة ازواج من قرون الثور..ركبّت الى بعضها بتراتبية حجمية ايقاعية جميلة: بوضع جانبي على راس الاله ووجههِ الذي مثل بذات الوضع الحركي. بعد ان كان التاج المقرن للأله يمثل بوضع امامي على راس بوضع جانبي..في عصر النهضة السومرية السابق (2112-2004)ق.م.

أما لحيتي الإله والملك الطويلتين.. فقد نحتتا بمسقط نظر امامي.. على وجهيهما الممثلين بوضع جانبي.. وذلك فعل قصدي من قبل الفنان.. بوصف اللحية الطويلة.. هي العلامة الفارقة التي أتاحت الفرصة للشخصيتين.. لاداء بطولة المشهد.

وآخر القول: فقد تمايزت آليات الأظهار على السطح البصري للمسلة.. بنوعين من التقابلات الشكلية.. تنوعت: ما بين ارتفاع كتل الاشكال.. وانخفاض ارضياتها، وخشونة هذه الكتل.. ازاء نعومة المساحات النحتية السالبة للمشهد، وعتمة اخاديد خطوط الاشكال.. مقابل سطوع الانارة على اجزائهِ البارزة. والاهتزاز الإيقاعي العمودي الجميل.. لخطوط عباءة الملك حمورابي.. ازاء صلابة المساحة النحتية التي تشكل.. رداء الإله الملون . فمثل هذا التنوع في بنية المشهد الممثل.. قد شكلّ كذلك وحدتهُ الكلية.. وجعل من مسلة حمورابي عملاً فنياً خالداً.. مع احتفاظهِ بدلالتهِ الفكرية.. بوصفه قانوناً إنسانياً متكاملاً.

حرص الملك حمورابي على ان يشمل خطابه الفكري (القانوني) كل الجماهير، لذلك أمَر بنحت سبع نسخ من مسلتهِ القانونية التي عرضت في المدن البابلية المختلفة، ولم تكتشف سوى واحدة منها حتى الآن.. كما اسلفنا الشرح. والمثير في الموضوع: هو كسرة الحجر الكلسي التي يحتفظ بها المتحف البريطاني.. وارتفاعها 15.2سم.. التي تمثل جزءً مهماً من احدى تلك المسلات.. فرغم التلف الشديد الذي اصاب مشهد السطح البصري الذي تمثله.. فان بامكاننا تمييز صورة الملك بوقفته وسماته الشخصية المتعارف عليها في مسلته الأصلية. وقد سطّرت المواد القانونية على سطح هذه المسلة باللغة السومرية.. ووزعت على خانتين اسفل صورة الملك .

من الصعب تعرف معنى النصوص السومرية.. التي حفرت بأناقة على سطح الحجر الكلسي.. بسبب التلف الكبير الذي اصابها.. واحالها الى معالم تقابلات من التضاريس الجيولوجية..وكانها لوحة من لوحات (مارك توبي) او (هنري ميشو) المعروفة بالكتابة البيضاء.. إذ ان فعل الاحساس بتضاريس السطح البصري.. يُوصلنا الى مقولة (توبي) "مجالنا اليوم ليس قومياً ولا اقليمياً.. إنما هو بالدرجة الاولى.. ادراكنا لهذه الارض الوحيدة.. زمننا زمن عالمي.. فمن الضروري ان يتحول وعي الانسان وضميره ليصبحا عالميين". وتلك هي البنية الاسطورية للملك حمورابي وشريعتهِ الخالدة.

  

أ. د. زهير صاحب

كلية الفنون الجميلة – بغداد

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2113 الأثنين  07 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم