قضايا وآراء

قراءة في كتاب :صلاح جاهين أمير شعراء العامية / ثامر الحاج امين

أمير شعراء العامية " للكاتب محمد بغدادي الذي يعد واحد من المهتمين بتراث صلاح جاهين حيث واكب مسيرته الابداعية لفترة طويلة وأصدر عنه اضافة الى كتابه المذكور كتاب آخر ضم رسومه الكاريكاتيرية مع دراسة عميقة عن مدرسة صلاح جاهين الكاريكاتيرية وتأثيره الريادي على مدرسة الكاريكاتير المصرية والعربية، وقد جاء كتابه الجديد (.. ... امير شعراء العامية ) متوجا بمقدمة للشاعر محمود درويش واصفا ًفيها جاهين ( شاعر القمر والطين، وهو واحد من معالم مصر، يدل عليها وتدل عليه، يجلس على ضفة النيل تمثالا من ضوء، يعجن اسطورته من اليومي، يوزع نفسه في نفوس كثيرة، وينتشر في كل فن ليعثر على الشعر من اللاشعر)، ولم يكن درويش مغاليا في ذلك، فقد تعددت مواهب جاهين وتوزعت في قنوات ثقافية عديدة، فهو شاعر متميز وصحفي متألق ــ بدأ عمله الصحفي عام 1952 ــ ورسام كاريكاتيرتميزت رسومه بالجرأة والقدرة العالية على اجادة الابداع والتفرد  وكذلك من رواد الكتابة لمسرح العرائس، كما انه كتب استعراضات كثيرة للتلفزيون وسيناريو وحوار للعديد من الافلام وتوج ّ ابداعاته هذه بحصوله على وسام العلوم والفنون من الطبقة الاولى .

وصلاح جاهين (1930 ــ 1986) الذي بدأ مشواره الشعري مطلع الخمسينيات متأثراً بالشاعر فؤاد حداد يعد الى جانب سيد حجاب ــ الأبنودي ــ احمد فؤاد نجم،علامة بارزة في ميدان الشعر المصري المكتوب باللغة العامية، لا بل (امير شعراء العامية) وهو لقب اطلقة عليه الناقد الكبير لويس عوض بعد وفاته معتبرا جاهين اصدق تعبيرا عن عصره، ملتزما بقضايا مجتمعه ومدركا عن وعي بدوره كمثقف تجاهه مؤمنا ان (المثقف مسؤول مسؤولية ابوية عن مجتمعه)، ورغم ماحصل عليه جاهين من شهرة كبيرة الا ان المؤلف محمد بغدادي يرى ان شعر جاهين ظل محاطا بالغموض والتجاهل ولم يحظ بالدراسة الكافية  ومشيرا الى ان كتاب " صلاح جاهين .. وعالمه الشعري " الذي كتبه الشاعر محمد سيف لم يكن منصفا لتجربة جاهين الشعرية لما تضمنه ــ على حد تعبير محمد بغدادي ــ من اجتهاد خاطيء في تفسير اشعار جاهين وكذلك التصورات المغلوطة التي اعتبرها جرم بحقه .

تميز جاهين بحسه الوطني والاجتماعي وانحيازه الدائم للبسطاء وانعكس ذلك على معظم بداياته الشعرية كما هو واضح في قصيدته " زي الفلاحين " التي صور فيها معاناة الفلاحين الحقيقية في كفاحهم الشاق ضد الاقطاع حيث الفقر وسوء الصحة والظلم والاجساد الهزيلة التي صارت تشبه سنابل القمح التي تغور في عالمها الطيني وهي دلالة على عيشها المضني :

القمح مش زي الدهب

القمح زي الفلاحين

عيدان نحيلة جدرها بياكل في طين

كما يشير المؤلف الى براءة اختراع جاهين في تخطيط القوالب التقليدية للنظم العامي " الزجل " التي يراها اصبحت عاجزة عن تحمل المضامين الجديدة والمباحث الفكرية والخيالية والتصويرية والايقاعية حيث كان سباقا الى (تقصير البحور والايقاع الشعري الخفبف واختيار بحور غير مطروقة) مستشهدا بـ "السوناتات " وهي واحدة من التجارب التي يعتز بها جاهين معتبرا المؤلف محاولات جاهين هذه مشروع لتجديد الشعر العامي كما هو واضح في مربعات " ابن عروس " :

ماحد خالي من الهم

حتى الحصى في الأراضي

لا له مصارين ولا دم

ولاهو من الهم فاضي

ويفرد " بغدادي " فصلا لقصيدة جاهين " غنوة برمهات " التي يعتبرها تتويج لأعمال الشاعر منذ بداية الخمسينيات، وتلمس في هذه القصيدة قدرات شاعر كبير تمرس على تطويع اللغة ليرسم بها صورا على درجة عالية من الجمال والمكاشفة، كتبها جاهين في اصدق لحظات صدقه مع نفسه، حيث كان عدد كبير من النخبة المصرية ومعظمهم من اصدقاء الشاعر يرزح في معتقل الواحات، عبّر فيها عن حالة الحزن والغضب التي عاشهما الشاعرصارخا بوجه الصمت :

ملعون في كل كتاب ياداء السكوت

ملعون في كل كتاب ياداء الخرس

كما جرب جاهين كتابة " الرباعية "  فكانت اكثر تجاربه عمقا ونضجا، فقد كان يبحث فيها عن اجابة لكثير من الاسئلة الغامضة ذات الطابع الفلسفي العميق التي تتعلق بالحياة والموت والمصير ومجموعة كبيرة من الافكار والقيم النبيلة :

مع ان كل الخلق من أصل طين

وكلهم بينزلوا مغمضين ..

بعد الدقايق والشهور والسنين

تلاقي ناس أشرار وناس طيبين

ويجد المؤلف في قصيدة جاهين " علي اسم مصر " على انها واحدة من القصائد المهمة في تجربة الشاعر و(دفقة حياة قادمة من اللاوعي لايقاظ وبعث واحياء الروح الوطنية للشعب المصري) فقد جاءت محملة بالحب العظيم الذي يضمره الشاعر لمصر التي جرحت كبريائها نكسة الخامس من حزيران عام 1967، ففيها يستعرض الصفحات المضيئة في تاريخ الشعب المصري ويبرر حبه لمصر فيقول :

على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ماشاء

انا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء

بحبها وهي مالكة الأرض شرق وغرب

وبحبها وهي مرمية جريحة حرب

كما تغنى ايضا بالحب والثورة فكتب اجمل الاناشيد المترعة بالأمل والفرح الانساني الجميل " يا اهلا بالمعارك " " محلاك بامصري " و" الله معك " وكذلك في اغانيه الوطنية التي جسدت احلام الثوار وأسهمت في تكوين وجدان اجيال عديدة ابرزها  " والله زمن ياسلاحي " التي كتبها عندما نشبت حرب السويس ووقع العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم القناة عام1956وصارت السلام الوطني المصري والتي تقول :

والله زمن ياسلاحي

اشتقت لك في كفاحي

انطق وقول انا صاحي

ياحرب والله زمان

وبعد فليس هناك من شهادة بحق التجربة الابداعية لصلاح جاهين اغلى من قول الأديب الكبير يحيى حقي عندما قال (أنا سعيد لأنني عشت في عصر صلاح جاهين ( .

 

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2119 الأحد  13 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم