قضايا وآراء

قراءة نقدية في قصيدة "البعد السادس من صلاة الأسوار" / هيام قبلان

 

أرتمي إليكِ

"رذاذاً" من هائماتِ الدّهر؛

إمرأة أصلي ووَصلي،

حارقة دَمي في أنتصاف الأنفاس.

"عُلا" يَ، رَبّتي.. أميرة "البَيت".

زكيَّتي، ذكيّتي،

هاديتي.. راقيتي،

السَّنَدُ المُفدّى.. إشراقة الأمداء،

صَدى الله في كون أحشائي،

فهْدَة العَرين الأول...

الشاعرةُ، الباهرةُ، السّاهرة،

السائرة في توقي:

حافية القلب.... والعينين

والرذاذ..

"ميثاق"ة الغَيبِ والحُضور،

الجاهرةُ بالحريق الأخير،

النازفة في غصن القرارة.

أرفعُكِ بأجفانِ الغَد الأزرق؛

أنتِ ال"أحرقُ" في بروق صَدري التليد،

أنشودة العَصفِ..تاريخُ المَرايا..

مَطالِعُ الرُّسُل،

آية الأنبياء... والأنوار

حدسُ النّدى .. قدسُ الدنيا....

البُعدُ السادسُ من صَلاة الأسوار....

 

"  الروح قبس من نور الله " بين الزمن الغيبي والافتراضي:

قبل دخولي الى قصيدة الشاعر جلال جاف وبعد رحلة خارج الزمان والمكان والتي يتخطى فيها الأبعاد والحواجز ليصل بنا الى " البعد السادس"،لا بد وأن أوضّح للقارىء عنصر الزمن بين العلم والدين من منطلق أنّ البعد الرابع الزمني ليس هو نهاية الأبعاد بل هناك بعد خامس وسادس وسابع ...وما فوق ...

قد يكون الموت هو الطريق الوحيد الذي بامكانه تحريرنا من عالم الماديات بأبعاده الثلاثة (الطول، العرض، والارتفاع) الى عالم الروحانيات، كي نرى ما لم نره من قبل ونسمع ما لا أذن سمعته ومصداقا لقوله تعالى " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم مديد) سورة ق .وفي النص يؤكد شاعرنا لأنّ الروح قبس من نور الله لا تعترف بحواجز الزمان والمكان .أما نحن في حياتنا نعتبر الكون المحسوس بداية الزمان ونتساءل: هل هناك زمان قبل هذا الزمان أو بعده ؟ يقول ابن رشد: " انّ ظواهر بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة تثبت وجود زمان قبل خلق الكون المحسوس وكما يدل عليه قول الله تعالى: (وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء) سورة هود: 7 .أما البخاري فيقول عن النبي صلى الله عليه وسلّم: (كان الله ولم يكن غيره، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض) .وأعود الى الأبعاد، فمفهوم الأبعاد المتعددة الهام رباني علّمه تعالى للانسان عن طريق الرياضيات في المقام الأول، ونظرية الأوتار تطرح فكرة العالمين والملكوت أو السموات السبع وهي ليست خيالا بل نبوءات قائمة على أسس منطق فيزيائي قوي .

نظرية العالمين مثلا قدمت في 1954 من قبل (هيو الفيرت) من جامعة برنيستون طرح من خلالها وجود أكوان (عالمين) أخرى تجاور كوننا وقد تشابهه، لكنها تفرّعت عن بعضها البعض، وهي تسلط الضوء على لفظة العالمين التي انفرد القرآن بذكرها  بقوله تعالى: (رب العالمين) بكثير  من آي الذكر الحكيم لفظة العالمين والتي لها عدة مدلولات بحسب النص الذي يرويها واختلف المفسرون في تحديده، لكن ما ورد في (سورة الفاتحة أو الشعراء) قال فرعون: " وما رب العالمين ؟ قال ربّ السماوات والأرض وما بينهما ان كنتم موقنين " الآيات 23-24 .فاذا وحدنا بين جميع المعاجم بنتيجة واحدة يكون العالم هو الخلق وجمعه العوالم والعالمون أي أصناف الخلق فماذا نفهم من هذا ؟ وللتنويه هم قالوا أصناف والسؤال وفق أي تصنيف،، دلالة على أنّ خلق الله لا يقتصر على علم ثلاثي الأبعاد ولا رباعي الأبعادلأن بذلك تصبح الأصناف حسب المكان وعدد أبعاده وهذا ما يطلق عليه اسم (المراتب الكونية) وبهذا تصبح لكل عالم من العالمين مرتبة مكانية خاصة، وفي لغات أخرى هي الدنيا أي العالم الدنيا فيكون جمعه  العوالم وهي موجودة في نفس الأبعاد " الزمان / والمكان" وأما باختلاف الأبعاد الزمكانية بنقص أو زيادة فلفظة العالمين هي الأنسب ونفهم من قوله " ربّ العالمين " وتعني سيّد وربّ كل ما دونه وكل ما دونه هو (عالم = الدنيا) وبغض النظر عن أبعاده، لذا فسورة (الشعراء) ربّ للسموات والأرض وما بينهما والمقصود قوله تعالى وما بينهما ؟ هل هنا تفرقة في الأبعاد بين كل عالم والذي فوقه أو تحته أم ماذا ؟ وأيّ حاجز بين عالم وآخربعد أن عرف البشر أنّ للعالم ثلاثي أو رباعي الأبعاد " طول وعرض وارتفاع". من هنا وجب القول أن هناك آيات قرآنية تتحدث عن (الزمن الغيبي) الذي سبق خلق السماوات والأرض كما في قوله تعالى: (ان ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثمّ استوى على العرش يدبر ما من شفيع الاّ بعد اذنه، ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون) سورة يونس: 3 . نفهم من ذلك أن خلق العرش متقدّم على خلق السماوات والأرض في الزمن كما سبق في (سورة هود): نستنتج:* الزمن العرش هو الزمن الذي يواكب وجود العرش والماء.

زمن خلق السماوات والأرض هو المدة التي واكبت خلق الكون المحسوس والمعبر عنه في القرآن بستة أيام .

زمن العروج: الزمن الدال على السرعة العظمى التي يعرج فيها الأمراء الى الله أو تعرج الملائكة فيها الى الله عزّ وجل كما يأتي في الآيتين (يدبّر الأمر من السماء الى الأرض ثم يعرج اليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) السجده.

زمن الآخرة: المدة التي تستغرقها مواقف الآخرة مثل الحشر والميزان والمرور على الصراط والحساب وغيرها، المدة التي يقضيها الانسان في الجنة أو النار وهي التي نطلق عليها (مدّة الخلود) فهل فيها الزمن دائم ؟ أم له مدة محدّدة من علم الله ؟ وان قلنا أنه ومن دائم فهل نعتبره مشاركا لله تعالى في أبديته ؟ وفي هذا يقول تعالى عن زمن الخلود: (خالدين فيها أبدا " 22" التوبة،  (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض الاّ ما شاء ربك عطاء غير محذوذ) سورة هود، بعض الناس يعترض على الخلود بقوله تعالى: (كل شيء هلك الاّ وجهه) القصص .وهناك من يفسّر أن خلود الجنة والنار خلود حادث بايجاد الله له ومدته متجددة دوما وبارادة الله وعموما هذه الأزمنة الأربعة: العرش والكون والعروج، والآخرة جميعها مخلوقة لله عزّ وجل.

سأتطرق الى الزمن النفسي والزمن الافتراضي وقد بنى عليهما الشاعر جلال جاف نصه من ناحية فلسفية مقرونة بالتساؤل الذي يتركه للمتلقي .

الزمن النفسي:الفيلسوف هنري برجسون، يعتبر الزمن النفسي كأنه " زمن الديمومة الواقعية "، حين تسبح النفس البشرية بخيالها وتستشعر الزمن بذكرياتها وآلامها، ولذاتها ورغباتها، وهو زمان تتحدد لحظاته وفي الحياة لا صلة له بالمكان لأنّه يعبّر عن الحياة الشعورية .يقول ابن سينا: (ان الزمان يتوقف على النفس التي ليست معزولة عن علاقاتها الخارجية والتأثر بها) ولقد أشار القرآن الكريم الى الزمن النفسي بطوله وقصره حسب الحالات من حزن وفرح وانتظار وخوف، وأشار الى هذا في قول الله تعالى تعبيرا عن السعادة بيوم فتح مكة: (اذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفوجا، فسبّح بحمد ربك واستغفره انه تواب) القصص، نستدل أن لحظات الحزن تمر كأنها دهر كامل بعكس لحظات السعادة التي تمرّبسرعة .

 

* الزمن الافتراضي: هو الزمن الذي يفترضه الذهن وليس له وجود خارجي أو واقعي محسوس وقد أشار القرآن الكريم بقوله سبحانه   قل أرأيتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا الى يوم القيامة، من اله غير الله يأتيكم بضياء، أفلا تسمعون، قل أرأيتم ان جعل الله عليكم النهار سرمدا الى يوم القيامة، من اله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون، ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبلغوا من فضله ولعلكم تشكون) القصص، اذن الله قادر على ايقاف دوران الأرض حول نفسها أمام الشمس فينعدم الاحساس بمرور الزمن لعدم تعاقب الليل والنهار وبهذا فانّ النهار السرمدي والليل السرمدي يمثلان زمنا افتراضيا قد يحدث بقدرة الله تعالى اذا توقفت الأرض عن الحركة .وبما أننا بصدد البعد السادس من صلاة الأسوار، فلا بد لنا من الربط بين أيام الخلق الستة وهذا البعد الذي تشكّل بين يديه على هيئة امرأة بعثت فيه الحياة، وأطلقت له العنان ليتجلّى بكل بهاء الشعر والخروج من الزمكانية وتخطي حاجز العوالم، سأتطرق الى رموزه التي وظفها لاحقا بأسلوب مجازي مدهش . يقول الله في أيام الخلق الستة)  الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام) السجده .وقوله (ان ربكم خلق السماوات والأرض في ستة) الأعراف . انها ستة أزمنة متساوية لا يعلم حقيقة مقدارها الاّ الله، أما افتراض لحظة النهاية الزمنية (قضاء الأمر الالهي لا يقدّر بزمن، لا يوجد وقت بين الأمر والكينونة انه مجرد افتراض، وهنا رمز الى موضوع " الأمر والفناء. يصف الله العرش بلا بداية ولا نهاية محيطا بالمكان والزمان يقول: (وسع كرسيه السماوات والأرض) البقرة .وهنا وبقوله تعالى: (ان ربكم الذي خلق السماوات والأرض في ستة) ورواه مسلم:

خلق التربة يوم السبت

وخلق الجبال يوم الأحد

والشجر يوم الاثنين

وخلق المكروه يوم الثلاثاء

وخلق النور الأربعاء

وبعث الدواب يوم الخميس

وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من النهار بين العصر والليل، وعلى عكس ما ورد في الانجيل والتوراة، ان الله استراح اليوم السابع أي يوم السبت لدى اليهود .

ملاحظة: يمكنكم مراجعة

كتاب الاشارات القرآنية (للسرعة العظمى وتانيبية

المؤلف: د. منصور محمد حسب (الزمان بين العلم والقرآن) دار الآفاق العلمية 1995 القاهرة

القرآن الكريم والعلم الحديث ص97 الهيئة العامة للكتاب 1991 باللغتين العربية والانكليزية .

ونأتي الى النازفة في غصن القرارة، الى المرأة الأصل، والتي يرتمي اليها " رذاذا " بعد أن هام الدهر به،،امرأة العلا والسموّ، ربة العرش عرش الماء وبيت الشعر، هي الشاعرة التي تجيء اليه كنجمة تهديه في دربه، شعلة نور وضوء،بعرشها على الماء وكأننا هنا بالشاعر يريد تخليدها بمساواتها دون زيادة أو نقصان بعظمة الخالق، حين يقول: صَدى الله في كون أحشائي .

ونتساءل ان كانت هي الصدى في أحشائه فهي اذن البعث منه، هي الصوت الباقي من بعده السادس الذي فيه يرى ما لم يره أحد ويسمع ما لم يسمع من قبل وهنا يتحررالشاعر من عالم الماديات ليسمو الى عالم الروحانيات، كما البدء يصور لنا أنها " حافية القلب والعينين" يعريها من كل شيء كما بداية الخلق والحفاء بمعناه المجازي يرمز الى ملامسة الأرض من رمل وماء، من سخونة وبرودة، ولم يختر شاعرنا الأرض فحسب بل اختار القلب، هنا يعلو بها الى عالمه الآخر، عالمه الروحاني، حيث يوظّف عنصر الحواس باضافته العين " حافية القلب والعين" تعبيرا عن الطهارة هي التي لم تحب ولم تر الاّه هذا هو عالمه " الزمن الغيبي" والذي فيه العرش سبق خلق السماوات والأرض وكانت هي البدء بميثاق بين الغياب والحضور وعن أي ميثاق يتحدث الشاعر ان لم يكن الزمن الغيبي الذي سبق هذا الزمن، وان عدنا الى البعد السادس نراه يربط بين الأيام الستة للخلق وبين  زمن العرش والماء والذي ورد في سورة هود، وان كانت أنثاه قد أشعلت النيران بجسده ولامست روحه بنيرانها فأحرقته حبا وشوقا فقد اختارت الجهر بذلك، علانية من غياب وحضور وحريق آخر،، لتنزف فيه في " غصن القرارة" هذا النزف ما هو الاّ التوحّد بالدم، فيختار لها أجفانه يحملها لغده الأزرق،كم من المشاعر والشفافية في هذه الصورة الجمالية الرائعة يحملها على أجفانه ليحميها ويوصلها الى بر الأمان الى أزرقه الصافي النقي،وهي " الأحرق " وصفة التفضيل هنا قد يكون لها علاقة باحساس الشاعر بتاريخ مراياه وعمره التليد،:

 أنشودة العَصفِ..تاريخُ المَرايا..

مَطالِعُ الرُّسُل،

آية الأنبياء... والأنوار

حدسُ النّدى .. قدسُ الدنيا....

البُعدُ السادسُ من صَلاة الأسوار....

هي قبس من نور الله،، آية من آيات الأنبياء،، هي الحب المقدّس والبعد السادس الذي لن يتوقف عنده بل سيتخطاه الى سابع السماوات بأنشودة عصفت به وكانت مطلع الرّسل، أنثاه بدنياه القدسية .

الشاعر جلال جاف (الأزرق)  وقد اخترت لها أن تكون آية تجسّد الطهر والعفاف في زمن قد لا تطأه أقدام العابرين بتاريخ مراياك، انه اليوم الأخير للخلق الذي زاحمت فيه " التوراة والانجيل" لتؤكّد أن الله لا يحتاج لراحة يوم السبت فهو دائم الحركة، دائم الحضور، في يومه السادس أكمل عملية الخلق بآدم ما بين العصر والليل ...لتكون هديته " حدس الندى وقدس الدنيا " هي " النازفة في غصن القرارة"

 

تحية الابداع: هيام مصطفى قبلان

 

للاطلاع

البُعدُ "السّادس" من صَلاة الأسوار / جلال جاف

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2121 الثلاثاء  15 / 05 / 2012)

في المثقف اليوم