قضايا وآراء

تداعيات في المطلق : قراءة في أول أعمال محمد علي سلامة / صالح الرزوق

ومنذ صلاح جاهين كان الهدف من جميع القصائد أن تخاطب  أوسع شريحة من القراء. وهذا ينطبق على المجموعة الشعرية (تداعيات في المطلق)، باكورة أعمال الشاعر المصري الشاب محمد علي سلامة، التي صدرت من أيام في القاهرة عن مؤسسة النرد للثقافة والفنون.

لم تحاول هذه القصائد أن تبني حداثتها أو خطها النخبوي فوق أرض غير مشاع، ومنذ أول بيت شعر وحتى آخر نقطة كانت الأفكار غير محصنة ضد القراءة. بمعنى أن الصور والتراكيب اختارت عن عمد أن تكون شفافة ومفهومة ولا تحتاج لمسطرة خاصة للتأويل ولفك الألغاز والأحاجي.

و لئن لم يبعدها هذا كثيرا عن أسلوبيتها، فهو في نفس الوقت لم يحرمها من شرف الانتماء لحداثة طليعية وجماهيرية، لكل كلمة فيها رنين خاص في الذهن مع إشارة لإشكالية أو لإحدى مسائل الموجود. وهو هنا الواقع ومضامينه.

و لتحقيق هذه المعادلة الصعبة انحاز محمد علي سلامة لأسلوب الحداثة بنسختها الوجودية، دون أن يكون له إنجيل خاص. بمعنى أنه لم يرتبط لا بتعاليم المعلم الأول سارتر، ولا حتى بالصيغة التي أسس لها كامو في أطروحته عن الإنسان المتمرد، أو الإنسان العدمي الذي ينظر للعالم من فوق أدوات التواصل.

لقد ساعدته هذه الحيرة تجاه الوجود ليكون غير حازم أيضا تجاه ما يحب سومرست موم أن يدعوه باسم (القيد البشري)، وهو التزام النفس – مادة بقضايا الذهن والروح – الكوجيتو، مصدر شقائنا ومصدر شكنا بالعالم الحسي وخطواتنا الضائعة على دروب الوجود الصامت، حيث (لا شيء) كما ورد في قصيدة مملكة الجنون (ص 240)، وحيث نعيش (بعيون الظلم) كما ورد في قصيدة (صوت اللعنة – ص 95). أو حيث الضوضاء والخراب الملعون يسكن الحجرة كما قال في  قصيدة (مجهول أحمق – ص 81).

و لكن في نفس الوقت، دون السقوط في رومنسيات سخيفة لا تستطيع أن تستوعب المتغيرات، سمحت له هذه الشعرية الوجودية، أو هذه الحساسية المفرطة بعاطفيتها وتألمها، الانتباه لعموميات التفاصيل، ولا سيما من طرف المعاناة وطرف إيضاح ما هو مبهم وغير محدد.. ما هو مطلق وغير مشخصن. وهذا قاده للتوغل في المسائل الملحة ولكن الآجلة كالبحث عن العدم في غير الموجودات أو في ميتافيزياء الواقع المادي المؤجل. وهو ما يدعوه باسم : (خفايا الصلة الأولى – من قصيدة إسقاط فلسفي – ص 34).

 

و مع ذلك لم يكن بوسعه أن يتناسى طبيعة معاناة الموصوف، ومن غير كنايات ولا حتى رموز. وهكذا سلط حزمة من الأضواء الساطعة على مصادر الجوع والشقاء والألم وعلى أسباب السقوط والهزيمة. وبعد ذلك على طبيعة الحرمان السياسي والاجتماعي.

يقول في قصيدة (صورة ضمنية للمتشابه – ص 210):

ستكتب عن جراح عديدة .. ..

تدل كل معالمك على أنك في مغبة حزن مرير،

و أنت تودع شمسك الأبدية،

لتحترق معالم العالم داخل حفنة صراع آدمي..

و هذا أسبغ على المجموعة كلها نبرة عالية بنغمتين.

الأولى، نغمة العتاب والندب على عالم يموت بالتقسيط.

و الثانية، نغمة هجاء ضد طبيعة تعاني من الذبول والفشل مع الشك بمطلق الحالة وبسداد المعنى.

إن (تداعيات في المطلق) لمحمد علي سلامة ليست إلا مغامرة متميزة لشاب من جيل غاضب، ينظر بعيون كالحة ومرعوبة لهذا العالم الآسف والضائع بين التابوات والممنوعات، والذي تتصارع فيه مصادر الرذيلة والقهر مع نقاط ضوء شحيح...

 

أيار 2012 

  

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2124 الجمعة  18 / 05 / 2012)

 

في المثقف اليوم