قضايا وآراء

المنحازة لمقام الماء (السائدة في مطلق الريح) / للشاعر جلال جاف / هيام قبلان

 

أركنُ في حنّاء كفيكِ

"حرّاقة" كَفي، حرّاكة البَدء،

رائدة التيّار..أبَدُ القرارة،

رائقة الرّذاذ.. أبَدُ الشّرارة،

وَصيفة المسك المَخملي.

أتنفسُ رَيعانَ أنفاسك،

"أناثَ" عَطرك،

غَواية الهبوب....

قناصة الحَرائق،

سلطانة العَروش.

أتشرّبُ من بيتِ مَقدسك الحَرام،

‌أعتَلي أدراجَ كتابكِ الحَنيف

فيضاً من آيات التوق،

إرثاً من ميثاق المَساءات،

وعداُ من "شلال" الصباحات؛

صاعقة الفتوح.. قامتكِ الخَرق.

إقتنصي:

نفسي، نفائسي، غدي وأمسي؛

المُطلقة في مساراتِ المَطر،

السائدة في مُطلق الرّيح،

المُعَمَّدة بخُبلي الأخير

النديّة في قلب الهَجير.

أنتهي اليك برقاً من وعدِ الكاهنات؛

الحالمة بالبخور.. التائقة للعبور،

الواهبة.. اللاهبة، الراهبة،

المنحازة لمقام الماء،

الحارقة في "الحاء"

البارقة في "الباء"

أحبُّكِ..

زرقاء....

 

سأقتنص من هذا السموّ غفلة الخبل الأخير للشاعر الأزرق كي أشعر بلذّة النار الكاوية " الحرّاقة" في كفّه تتسرّب بنشوة الى البدء، الى المتعة المبّطنة التي تعتري شاعرنا وهو يقوم بتخبيل قوى الوعي ليؤكّد أنه يجد لذة بتصريحه عن حبه، عن احساسه بالتسليم لما يفعله به عشقه للماء المطلق ولسيدة الريح، هي جرأة حين يسلّم الواحد منا تسليما كاملا باعترافه ربما " بالخطيئة" ليسوقنا الى اتيان الحرام ومن ثم الوقوف على أعتاب " المقام " مستغفرا، بعد تلذّذه بالرغبة في الشقاء من أجلها، وبين الرغبة والخيبة وميدان الشقاء والحب والذي لا مهرب منه الاّ بتخبيل قوى الوعي لفضح النفس وهتك التستّر بكل علله، هي فلسفة في تفاهة الحياة مقابل الوقوف بجلال أمام " وصيفة المسك المخملي" التي تعيده الى البدء بتطهير النفس من شوائبها،وفي دراستي هذه أعود الى التناص من آيات قرآنية وسور لها علاقة بالرمز والتأويل والأبعاد المدهشة التي لمّح اليها شاعرنا في القصيدة، ربما في ذلك أخترق عالما آخر من تساؤلات أثارت فضولي وأنا أتناول النص الذي أمامي: ما العلاقة بين " مقام الماء" الذي أشار اليه الشاعر في أول القصيدة وبين " بيت الله الحرام " ؟ ما العلاقة بين تناصه من تاريخ الاسلام وبين " الماء المطلق" والتسليم واقامة التكبير وبين التحريم والتحليل ؟ ما العلاقة بين " الزمزمة" أي الصوت البعيد والذي يسمع له دوي، وبين صوت الماء ؟؟

في عملية التطهير يليق بنا أن نسأل هل يستطيع التراب مثلا والذي صفته التلويث أن يقوم مقام الماء والذي وظيفته التطهير والتنظيف ؟ قال الله تعالى: "تيمّموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهّركم " المائدة / الآية 6 .أراد هنا الاخبار أنه يريد أن يطهرنا بالتراب كما يطهّرنا بالماء . وفي صحيح مسلم عن حذيفة أنه قال:" فضّلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض مسجدا وتربتها لنا طهورا، " فقد تبيّن أنّ الله جعل الأرض لأمته طهورا كما جعل الماء طهورا، ومن قال: " انّ التراب لا يطهّر من الحدث فقد خالف الكتائب والسنة، واذا كان مطهّرا من الحدث امتنع أن يكون الحدث باقيا "،، مع أنّ طهّر المسلمين بالتيمّم من الحدث،، فالتيمم رافع الحدث مطهرا لصاحبه لكن رفع مؤقّت الى أن يقدر على استعمال الماء فانّه بدل عن الماء فهو مطهّر ما دام الماء متعذّرا . ومن هنا سأبدأ فالعلاقة بين تطهير النفس والجسد ومقام الماء الذي يرفعنا اليه الشاعر في القصيدة لنقف حائرين بين التشكيك بين التحريم والتحليل، وبين اقامة التكبير والتسليم، واستعانة الشاعر في النص بدلالات لها علاقة بآيات من القرآن الكريم أرفعها اليكم خلال هذه الرحلة بالعودة الى التاريخ الاسلامي .

لقنّاصة الحرائق وسلطانة العروش يقول شاعرنا:

" أتشرّبُ من بيتِ مَقدسك الحَرام،

‌أعتَلي أدراجَ كتابكِ الحَنيف

فيضاً من آيات التوق،

إرثاً من ميثاق المَساءات،

وعداُ من "شلال" الصباحات؛

صاعقة الفتوح.. قامتكِ الخَرق.

" بيت مقدسك الحرام": أعود بهذا الى بيت الله الحرام وقصة معاناة سيدنا ابراهيم واسماعيل عليهما السلام عند بناء بيت الله الحرام والذي يعتبر تاريخ الاسلام، ومأوى لكل القلوب الطائعة، ومعقد اجتماع الأمّة ورمز شعائر الدين وانشراحا للصدر،، وهذا التشرّب من بيت مقدسها له علاقة بمقام ابراهيم عليه السلام وب" مقام الماء" عند الشاعر حين يعتلي أدراج الكتاب الحنيف فتفيض آيات التوق داخله كشلال الصباحات وصاعقة الفتوحات وقامتها: " قامتك الخرق" .. هنا الشاعر وبكل اتقان وذكاء يعيد القارىء الى وضع الحجر الأول لميثاق المساءات،لتقتنصة الواهبة اللاهبة " المنحازة لمقام الماء" وينتهي اليها برقا، وعودة الى بيت مقدسها الحرام ولا بد للدخوا الى اسقاطات من التاريخ للربط بين المقامين " مقام الماء / ومقام ابراهيم عليه السلام":

?  ?الحجر: وبكسر الحاء حين حجرت قريش على الموضع ليعلم من ذلك أنه من الكعبة وأنّ أمر الصلاة فيه كأمكر الصلاة في البيت، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: " ما أبالي أفي الحجر صلّيت أم في جوف الكعبة " .

?  ?مقام ابراهيم عليه السلام: الحجر الأثري الذي قام عليه ابراهيم عند بناء الكعبة المشرفة، عندما ارتفع الماء و( المقام) وأصله من الجنة، لما روى الفاكهي باسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " المقام من جوهر الجنة "، أما صفة الحجر والذي نحن بصدده: فهو رخو من نوع حجر الماء، لونه بين البياض والسواد والصفرة، وهو مربع الشكل وذرعه: ذراع ( أي حوال نصف متر ) .

ألميزاب: هو مصبّ ماء المطر الذي على سطح الكعبة، وقد روى الأزرقي رحمه الله باسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " صلوا في مصلى الأخيار، واشربوا من شراب الأبرار، قيل وما مصلى الأخيار ؟ قال تحت الميزاب، قيل وما شراب الأبرار ؟ قال ماء زمزم، فالتفسير لشراب الأبرار بماء زمزم فيه ردّ ما يفعله بعض العوام من حرصهم على شرب ماء المطر الذي ينزل من الميزاب، وللاضافة زمزم البئر التي تقع جنوبي مقام ابراهيم في المسجد الحرام، واشتقاقه من ( الزمزمة) أيّ الصوت مطلقا، الصوت البعيد حين يسمع له دوي وقال ابن قتيبة: " ولا أراهم قالوا زمزم الاّ لصوت الماء حين ظهر " أ ه . ويليق بالمقام وبالمكان أن أسرد باختصار قصة سيدنا ابراهيم عليه السلام واسماعيل في رحلتهما والمعاناة في قصتهما، حين اشتدّ العطش باسماعيل جرت أمّه " هاجر" تبحث عن الماء وذهب ابراهيم وترك لها وليدها مع بعض الزاد والماء، لم تجد شيئا، فأرسل الله جبريل وحفر على موضع بئر زمزم ومن فضائل زمزم أنّ جبريل غسل به صدر النبي بعد شقه وقال: " ماء زمزم لما شرب له "22،، وقال " خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام من الطعم وشفاء من السقم "، وشاعرنا في قصيدته يقول: " اقتنصي نفسي نفائسي، غدي وأمسي، المطلقة في مسارات المطر، السائدة في مطلق الريح ". اذن هي رائقة الرذاذ،يتنفّس منها، من ريعان أنفاسها، كل الاناث في عطرها، هي سلطانة العرش، النديّة في قلب الهجير، الشافية بمائها الطهور، واهبة الضوء.

الملتزم: وهو مكان الالتزم في الكعبة، فيما بين الحجر الأسود وباب الكعبة المشرفة، وهو أن يضع صدره وذراعيه وكفيه بين الركن والباب ويسن عند الالتزام الدعاء والتضرّع الى الله . وبهذا الصدد يقال: " أنّ طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطهور وان أمكنت النظافة بغيره وانّ التيمّم وليس فيه نظافة حسيّة يقوم مقام الطهارة بالماء المطهر، وهكذا الصوم والحج والمعنى هنا من حكمة التعبّد العامة، الانقياد لأوامر الله تعالى وأفراده بالخضوع والتعظيم لجلاله والتوجه اليه، وهذا المقدار لا يعطي علة خاصة ويفهم منها حكم خاص وما دام الماء متعذرا .

" الواهبة، اللاهبة، الراهبة، المنحازة لمقام الماء،الحارقة في " الحاء" البارقة في " الباء" أحبّك،، زرقاء " ...وهي كلّ هذا يا سيدي، أيها الشاعر الفذّ، الخارج من ثقب المكان الى ما وراء الطبيعة، الى كون يتجمّل بالسموّ والبهاء، ينغمس في تنفّسك للروحانيات بعيدا عن المادة، وبكل هذا الخبل استطعت أن تطهّر الجسد الذي يسير على قدمين لتركن " حرّاقة " كفك في حنّاء كفيها لتكون هي " رائدة التيار، وأبد القرارة وأبد الشرارة"،، رباه كم من عظمة التجلّي والطهر في سياق المعنى في لجم الحروف التي تنهال كمطر من صمت وبكل خشوع،، ترنو اليك من نهاية رحلة هنا لتنحاز الى " مقام الماء" علّها تعتلي أدراج الكتاب وميثاق المساءات، وبصوت من همس الماء تعبر اليك .

شاعرنا جلال جاف (الأزرق)، هكذا وبكل تناقضاتها تحبها زرقااااااء ...!

مع التقديرلمبدع مختلف: هيام مصطفى قبلان

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد:2126الأحد  20 / 05 / 2012)

في المثقف اليوم