قضايا وآراء

مفهوم (المكان والمنظور) في الفنون التشكيلية العراقية القديمة / حكمت مهدي جبار

من وجهة نظر فنية .ومع ان بعض المفكرين ناقشوا موضوعة المكان من وجهة نظر الأدب والمسرح والسينما والرواية، الا ان تلك المناقشات لم تكن شمولية وكافية فيما يتعلق بالفن التشكيلي الأولي القديم وأن محاولة فهم المنجز الأبداعي التشكيلي في تلك العصور مقترن بالمكان كمصطلح فني.وبذلك فأننا يمكننا القول ان مفهوم (المكان) من خلال وجهة نظر مؤرخي الفن القديم يرتبط بالزمان الذي انجز فيه العمل الفني آنذاك.فيعرف وفق العصر الذي وجد فيه مقترنا بذلك المنجز.وذلك دليل قاطع بأرتباط (المكان بالزمان) أرتباطا عضويا .

أننا لو أردنا تتبع خط تطور الفنون التشكيلية العراقية عبر العصور،  سنجد أن البدايات كانت غير (عضوية) أساسا.ونقصد بـ (غيرالعضوية) هي عدم أستيعاب النسبة والتناسب للأشكال والأجسام وتحديدا البشر والحيوانات،  بمثل ما كان يهتم به الأغريق مثلا بالغايات الجمالية الدقيقة.فأتجه الفن التشكيلي العراقي القديم وخاصة في مراحل تطوره الى (الترميز).

و(الأيحائية) و(التجريد) بعيدا عن التناسب الجمالي وعن القواعد

(المنظورية) بأعتبار ان مفهوم (المكان) لايمكن تحققه جماليا دون مفهوم (المنظور).

وأذا كان (المكان) فنيا يعرف كخلفية تنفذ فيها المنجزات ألأبداعية التشكيلية، أو هو كالوعاء الذي يحوي ألأشياء.فأن (المنظور) هو مجموعة الحلول التي يتوصل اليها الفنان بالممارسة للمنجز التشكيلي والتي بواسطتها يتمكن من تحقيق العمق (البعد الثالث) الذي يشاهد ويحس على سطح اللوحة في الرسم وعلى سطح الجدار في النحت البارز . وهنا لم يلتفت الفنان العراقي القديم الى (المكان) كضرورة مكملة لمنجزه التشكيلي نحتا أو رسما أو فخارا أو عمارة. وكذلك لم تكن الحسابات (المنظورية) قائمة في التنفيذ.بل كانت هناك (عفوية) ولنقل (فطرة فنية) .

في محلولة للتوصل الى أيجاد أدراك لـ (ألمكان) من قبل الفنان العراقي القديم ومن خلال أطلاعنا على الفن الآشوري والذي تميز بالأناقة وألأهتمام بالعمل الفني سيما وأن المكان برز واضحا عند (القصور الآشورية) في

(نينوى) نجد أن (ألألواح) المصفوفة الى جانب بعضها البعض على طول أحد قاعات القصر الآشوري توحي بتحرر كبير من قيود (المكان) من خلال تعدد حركات الشخوص الغير محدودة .حيث حركات الصيد وتقافز الكلاب وانتفاض رؤوس الخيول وحركة عجلات العربات التي بدت على العمل وقد أوكلت بطولتها وقيادتها الى (آشور بانيبال) الملك العظيم.ثم تشاهد طعن الأسود بالرماح ورميها بالنبال ومسك بعضها من ذيلها من قبل رجال الحمايات والحراس بينما يقف الملك متباهيا متبخترا مزهوا بالصيد والنصر قريبا من مذبح الآلهة .هذه المواضيع الفنية المذهلة تبدو وكأن الفنان الآشوري يشغل كل

الأرض(المكان) من خلال تأكيداته على حركات الأجسام المطاردة والمطاردة بأجواء صاخبة عنيفة حيث صهيل الخيل وزئير الأسود وصراخ الرجال في محاولة لتجاوز حدود (المكان والزمان).

ورغم ان المشاهد يقف في رواق غرفة، فأنه يشعر بأن الدنيا تتحرك.وأن الصخب لم يتوقف وهو منذهل بقوة التعبير الفني للجداريات الآشورية الرائعة.ولا تحتاج القاعة الى أن تتحول الى ساحة فائرة بالحركة الا الى موسيقى تصويرية للعمل الفني لتزيد من شعورك بحيوية الحياة الآشورية .

أنك عندما تدخل قاعة صيد الحيوانات في القصر الآشوري ترى نفسك وكأنك تدخل احدى الأماكن المليئة بالحيوانات مطاردة من قبل صيادون ورماة مهرة.فتشعر بأنعدام حدود (المكان) وترجع الى تلك العصور الموغلة في القدم.وبذلك يتفوق الأبداع الأشوري على الضوابط (المنظورية) ويخفف من حدة شروط الشكل ومشكلة الأعماق والأبعاد .فلا تشعر بوجود خطأ منظوري أو تناسبي في العلاقة في توزيع الأشكال رغم انك تشاهد ان كل الشخوص يقفون على خط أمامي واحد في الجدارية(اللوحة) .وسر جمالية الجدارية (اللوحة) هو أن الأشكال تتحرك دائريا على جدران القاعة كحركة (بانورامية) حتى تنخدع بوجود شعور بحالة (منظورية) بسبب دقة الأجزاء الهندسية التي عوضت عن (قواعد المنظور).

صحيح أن الفنان التشكيلي العراقي القديم قد غفل شروط (المنظور)كما غفله الفنانون من ألأمم الأخرى .ولم يلتفت لأهمية وجود (المكان) وضرورات

(الفضاء) الفنية، الا أن جذور الفن العراقي أبتداءاً من السومري وبأساليبه الأبداعية ومن خلال تتابع بناء المعابد والزقورات ووضع التماثيل وفق متوالية فنية معمارية وتوزيعها مابين الشكل الصغير الى الشكل ألأكبر، بالأضافة الى النقوش على جدران الفخاريات والمعابد برموز الدوائر والحلقات وتعرجات خطوط الماء وسلاسل الجبال، كلها عوضت عن شروط المنظور بل سرقت الأعجاب وأذهلت الدنيا حتى يومنا هذا.

ومع ذلك فقد أهتم الفنان العراقي القديم بـ (جماليات المكان) وهو يعالج سطوح وغرف وجدران المعابد.وحاول التخلص من مشكلة الفضاء والأحساس بالفراغ. فمعبد (أينانا) في (الوركاء) الذي بناه (*)الملك (الكشي – كارا

أينداش) كان منعزلا يعاني من الفراغ.فقام الفنانون آنذاك بتزيين جدرانه الأربعة بتماثيل على طريقة التكراروالتتابع في محاولة لتعزيز الحركة والتواصل والبقاء.فضلا عن وضع رموز وأشكال هندسية غيرت وجه المعبد من

(مكان) جامد الى (مكان جمالي).

أما الرسومات الجدارية على معابد مدينة (ماري) في العصر البابلي القديم فقد عبرت عن وجود أحساس كبير بـ (جماليات المكان) من خلال الأهتمام بالنقوش الهندسية وتحويله الى (مكان فني). فيشعر المشاهد بوجود الحركة والحيوية.

أن رؤية الفنان العراقي القديم الى المكان لم تكن رؤية فنية مجردة تعتمد الجمال الخارجي .ففي الوقت الذي كان فيه الفنان الأغريقي غارقا بالجماليات المادية البديعة ملتزما بقواعد البعد والقرب والتناسب المثالي في الجسد الأنساني فأن الفنان العراقي كان منشغلا بـ (الفكرة) التي تختفي خلف (الشكل) وكانت رؤيته (منظورية ذاتية خاصة) تتحكم فيها الضوابط الدينية وشروط المعبد وألتزامات الكهنة.

 

.........................

مجلة آفاق عربية – العدد الأول – 1975

المعجم الفلسفي المختصر – ترجمة توفيق سلوم – كتاب مستنسخ- عن دار التقدم – موسكو – 1986 المنظور – كتاب منهجي لأكاديمية الفنون الجميلة – جامعة بغداد – أسماعيل الشيخلي – جماليات المكان – غاستون باشلار – اصدارات مجلة الأقلام – 1980 – ترجمة – غالب هلسا

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2126 الأحد  20 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم