قضايا وآراء

تسيس الاسلام وأسلمة السياسة .. الى أين؟ / عبد الجبار العبيدي

الى ان ختم متكاملا برسالة محمد(ص)، يقول الحق: (انا أوحينا اليك كما أوحينا الى نوحٍ والنبيين من بعده ).الأسلام هو دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهو منظومة المثل العليا واجبة التنفيذ، وهو العروة الوثقى التي لا أنفصام لها، وهو القيم السماوية، وهو العهد، وهوالسراط المستقيم، يقول الحق: (....وأوفوا بالعهد ان العهد كان مسؤولا ). فالعهد هو القانون الاخلاقي الجامع لكل القيم الاخرى.

اذا كان الاسلام محكوم بهذه التوجهات الربانية العظيمة، فنحن بحاجة اليوم الى تصحيح كثير من المفاهيم، وخاصة ما يتعلق منها بأمور العقيدة وحقوق الناس اجمعين.فكيف يجب علينا ان نتعامل مع انفسنا والناس الأخرين.

فيما يخص امور العقيدة علينا ان نفهم ان حرية الاختيار فيها هو الاساس ولا أكراه في الدين، لكون الاسلام هو ميثاق للأنسانية جمعاء، لذا فالايمان في العقيدة رضى واختيار اي طاعة ومعصية دون اجبار.

اما المستوى الثاني فهو قبول الاختيار (الشورى) وهي اسلوب التعامل بين المؤمنين على مستوى شخصي بحت من اقامة الشعائر او الشورى في التنفيذ، يقول الحق: وأمرهم شورى بينهم ).

حين ترك لنا القرآن قانون الاختيار لم يتركه أعتباطاً، بل لكونه قانوناً للتطور(الصيرورة) والموت، (انا خلقنا الموت والحياة..) فكلاهما خلق وتطور وفناء، هو القانون الثابت الذي لا يتغير.وهذا ما يجب ان نضعه في حساباتنا حين نريد بناء دولة ومجتمع وأقتصاد وسياسة. لأن الدولة كغيرها من عناصر الكون تتغير من شكل الى أخر، والوعي الجمعي عند الناس يتغير من مكان الى اخر ومن زمن الى أخر. لذا فالأيمان والتجريد يتطور الى الامام بحسب آلية الزمان والمكان، يقول الحق : (قل سيروا في الارض فأنظروا كيف بدأ الخلق).

لذا ففرضية الثبات في العرف والتشريع دون تغيير، هو الشرك بعينه لان الله لم يخلق لنا اسلاما مقولبا بقالب واحد غير قابل للتغيير، وهذا ما وقعت به السلفية حين اعتمدت التقليد واهملت الزمان والمكان واغتالت التاريخ واسقطت العقل في التفكير. بعد ان فشلت ان تفهم ان تطور العلاقات الانتاجية والاقتصادية والاعراف والتقاليد كلها من ظواهر التوحيد والألوهية والربوبية معا، لذا فالتوحيد يكمن في بنية المجتمع المتطور دوما وليس في الانغلاقية وعدم التجديد .

الايمان من عدمة هو اختيار وليس اكراها، لذا فالحرية في الاختيار هي اساسا للمثل العليا التي لا ترى فيه اكراها بين الجميع .فاذا رأيت مجتمعا للمؤمنين بالله ايمانهم جاء بملء أرادتهم

 

2

والملحدون ملحدون بملء ارادتهم، ولا مخاصمة بينهم، فأعلم ان كلمة الله في هذا المجتمع هي العليا يقول الحق: (لكم دينكم ولي دين )..وان كل ماتم من اسلمة الناس بالأكراه فهو مخالف للعقيدة والتشريع فكيف قبلنا بأسلام السيف. ان هيمنة قوة الاكراه من جانب على اخر هو الذي يخلق الكراهية والاستبداد .فاذا كانت حرية الاختيار بهذا المستوى العقائدي، فكيف يجيز لنا التنافر والتباعد بيننا بمجرد اختلافنا في الرأي او المذهب او الاعتقاد، ومن قال لك ان في الاسلام مذاهب، هذه مذاهب السلطة المخترعة لا مذاهب الدين.فالمذهب اجتهاد شخصي يتغير بتغير الازمان، بينما الدين آيديولوجيا ثابتة تتطور بتطور الأزمان.اعتقد ان مجتمعا يؤمن بالتفرقة بين المسلم والملحد وبين المسلم والمسلم هم مجتمع فيه كلمة الله هي السفلى.

لذا، فان اساس الاسس في اي وعي جمعي، يريد بناء دولة متآلفة هو الحرية، وهي كلمة الله العليا، وان الله خلق الناس عباداً وليس عبيداً، وان العبادية هي الحرية والعبودية هي الاسعباد، فأذا ما طبقت هذه النظرية في المجتمع الواحد تظهر أهمية الأسلام كميثاق. ليس كبندا في دستور ولا مادة في قانون، وانما ايمان طوعي لا يمكن لمجتمع أنساني ان يعيش بدونه، فهو ميثاق التنازل والقبول الطوعي للحد من الحرية ولمعايشة الناس بمفهوم انسانية الانسان الموهوبة له من الله.

فأذا كان ميثاق الدولة مقيدا بالدستور والقانون داخل الدولة الواحدة، فان ميثاق الاسلام هو ميثاق انساني لا يتغير من مكان الى اخر. هنا يصبح المواطن حرا في التصرف دون اكراه، والمحبة تسود بين المواطنين دون جبر او اجبار، فلا احد يعيب على الاخر تصرفاته الا اذا كانت مجافية للعرف والقانون. وهذا هوالقانون الاخلاقي المتعارف عليه اليوم في الدول المتقدمة كامريكا واوربا واليابان وغيرها.

لذا نقول هل بأمكان اي دولة ملحدة وبلا دين كاليابان والصين –وهما في قمة التقدم اليوم- مثلا ان تصدرا تشريعات مخالفة لحقوق الناس مثل الغش في الكيل والميزان او نقض العهود،، او قانون يجيز تزوير الشهادات العلمية والحكومية ويعفى المزور من متابعة القانون؟ طبعا لا، لماذا؟ لأن هذه الامورهي من المثل العلياالانسانية التي يدافع عنها المجتمع نفسه وليس الدستور او القانون.فما بالك نحن نمارس الغش والسرقة والتزوير بقانون، فأين المبادىء في اسلامنا الذي زيفوه ام في الحادهم الذي اقتنعوا به وثبتوه الذي لا يغيير في سلوكهم ومنهجيتهم في الحياة.

لذا فمن الخطأأخضاع الاسلام والمثل العليا لعمليات التسيس ووضع النصوص القانونية في اتباعها، لان السياسة هي فن تدبير المصالح المتنازعة، هنا يصبح التسيس فيه ضياع للاسلام والسياسة معاً.وهذه هي مشكلتنا التي لم نستطع فهمها الى اليوم، والتفريق بين معنى السياسة ومنهج السياسة والمثل العليا الملزمة التطبيق خارج مفهوم السياسة والتي تعتبر حقوق الانسان جزءً منها، لان الاسلام هو نهج للمجتمع كله ولأي انسان كان في السلطة او خارجها مؤمنا او ملحدا، وهذا هو الاسلام الذي لم يدركه الفقهاء في القرنين الاول والثاني للهجرة فحل محله التقليد الخاطىء الذي اعتبرناه هو الاسلام والى اليوم.

 

3

ان كل ما حصل لأمة الاسلام بعد وفاة الرسول (ص) في أمته ماهي الا تكتيكات سياسية للوصول الى السلطة في مجتمع التنازع، تنازع المهاجرين والانصارعلى السلطة، فأخترعوا نظرية (منا امير ومنكم أمير) واليوم نخترع الكيانات الباطلة، غير ان تجربة العرب كانت في أوج قمتها الروحية فتجاوزا المشكلة التي ظلت اثارها تعاصرنا وأبتلينا بها الى اليوم، لكننا اليوم نختلف عنهم مكانا وزماناَ .اذن لم يكن النزاع نتيجة فراغ في السلطة كما يدعون، لأن بوفاة الرسول(ص) كان الاسلام مكتملا(اليوم أكملت لكم دينكم...) وهذا الذي حصل في انتخابات السقيفة وما تلاها لا علاقة له بالاسلام كمنهج انساني.فوقعنا في خطأ التقدير.

لقد اعتبرنا كل خطوة قام بها الصحابة أسلاما . بينما هي خطوات اجرائية سياسية لحل تضارب المصالح بين المهاجرين والانصار على السلطة والمال ظهرت بشكل واضح في عهد الخليفة عثمان بن عفان (رض).هذه سياسة اتبعها معاوية بعد الخلافة الراشدة ففشل، واتبعها المنصور في الدولة العباسية ففشل، وكل ما نقرؤه ونسمعه من عدالة وتطبيق هي محض اوهام من المؤرخين.، وسيفشل كل من يتبعها خرقا للقيم والمثل الاسلامية العليا.

ان كل من يخترق النص القرآني سيفشل، لذا سيكون الفشل نصيب السراق وكل خونة الاوطان والقتلة واصحاب التزوير وكل من خرج ويخرج على السراط المستقيم، واليوم امامنا التجربة في التطبيق التي أبتدأت بزين الدين بن علي الفارمن القانون، وحسني مبارم في سجن طرة مع المجرمين، وصدام حسين الذي مات متحسرا ونادما على ما فات، والقذافي الذي مات شريداً، وثقوا لن يفلت من القادمين احدا ومن هم على الطريق، وسيموتون قهرا وحسرة وندما مثل الأخرين. هذه هي سُنة الله في خلقه كما يقول الحق: (أيحسب الانسان ان يترك سدىً) .

فلا احزاب اسلامية ولا احزاب علمانية ولا كتل اوكيانات كلها مصالح مخترعة لا علاقة للوطن والمواطن بها لانها مفارقات في مجال اداة الحكم، لان النتيجة هو الافتراق عن مفهوم الامة في تطبيق المثل العليا والنتيجة هو الفشل في تثبيت وقوننة الدولة، وهذا ما يعانون منه اليوم . فلا مشكلة في اداة الحكم، وانما المشكلة في السيطرة على اداة الحكم ورثناها منذ عهد السقيفة . لذا جاءت دولة الاسلام بلا دستور ولا قانون، وأنما خليفة يحكم ويقتل المعارضين ويفتح البلدان بقانون القوة لا بقوة القانون وعادات واعراف جاهلية ما تغير منها شيء، فظل السيف والنطع لمن يخالفهم في الرأي والتطبيق.

والأنكى من ذلك ان المسألة ليست في احقية فلان – كشخص – على غيره، ولكن في كيفية الاختيار، اذ بقي الامر محصورا في فئة منهم، وليس بأتساع المسلمين وكأن سلطة الحكم قد كتبت بنص رباني لمن يملكها لا لمن يحسنها ويؤديها بأمانة وأخلاص، فحملت ولا زالت كيفية

 

4

الاختيار –لا الشخص- البذور الاولى للفتنة فنشأت مراكز القوة التي دمرت الدولة والامة والاسلام معا، فولدوا لنا اسلام السلطة لا اسلام الامة الذي جاء به محمد (ص).

المشكلة فينا اليوم ونحن نعتبر كل الناس بعد وفاة الرسول من الصحابة، لكونهم جيل الدعوة حتى رفعناهم فوق مستوى البشر واضفنا التقديس عليهم في تصرفاتهم السياسية والقرآن يرفض التقديس أنظر الآية 174 من سورة البقرة، واعتبرنا ما فعلوه تسيسا للاسلام، بينما الاسلام غير قابل للتسيس أصلاً، فأذا تم تسيسه حسب المصالح وسلطة الدولة سيموت بموت الدولة التي سيسته . وهذا ما رأيناه في كل دولة تأتي على انقاض الاخرى لتبتكر لنا اسلاما اخر يختلف عن الذي سبقها في التطبيق، وخير مثال ما حصل للاسلام بين الامويين والعباسيين وبين البويهيين والسلاجقة والعثمانيين. واليوم نراه يتكرر في الدولة الحديثة .

وهذه الخطيئة جاءت كلها من تسيس الاسلام ، ومن ربط السياسة بالاسلام بالمعنى الاول.أما حين يكون الاسلام ميثاقا انسانيا لا تحده الجعرافية ولا التاريخ يبقى هو وتموت الدول ديمقراطية كانت أم مستبدة. لان الاسلام بمثله العليا غير قابل للتسيس، بل هو مبادىء انسانية راسخة ولا علاقة لها بالأخرين ابداً. الا اذا حصرنا المثل العليا في الجنس والمرأة حصراً وهذا فعلا ما يحصل اليوم في مجتمعاتنا الذكورية .

 

هذا عن تسيس الاسلام فماذا عن اسلمة السياسة؟

فهل لأي حزب سياسي ان يتخلى عن المثل الانسانية بحجة متطلبات السياسة؟ يكذب على الناس ويرفع شعار الصدق، أو يمارس التجسس على الناس تحت شعار العلمانية زاعما أنه مبدأ (ولا تجسسوا) وهو مبدأ انساني لا علاقة له بالدولة؟ وهل يسمح لحزب بتزوير الانتخابات والشهادات ويقبلها كواقع نعتبره من متطلبات السياسة؟ وهي محرمة عرفا ودينا وقانونا، وهل يسمح لحزب بأن يسرق اموال الناس ويعين المناصب على هواه من غير الكفاءات وحقوق المواطنين ونعتبرة ضمانا للسياسة؟ والاسلام يقول: اعدلوا ولو كان ذا قربى) ان الخطأ لا يعتبر سياسة ولا يدخل في متطلبات الايمان بالاسلام، هنا يكون الحاكم والاسلام على طرفي نقيض في التطبيق.

ان الاسلام مبادىء وقيم عليا لا يجوز اختراقها ابدا .لقد قام على مبادىءانسانية ثابتة هي: (ولا تبخسواالناس أشياءهم) وقام على (ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي احسن)، وقام على (وأذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل)، وقام على (ولا تنقضوا الآيمان بعد توكيدها)، وقام على (ان الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات الى أهلها)، وأمرنا ان (لا تنابذوا بالألقاب)، وامرنا ان (الشورى )هي دستور

 

5

الحكم، وامرنا (...والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)، ويأمرنا بالمحافظة على ارواح الناس واعراضهم (....من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فساد في الأرض فأنما قتل الناس جميعا).لكن من جاء يحكم في دولة الاسىلام بعد عهد النبوة خطط لأنشاء دولة على غرار دولة بيزنطة، والقرآن يقول.. ان اسقاط دولة بيزنطة فريضة واجبة على المسلمين.لقد اثبت التاريخ صدق الاسلام والنبوة وفشل كل من سار على طريقة بيزنطة في حكم المسلمين .

وختاما نقول:ان الاسلام من حيث هو توحيد ومُثل أنسانية عليا، غير قابل للتسيس.وأن محاولة البعض تسيس الأسلام، والبعض الاخر أسلمة السياسة لهو منافٍ للاسلام والمثل العليا وبها أضاعوا على أنفسهم السياسة والاسلام معاً.

 

د.عبد الجبار العبيدي

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2127 الأثنين  21 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم