قضايا وآراء

المرأة في قصيدة الشاعر العراقي حميد الحريزي:" دين المجانين" .. قراءة ثانية / احمد فاضل

ومع أنها كانت المرسى لسفينته، وضياء الفجر، لكنه ومع ذلك لا يريدها بسبب أنها " خاتونة " لاتحب عيشته الخشنة التي تربى عليها فما عاد لها حبيبا أو كما يقول:

ما عدت الحبيب / فاتركيني / أهيم في بساتين الجمال / أعانق الشمس، خرير الماء يطربني / وندى الأزهار / يرويني / لا أريدك اتركيني / كنت لسفينتي المرسى / عيناك ضياء فجر الله / دفء مكوراتك من صقيع / الهم / ينجيني / لا أريدك اتركيني / أنا ابن الفلاحة السمراء / أنا ابن نايّ الرعاة / مالي / وحب " الخواتين " مالكِ ومالي / فاتركيني /، الشاعر هنا في هذه الأبيات تحديدا استعار من اللهجة العامية الدارجة كلمة " الخواتين " أي النساء المدلللات، المترفات، وهو ولوج ملمع تركه الشعراء منذ زمن، لكنه أعاده إلينا لأنه باعتقادي لم يعثر على كلمة أجمل منها وأقرب إحساسا وهذا صنيع لا يقدر عليه إلا من توغل عميقا بين الفصحى من جهة والعامية من جهة أخرى، كما كانت لبيئة الشاعر تأثيرها الواضح على تغنيه بهذا الحس الجمالي في طرحه لقصائده واختيار الأدوات المناسبة لصياغتها، فالبيئة عامل مهم هنا، كما هي مدعاة لاختيار المناسب من اللغة بفعل ذلك التأثير، بل هي مختبر جمالي يمنحه أعذب الأبيات :

ما عاد شهد ثغرك افطاري / ما عادت جدائلك مسبحتي / أناملك الحلوة ما عادت / تدغدغني / رموشك النعسى صارت / رؤوسا / للثعابين / أنا لا اهواك ابنة " النت " / اتركيني أحببت الناس طرا / أفنيت العمر حبا / ضيعت العمر قهرا / متنقلا بين / الزنازين /، شاعرنا لا يفتأ من تعداد محاسنها التي غادرها بعد أن تنكرت لكل ماضيها معه خاصة عمره الذي أفناه حبا فضاع قهرا في زنازين كان يأمل أن تتذكره حينما تتكسر قيوده ويعود لهفا عليها، الشاعر الحريزي في هذه الأبيات عاد ليستخدم كلمة غير معربة تعريبا لغويا صحيحا معتمدا وهي " النِت " التي أخلت باعتقادي ايضا ببيت الشعر الذي أرجو من خلاله ابتعاد الشعراء عن استخدام مثل هذه الكلمات التي تقتل روح وجمالية القصيدة بشكل عام :

غزا الشيب شعري / فلا تندبيني / اتركيني / طارت زرازير روحي / أقصتها البراري / تلقفتها شِباك صيد / القساة / الملاعين / لا أريدك اتركيني / منديلي لا يمسح اكتاف أهل / المال / منديلي يمسح دموع اطفال / الجياع / العراة / المساكين / أقصدي سوق البيع / واتركيني / لا اشتريك ابنة / المال / ارصدتي في البنوك صفر / عملتي شيكات حب / دقات قلب / وأشواق تجري في شراييني / لا يرضيك دربي / فاهجريني /، هذه الأبيات تعطينا رفضا آخر لمفهوم " اتركيني "، فبعد أن شاب رأس الحبيب وهذا يعني أنه قد دخل مرحلة عمرية متقدمة تجعله يتخذ قراراته بعقله بعد أن كانت بقلبه وهو فارق كبير فلا ندب بعد اليوم لأن روحه الهائمة آنذاك أصبحت أكثر وعيا بعد أن مرت بالبراري، شباك الصيد، قساة القلوب، وملاعين الأرض، فمنديله الذي كان يمسح دموعها أصبح لا يمسح أكتاف أهل المال كما مناديلها، بل أصبح يمسح دموع الأطفال، العراة، المساكين، فاذهبي واقصدي سوقا آخر واتركيه لأنه لا يشتري ابنة المال، فقد كانت أرصدته صفرا في البنوك لأن له عُملة واحدة هي شيكات حبه، ودقات قلبه، وأشواقه، فطريقه اصبح لا يسعها والهجر يمكن أن يكون الحل الأخير لها، هذه الصور الشعرية القاتمة هي نزيف عمر الشاعر حاول أن يكون فيها أقل قسوة منها، ولو أراد غيرها لقال كما قال أبي فراس الحمداني : إذا مت ضمآنا فلا نزل القطر .

اكتظ بالأحلام رأسي / اعلنتها جهرا بلا همس / ضحكات الأكواخ همي / سعادة بني الإنسان عنواني / قصدتها ومحوت دونها كل / العناوين / لا أريدك اتركيني / ما عدت أرويك بشعري / رسائل حبي ذرتها الريح / غادر الماء / أنهاري / مالك وحبي / فقد صار الحب / دين / المجانين /، قد تكون أبياته الأخيرة هذه خاتمة اللاعودة لحبهما فمن خلالها أحسست أنها نهاية قصة حزينة جعلها الشاعر قصيدة هجائية لكل حب رخيص، ولكونه يكتب القصة كما المقالة النقدية فقد قدم لنا عن ذكاء اقصوصة شعرية ذكرتنا ببأساء الحب التي عاشها الشعراء من قبل مع أننا نجد تشابها واضحا في المعاني التي قصدوها، لكنها هنا تذكرنا بالنمط الشكسبيري اذا جاز لنا التعبير فقارئ مسرحياته قد ينظر هذه القصيدة كتعبير واقعي لبعض أجوائها مع اختلاف المكان والزمان والشخوص .

الشاعر حميد الحريزي يعلنها صراحة جهرا لاهمسا أن رأسه قد اكتظ بالأحلام، همه ضحكات الفقراء وعنوانه سعادة البشر، فقد محا دونهما كل ما لايمت لهما بصلة فما عادت قصائده ترويها، ورسائل الحب طوحت بها الريح، أما ماءه فقد جف فلم يعد هناك نهر يمنحه الجريان فيهب الحياة والخضرة للأرض اليابسة، ويرتوي منه العطاش، وقوله / مالك وحبي / فهو وداع أبدي لأن الحب أصبح في عرفه دين للمجانين، فهل نعذر قيسا إذا جن بليلى؟ أم نعذر روميو إذا مات ؟ تلك هي المشكلة ..

 

أحمد فاضل 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2130 الخميس  24 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم