قضايا وآراء

المبدع والسياسة / المصطفى المغربي

 

ماكان المبدع الحقيقي سوى كائنا كونيا رغم إغراقه في الداتية كما يبدو أحيانا، وبالتالي فدخوله معترك السياسة شيء ضروري وحاسم، سواء كهم نضالي مجتمعي،أو كنقاش فكري يروم إعادة صياغة  سؤال السياسة نفسه،على ضوء ما تشكل لدى المبدع طيلة تجربته الإبداعية والحياتية من رؤى جديدة للحياة تتعدى الآفاق الضيقة للسياسة  إلى مفاهيم كالحب والجمال والسلام والفرح والعدل والاختلاف ....، سيكون شيئا جميلا أن يسعى المبدع لتذكير السياسة ومن داخلها  بأسئلة الحياة في كونيتها.

أعتقد أنه من هنا على المبدع أن يلج السياسة،أن يؤسس للمبادئ الكبرى الضامنة لاستمرار الحياة بالجمال الذي ماانفك يأمله ويغنيه، لا أن ينجر للهوامش التقنية أو ما يعرف عند السياسيين  بالتاكتيك (والتاكتيك في اعتقادي وفي كنف الديمقراطية الغربية ليس سوى فن التسلق إلى مواقع أقرب من الثروة للإستفادة منها لحساب خاص)

المبدع لا يهتم بالتاكتيك، همه الاستراتيجيا،، وسؤال الاستراتيجيا الأول هو : أي مشروع للحياة نريد؟ هذا هو السؤال  نفسه الذي يجب أن يطرح على كل الشعوب بعد أن نمكنها من الوعي الضروري للبحث عن الإجابات التي تليق بإنسانيتها فعلا.

ومن منطلق الاستراتيجيا هذا سأحاول أن أبدي بعض الأفكار والرؤى والأسئلة المتداخلة حول ثلاثة مفاهيم تلوح لنا كلما طرحنا ذاك السؤال الاستراتيجي، وأعتقد أنه  يثار حولها نقاش مغلوط، يتعارض مع رؤية المبدع للحياة، تلك المفاهيم هي: الديمقراطية والثروة والحرية .لن أتناولها كقضايا فلسفية،إنما كتطبيقات وقيم ومسلكيات وضرورات، اخترتها من سواها لأنها الأسئلة الأساسية في نظري التي تؤسس لأي مشروع حياة نريده.

 لا أدعي هنا شيئا جديدا وفريدا، إنما أحاول أن أشرككم همومي لا غير، وللعلم فالمصطفى المغربي لا تربطه أية صلة تنظيمية بأي حركة سياسية وفي نفس الوقت لا يتردد في دعم كل المبادرات النضالية الحقيقية التي لا تتعارض ورؤيته الكونية للحياة . وبالتالي فما أطرحه هنا لايعدو كونه مخاوفي المؤسسة على الرؤية الإبداعية الصرفة للحياة والكون، ورغبة في التطور أيضا.

لا حاجة للتذكير بأن مفهوم الديمقراطية هو أكثر المفاهيم تداولا في هذه اللحظة التاريخية المفصلية، والتي وسموها بربيع الشعوب الذي بدأ مع ربيع العرب،

ولا حاجة للتذكير أن هذا الربيع  بدأه الفقراء وقاده رأسمال الغرب، وهو الذي يبدو أنه يجني الأرباح الآن، إذا لم تستفق شعوبه أكثر وتضيق الخناق عليه أكثر وتدكه من الداخل.

هذه الديمقراطية، التي ابتدعها الغرب لم تكن في الأصل سوى شكلا من التدبير والتحصين والتنظيم القيمي والإداري للرأسمال، ليدور دورته العادية في ظل سلم اجتماعي،وهي بهذا المعنى، التحايل الشريف على شعوب الأرض من طرف عصابات ولوبيات وتكثلات وشبكات ومؤسسات وجيوش عالمية لا تتردد في القتل بكل أشكاله،من التجويع إلى الاغتيال إلى القصف بالطائرات والصواريخ إلى الحصار واستعمال الأسلحة المدمرة، وهي  تملك العالم  تحت شعار الديمقراطية التي ليست سوى فن شرعنة كل أنواع الاستغلال وبأقصى طاقة وبأعلى مردودية ممكنتين، وإضفاء صبغة الانسانية عليه. إنها ديمقراطية الأغنياء على الفقراء.

 ومن تم يفرض سؤال الثروة ملحاحيته وأسبقيته، إنه السؤال المفصلي في كل الحياة وعليه تتأسس باقي الأسئلة وتأخذ المفاهيم الأخرى شكلها ومضمونها، لكن لا أحد يسأل هذا السؤال كلنا مشغولون بالديمقراطية  وحقوق الانسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل وحقوق الحيوان وحرية التعبير ونزاهة الانتخابات وغيرها من أمور أعتبرها تقنية وماكرة تخفي وراءها كل أنوع البشاعة التي يرفضها المبدع.

قلت في مناسبة سابقة أن الطبيعة لا تمنح صكوك ملكية، الطبيعة تمنح الحياة، وعليه فكل ما في الطبيعة هو ملك للطبيعة ويساهم في الحفاظ على ذلك التوازن الخلاق والتفاعل الإيجابي الإبداعي بين الأجزاء، الذي ينتج الحياة باستمرار ويجددها دوما . أليس هذا هو العالم المسالم الجميل الذي نحلم به ونكتبه ونبكي ونصرخ ونثور لغيابه منذ قرون؟ لا بد أن يتمتع كل البشر بأسباب الحياة حتى نشعر بإنسانيتنا الحقيقية المبدعة الحرة، لا بد أن تكون أسباب الحياة ميسرة للكل وعلى قدر الحياة الطبيعية الممتعة، وليست المتعة هي الثروة أبدا، المتعة هي الحياة عندما  نعيشها بأمان وثقة في المستقبل.و أظن أن الديمقراطية عاجزة بكل ترسانتها الحقوقية عن إنتاج هذا النوع من الحياة،لأن فلسفتها قائمة على الفردانية والتميز والإغراء، من أجل احتلال مواقع القرب من الثروة وإدارة المال.إنها الفرصة التي يمنحها الرأسمال للانتهازيين للإنخراط في دورته.

فأنت أيها المبدع الذي سنعتبرك صادقا فعلا، لو أسعفتك الديمقراطية وأوصلتك إلى مركز القرار، ستجد نفسك حارسا فقط للرأسمال، وما عليك سوى المساهمة في ضمان جريانه أو السقوط، سيتآمرون عليك ومن داخلك ويسقطوك إذا قاومت،أو سيدفعونك للانسحاب،و إلا ستبدأ في الكذب على من انتخبوك وفي نفس الوقت التقرب من الرأسمال، والدخول في دورته،فيموت المبدع ويولد انتهازي جديد.

لنفرض أنك أيها المبدع وزيرا للثقافة أو التعليم مثلا، وهذا ربما أنسب موقع للمبدع في حكومة ديمقراطية، فهل ستستطيع مثلا أن تعيد للمدارس والجامعات هيبتها العلمية بإفساح المجال لكل العلوم لتتفاعل وتتطور؟ هل سترفع الفيتو عن بعض العلوم كعلوم الأديان ومقارنتها، ونظرية التطور عند دارويين وتدريس الأساطير وفكر كل الشعوب مثلا، هل بإمكانك أن تنفد برنامجا ثقافيا لاجثتات الطائفية نهائيا من عقول الشعب وأنت نفسك جئت لهذا المركز من خرم الطائفية ؟ أليست الطائفية هي عصب الديمقراطية وحماستها الإغرائية؟ حين تحول قضية الحياة إلى صراع طوائف انتخابية يسمونها أحزاب؟  يحضرني هنا مثال وزير الثقافة المغربي في عهد ما عرف عندنا بحكومة التناوب الاشتراكية لعبد الرحمن اليوسفي، لم يكن وزير الثقافة سوى الشاعر المعروف (محمد الأشعري) ومع ذلك لم تعرف الثقافة في عهده شيئا ذا بال، إذا استثنينا مهرجانات الخطب واللحم المشوي والسياحة، وإغداق الألقاب والهدايا على المقربين حتى تحول اتحاد كتاب المغرب في عهده إلى ضيعة لحزبه يمرح فيها أشباه المبدعين أحيانا.و مع الأسف،كثير من المبدعين العرب ساهموا في إضفاء مصداقية ما لتلك المهرجانات التي يمونها الشعب على حساب جوعه ومرضه .

إن نظرتنا للثروة يجب أن تتغير جذريا، فهي لم تعد قضية فردية أو قضية شعب،بل صارت قضية إنسانية،إن طريقة توزيعها وتدبيرها واستغلالها تعد السبب الحاسم والمباشر في كل المآسي التي تعرفها حياتنا، إن تلك الطريقة تسير بنا إلى الفناء والانقراض قبل الأوان، وبالتالي فالتفكير فيها لا بد أن يكون كونيا ويهم كل البشر، كما أن إعادة توزيعها بشكل يضمن استمرار الحياة أكثر لنا وللأجيال القادمة لا مناص منه كجواب حاسم ووحيد وكل هذا لا تسعه ديمقراطية الغرب المؤسسة على النهب المشرعن بالقانون.

نأتي في النهاية لمفهوم الحرية، إنها مفهوم مركزي في الرأسمال وتعني عنده بالأساس، حرية التملك وحرية المبادرة وحرية السوق وحرية تنقل الرأسمال، في حين هي لا تعني له شيئا كثيرا،عندما ينظر لها كحرية تفكير وتعبير واعتقاد واختيار. لننظر قليلا  لوضع الأقليات في ظل الأنظمة الديمقراطية وسنرى كمية الحرية عند الغرب.لننظر أيضا إلى هشاشة الحياة الاجتماعية والمادية عند طبقات عريضة  في النظام الديمقراطي العالمي  لنرى كيف يكبل الفقر حرية الملايين.فبدون تحرير الجسد والعقل لا وجود للحرية، ولا حرية للجسد إذا ظل محروما من ضرورياته الطبيعية ولا حرية للعقل إذا ظل حبيس الخبز أي المتطلبات الغبية للعيش. وكل هذا لا يوفره النظام الديمقراطي الغربي، لأنه يجعل الثروة خارج نطاق الصراع ولا يطرحها إلا كتدبير وتنظيم قانوني قيمي وفق طهارة مزعومة للديمقراطية والقانون، ولتبق الثروة متركزة في أيدي تلك الأقلية الإجرامية في حين تشتغل الأكثرية كعبيد منتجين لها فقط.

و كخلاصة اشير إلى أنه في اعتقادي الانخراط في ديمقراطية الغرب هو انخراط ضمني في وهم الحياة البورجوازية المترفة التي تليق بالنخبة لتتفرغ لكتابة شعر الغزل وسير البطولة وحضور المهراجانات الباذخة التي تقام في فنادق ممتازة، بعيدا عن عيون الشعب الذي سيبقى فقيرا . إنها انخراط ضمني في تغييب سؤال الثروة  الحاسم.

جميل أن ينخرط المبدع في السياسة لكن عليه أن يبق مبدعا حقيقيا أي حرا وعصيا على التطويع والإغراء. وعليه أن ينخرط في منظمات مجتمعه القاعدية ليطرح تصوراته وسط الناس وليس في الصالونات ويشارك في تصليب قدرات شعبه على الدفاع عن الحياة وانتزاعها وعودتها لطبيعتها الصافية في أن تكون ملكا للجميع.

 

مع أزكى التحيات لكل مبدعي وكتاب ومبدعات وكاتبات المثقف،و كل الدعم لهذه الخطوة الجميلة والضرورية لمساهمة المبدعين في صياغة الأسئلة السياسية المؤثرة  في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ العالم برمته، وليس تاريخ العراق الحبيب والوطن العربي فقط .

مع اعتذاري عن ما قد يكون من أخطاء .

 

المصطفى المغربي.

24/05/2012

    

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2131 الجمعة  25 / 05 / 2012)

في المثقف اليوم