قضايا وآراء

تماثيل كوديا .. وروعة الأبداع السومري / حكمت مهدي جبار

عبر أسلوب تشكيلي سومري مذهل .يترك لنا الزمان تحفة فنية رائعة حيرت مؤرخي الفن ونقاده وفلاسفته وكثير من المفكرين والباحثين في كيفية تجسيد روحية الأنسان وجوهره المخفي ولبه العقلي من خلال حفر تلك الأحاسيس على قطعة حجرية صلبة بقيت تتحدى تقلبات الزمان وجنون الطبيعة الرافدينية لتصل الينا شاهدا فنيا تشكيليا يلخص الفكر العراقي القديم في الحكمة والقيادة من خلال التمثل بشخصية حكمت رقعة من أرض الرافدين في ظروف أستثنائية مضطربة منذ أربعة آلاف سنة اندرست..

انها قطع من حجر (الديورايت)الصلب والتي تمثل أشكالا انسانيا كتماثيل للأمير السومري العظيم (كوديا) الذي حكم مدينة (لكش) في 2144- 2124 ق.م.

بعد فترة أضطراب سياسي وأجتماعي لمنطقة السهل الرسوبي لأرض الرافدين حيث الأحتلال (الكوتي) البغيض الذي ازاح السلطة الوطنية السومرية .ولكنه طرد على يد العراقيين الأكديين .وفي هذه الفترة المضطربة كان (كوديا) حاكما لـ (لكش) المدينة السومرية الصامدة رغم خراب الغزاة الى جانب مدينتي

(أور) و( الوركاء).حيث تأسست فيها حكومات محلية مستقلة لم تؤثر عليها سيطرة (الكوتيين) علما انهم انسحبوا مخذولين الى شمال العراق.

لقد ابدع الفنان العراقي القديم وهو يحاكي هذه القطع الحجرية الصلبة يجاهد فكره عاصرا خياله في محاولة لتجسيد مشاعر وروحية زعيم وطني عرف كيف يخدم شعبه في ظل ظروف مبعثرة تحت وطأة بقايا (الأحتلال الكوتي)فقد لخص الفنانون في هذا التماثيل المتكررة مشاعر زعيم عراقي سومري وهو يناور الكوتيين المحتليين ساعيا لنشر السلام والمحبة والأمان لدى ابناء مدينة

(لكش) التي اراد لها (كوديا) أن تبقى آمنة موحدة وقد اتبع اسلوب الحوار الدبلوماسي مع الغزاة.حرصا منه على حقن دماء ابناء شعبه في (لكش رغم تعدد تماثيل (كوديا) فقد اتضحت موهبة الفنان العراقي القديم في هذا المنجز التشكيلي النحتي الباهر.وكأن جميع المنحوتات التي نفذها الفنانون لتلك الشخصية رغم بعض الأختلافات البسيطة جاءت موحدة المضمون .حيث  تمكن الفنانون من ابراز روحية الشخصية المنفذة على الحجر.وقد فطنوا الى أن التعامل الفني مع شخصية من طراز خاص وذات مستوى رفيع يجب ان تكون دقيقة ومضبوطة.ثم ان شخصية (كوديا) كانت كما تقول أخبار التأريخ شخصية وديعة هادئة مسالمة.فنجد ان هناك ملامح انسانية ظهرت على وجهه توحي بالتسامح مد يد السلام ومحاولة اطفاء نار الحروب والأكتفاء بما هو عليه.فالتماثيل التي تعرض لنا (كوديا) معمما كان رأسه مليء برموز التعقل والتدبر وجسده المتوازن الهاديء رغم احساس المشاهد بقصره ووجود بعض التباينات في نسب الجسد الأنساني في نسبة الرأس للصدر وللجذع ونسبة الأيدي الى ألأطراف ووجهه المعبر عن عقلية محاورة مسالمة حيث تحدق عينيه بعيدا لأستقبال آراء الآخرين وشفتيه غير منفعلتين وكأنه يقول:

أوكي أيها الكوتيون لقد خربتم البلاد ودمرتم الحرث والنسل فأرى من الأفضل ان تغادروا وتتركو الأرض والمدينة لأهلها.

أما يديه المكتفتين حيث تحتضن اليسرى اليمنى على طريقة الخشوع في الصلاة وهو ربما كان في هذه الحالة متعبدا فأنها تعبر عن تجليات دينية في اتصال مع الأله وهو يرجوه في أن يسهل أمره في قيادة البلاد ونشر السلام والخير والبركة على يده.

وفي تماثيل أخرى نجد ان الفنان قد حمل (كوديا) شرف مسؤولية الحرص على حياة العراقيين وذلك بأدامة أسبابها عندما رمز اليه وهو يحمل صورة النهرين العظيمين دجلة والفرات ليعبر عن أهتمام هذا الزعيم العراقي بالعمران والبناء وحرث الأرض وديمومة الحياة بأعظم دلالة لها وهو الماء.

أي عبقرية فنية كان يمتلكها ابن الرافدين في تلك الأزمان السحيقة .وأي وعي تشكيلي كان يتجسد على أصلب انواع الأحجار ليعبر به ومن خلاله على ارق المشاعر ورهافة الأحاسيس الأنسانية بواسطة ألأزاميل .فمن خلال تلك الحزوز التي حفرت على سطح حجر (الديورايت) الصلب المعاند نقرأ تعابير الوجه الأنساني وملامحها في مختلف المواقف والمشاعر..

لقد اثار هذا التمثال الرائع اعجاب الدنيا وتسابقت عليه متاحف العالم .ومع افتخارنا نحن ابناء تلك الحضارة فأننا بنفس الوقت نعزي انفسنا لأننا لم نراه على حقيقته سوى على شكل تماثيل مقلدة لتلك الشخصية السومرية العراقية العظيمة .فهو الآن يجلس على منصاته خلف زجاجات متاحف شيكاغو – بنسلفانيا – برلين – أسطنبول – دمشق – موسكو – القاهرة – كوبنهاكن – يبث روحية الأبداع والحضارة الرافدينية في بلاد الغربة

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2132 السبت  26 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم