قضايا وآراء

لا تحملوا الدين مسؤولية ما يفعل المتدينون / زكي السراج

ومثار هذا الغضب هو سوء فعل المتدينين مؤسسات وأفراداً، فالمجتمعات عموما وبالفطرة تنظر إلى من يرتدي مسوح الدين نظرة تقديس وتبجيل باعتبار هذا الشخص أو هذه المؤسسة هي صمام الأمان لما قد يحدث من مصائب وبلاءات، ولكن المجتمعات تفاجأ بعد حين أن هؤلاء المتدينين وتلك المؤسسات الدينية هي سبب المصائب والبلاءات!!

وهنا يخرج الفكر الجمعي للمجتمع عن ساحة تقييم الأفعال والنظر إلى فاعليها إلى تهديم المبادئ والقيم التي من أجلها قدس أولئك الاشخاص وبجلت افعالهم، على الرغم من أن المفروض على الناس أن تجعل تلك المبادئ والقيم هي الحاكم الذي يفضح انحراف المتدينين مؤسسات وأفرادا، فليس هناك شخص أو مؤسسة فوق النظر والتقييم والمحاسبة في شريعة الدين بل الكل بما فيهم المبعوث الإلهي هو في مقدمة من يتحمل المسؤولية، وليس العكس كما نراه اليوم في شرعة الناس وتعاملهم مع الدين، ولعل ما ورد في القرآن الكريم من آيات كريمة توجه خطاب المحاسبة والمسؤولية إلى الرسول المبعوث لهي خير دليل على العدالة الإلهية الواضحة الجلية في أن الجميع متساوون في المحاسبة أمام القانون قولا وفعلا، وعلى رأس من تطاله يد المحاسبة هو المبعوث الإلهي في كل زمان.

ولذلك نرى أن المبعوثين الإلهيين في كل زمان يجتهدون بالعمل وليس بالنظر حسب، بل بالعمل على جعل قيم الدين ومبادئه فاعلة بحركتهم وهي التي توجه فعلهم وتصرفاتهم وإدارتهم لكل ما يمكن أن يقع من حوادث، فصار أولئك المبعوثون هم الدين والدين هم، نتيجة إخلاصهم لمبادئ الدين وقيمه والعمل على جعلها واقعا منظورا للناس يشهد به المخالف قبل المؤالف، ولذا من يريد أن يحاسب الدين بإنصاف ليرى حقيقة ما يقدمه للحياة من أمن وأمان وطمأنينة فلينظر إلى تاريخ الأنبياء والمرسلين والأوصياء(ع) سيجد أن تاريخهم يشع بنور تلك المبادئ والقيم على الرغم من كثرة المحاولات العابثة التي حاول فيها أتباع الديانات المساس بكرامة أولئك الطاهرين المطهرين ولو بداعي الإفراط في إسباغ صفة القدسية عليهم.

أما من هو دون المبعوث الإلهي في كل زمان فهو محجوج ومحاسب وموزون بالدين وقيمه ومبادئه، يذكر له فعله الملتزم بمبادئ الدين، وكذلك يذكر عليه فعله المخالف لمبادئ الدين، بل ويرد عليه ويحاسب على الخروج عن تلك المبادئ والقيم، لأن تلك القيم الثابتة هي الضامنة للامان والاطمئنان وخرقها والعبث فيها هو في الواقع جالب لكل البلاءات والمفاسد والمصائب.

ولكن ما نراه ونعجب له هو أن الناس يهون عليه التطاول على الدين ومبادئه وقيمه، ويصعب عليها النيل من شخوص من قاموا بالإساءة إلى تلك المبادئ والقيم التي هي ثابتة ولم تتغير منذ أول خليفة الهي على هذه الأرض وهو آدم(ع) وإلى أن يرث الله الأرض وما عليها، ويصعب عليها توجيه الاتهام لهم والإعراض عنهم، ويتهمون مبادئ الدين بالقصور والتقصير ولا يتجرؤون على اتهام أولئك العابثين بمبادئ الدين والمتطاولين على اسسه الثابتة الراسخة، فترى مع كل مبعوث الهي لتصحيح المسار المنحرف للمتدينين والعمل على إعادة ذلك المسار إلى طريق الدين الحق تنبري المؤسسات الدينية متمثلة بشخوصها وأتباعهم إلى محاربة هذا الداعي الإلهي المبعوث من الله سبحانه لتصحيح هذا الانحراف الذي أهلك الحرث والنسل!!

ولعل من أوضح وأبين مظاهر انحراف المؤسسات الدينية عن الدين الإلهي هو قمع تلك المؤسسات لحرية التفكير والانتقاد، بل واستعمال السلطة القسرية في تكفير من يخالفها الرأي وتفسيقه وإخراجه من الملة وترصده وإغراء اتباعها لتصفية هذا الصوت الفاضح لحقيقتها المنحرفة، بدعوى ـ وهي دعوى زائفة ـ أن فضحها هو فضح للدين ونيل من قيمه ومبادئه، مع أن الواقع يقول لا توجد مثل هكذا علاقة لا من بعيد ولا من قريب بين الدين والمتدين، فالدين ليس غطاء لانحراف المتدينين بل الدين ميزان الهي تنكشف فيه عورات المنحرفين، وينماز فيه الخبيث من الطيب فالدين الإلهي هو من يدعو إلى حرية الفكر وحرية التفكير والنظر والبحث، بل ربما هذه الحقيقة تكون صادمة لكثير من الناس الذين كانوا يتصورون أن الدين ساحة قمع وخنق للحرية الفكرية حينما يتبين لهم العكس تماما، وأن القامع الحقيقي والخانق الحقيقي لحرية الفكر هو ليس الدين وإنما الكائنات المعتاشة على الدين وتسمي نفسها متدينة أو مسؤولة عن المؤسسة الدينية!!

الدين بمبادئه وقيمه هو الذي مد شوط التباري والسباق للوصول إلى الحقيقة بل وشجع على ذلك تشجيعا منقطع النظير، ودعا الناس إلى أن تبحث وتنظر وتدقق وتعرف وتقرر، وأن يتحمل كل شخص مسؤولية قراره، ولا يجعل أحدا غيره يقرر له آخرته ودنياه، الدين هو الذي نطق على لسان المبعوثين الإلهيين في كل زمان مؤكدا على ضرورة العلم والمعرفة، ومسؤولية ذلك واقعة على كل فرد من أفراد المجتمع دون تمييز أو تمييع، فالكل سيعرضون على صاحب الدين والكل مدانون وسيسألون، ألم يقل الله سبحانه{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} (الصافات/24) مسؤولون عن ماذا وعلى ماذا؟؟ هل تدبر أحد هذه الآية الكريمة وراح يتفكر فيها وينظر ويبحث ويدقق ويتعرف؟؟!!

لقد عطلت السلطات الدينية ملكة التفكير عند الناس عن قصد وسوء نية مبيتة، فبتعطيل ملكة التفكير عند الناس ستفقد الناس قدرتها على اتخاذ القرار وبهذا الفقدان ستسلم قياده لتلك السلطات ولذلك شاع بين الناس هذه المقولة الأفيونية القاتلة : (ذبها براس عالم واطلع منها سالم)!!

ولعل هذه المقولة الأفيونية اليوم هي اشهر من سورة الفاتحة عند المسلمين، واشهر من معرفة المسيحيين بالمصلوب على الصليب، واشهر من معرفة اليهود بالوصايا العشرة، فهذه المقولة أشاعتها السلطة الدينية بعد تعطيل ملكة التفكير عند الناس، والعمل على إغراء من يستعصي عليهم تعطيل تلك الملكة عنده وإن لم يستطيعوا إغرائه واستدراجه إلى اسوار مدنهم (الفاضلة) يعملون بكل الطرق على قتل شخصيته في الناس وبعد ذلك يقتلون شخصه بدم بارد، بل يقتلونه وهم يتلون تراتيلهم وترانيمهم التي ما انزل الله بها من سلطان!

ولذا فعلينا أن ننتبه ونفرق بين الدين وبين المؤسسات الدينية، وعلينا أن نعمل جادين لفكاك أسر ملكة التفكير من سجون تلك المؤسسات، وجعل تلك المؤسسات في ميزان الدين وقيمه ومبادئه الحقيقية ليتبين للناس حقيقة التزامها بالدين، ولتنكشف تلك النزعة التسلطية القمعية لدى تلك المؤسسات، مع أن الدين في نص الهي واضح يقول لنبي من أنبياء الله المكرمين وهو محمد(ص) هكذا : {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}(الغاشية/21-26).

لاحظوا وتنبهوا إلى عظيم الحرية التي يشرعها الدين للفكر الانساني فهذا المبعوث الإلهي القائم بدين الله ليس سوى مذكر، وليس هو سلطة قمعية فاشستية تكفر وتقتل وتفعل بالناس الافاعيل، فلم يبعث صاحب الدين سبحانه أنبياءه ورسله وأوصياءه إلا رحمة للعالمين، فعلى الناس اليوم أن يتحرروا ويعيدوا الحياة إلى ملكة التفكير التي وهبها الله سبحانه لهم ليتبينوا بها الراعي الصالح من الذئاب، وليملكوا سلطة القرار هم بأنفسهم ولا يدعوا غيرهم يقرر لهم حالهم في الدنيا والآخرة.

ولذا فهذه دعوة جادة لكل من ملك عنان تفكيره ولم يترك العنان في يد غيره يوجهه بحسب هواه ومشتهاه بدعوى ؛ أن الدين يريد ذلك!! والدين بريء من ذلك براءة الذئب من دم ابن يعقوب(ع)، لا تقرؤوا الدين بعيون المتدينين بل اقرؤوه بعيون ملكتكم الفكرية وانظروا إلى أن الله سبحانه الذي كلمكم بكلماته كم هو يحترم عقولكم ويضعها في مقام عال ولذلك توجه لكم بالخطاب في آيات كثيرة بعبارة (لعلهم يعقلون) و(لعلهم يتفكرون) فهذا ربكم سبحانه يدعوكم بل ويرجو منكم التعقل والتفكر، فلماذا أنتم تزرون بأنفسكم وتقعون فريسة المخططات السلطوية الدينية وغير الدينية؟!! فتجعلكم بين حالين كلاهما مر وسالب لإنسانيتكم ؛ إما أن تكونوا عبيداً للسلطة الدينية ومسلمين عنان أنفسكم بيد غيركم أو تكونوا متمردين تاركين لحبل التفكير على غارب الهوى، فلا الحال الأولى ولا الثانية فيها احترام لهذه الملكة الإلهية التي حبانا بها سبحانه لنجعلها نافعة مفيدة كما أراد لها جل وعلا، بل كلا الحالين فيهما امتهان لهذه الملكة العظيمة، ولا يحفظ لهذه الملكة هيبتها وقيمتها غير الدين، وأنتم بالخيار.

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2133 الاحد  27 / 05 / 2012)

في المثقف اليوم