قضايا وآراء

أسرار لواء المشاة 444 (الأفاعي الثلاث) / محمد تقي جون

حين قذف صدام بشباب العراق في جبال وصحارى لا يسكنها غير الزواحف والوحوش، في حرب مكشوفة للموت من كل الجوانب ضد إيران الإسلامية. وفتحت جبهتان: إيران وشمالي العراق، واختلق عدوان: الفرس والكرد. لم تكن مأساة مقاتلة أخ مسلم - وان عظمت وجلّت- بحجم أن يصبح العراقي عدوّ العراقي!! ثمة ثلاثة أخوة يقتتلون: (كرد الشمال) من جهة، و(العرب والكرد الفيليون) من الجهة الأخرى.

من المحن الكبيرة التي عاناها الفيليون أثناء الحرب العراقية الإيرانية عدم الثقة بهم، وهي من تداعيات محنتهم الأمِّ (الانتماء)، وفي الوقت نفسه اضطرار الطاغية إلى تجنيدهم أسوة بنظرائهم العراقيين في دعوة المواليد والاحتياط والجيش الشعبي. وهو إذا وجد الحلول فلن تكون ضابطة بشكل نهائي، وقد أثبت واقعهم العسكري تأرجح تلك الخطط وقلقه المزمن معهم.

 

مركز تدريب خاص بالتبعية

لقد رأى الطاغية أن جمع الجنود الفيليين في مكان واحد أفضل من تفريقهم على فيالق وفرق وألوية الجيش العراقي، فإن عدم ولائهم المسلَّم به يجعلهم أشبه بعدو منفلت، أو كأفعى في غرفة النوم تقض المضجع وتدمن على السهر الموجع. وان خيال الأفعى كما يظهر لم يفارق مخيلة صدام في تشبيههم بها. وقد أطلق عليهم لقب (التبعية) فصار يطلق على تشكيلهم العسكري ومجاميعهم وأفرادهم فيقال: لواء التبعية، فوج التبعية، جنود تبعية، جندي تبعية أو تبعي، فميزهم نفسياً عن الجيش العراقي.

ابتداء من التجانيد، صار الفيلي المجنَّد يأخذ دفتر الخدمة المؤشر ويذهب إلى تكريت في مركز تدريب مخصص للفيليين (التبعية)، بينما باقي الجنود يذهبون إلى مراكز تدريب متعددة غير محددة. وفي مركز التدريب (هذا) كانت فصائلهم منفصلة عن فصائل بقية الجنود (غير التبعية) ولكن عموماً هو لم يتركهم في المركز وحدهم بل خلط معهم جنوداً يثق بهم، وتلك السياسية سيبقى يستعملها معهم لاحقاً بعد مركز التدريب.

وفي المركز كانوا يدرَّبون تدريباً مبسطاً أكثره سير كشفي (يَسْ- يَمْ)؛ وذلك لان الطاغية لم يردهم مقاتلين كباقي الجنود العراقيين الذين اعتنى بتدريبهم كما كان يسمع الفيليون من أصدقائهم في المراكز الأخرى. وكانت مدة التدريب قصيرة جداً وبعدها ينقلون إلى التشكيل المخصص لهم، وأحياناً يتم نقلهم قبل انتهاء الدورة التدريبية. ولا يعدو المكان الذي ينقلون إليه (سجناً عسكرياً) إذ الهدف منه إبعاد الفيليين عن الجبهة والداخل.

وكان على صدام أن يعفيهم من الخدمة العسكرية بسبب التحاق الجنود العراقيين (الموثوق بهم) إلى جبهات القتال ضد إيران، بعدما تركوا فراغاً واضحاً في الدوائر والمؤسسات الحكومية وشغل الأعمال الحرة في الاسواق وكل ما يحتاجه الداخل لتمشية الأمور الحياتية الضرورية، ولكنه خاف من قيامهم ضده أو شغبهم عليه إذا تركهم منفردين بالداخل بوصفهم (طابوراً خامساً)، فملأ الجامعات والأسواق والمعامل والدوائر والمؤسسات بالمصريين والأجانب بدلاً منهم، وهكذا لم يستفد من الفيليين عسكريين ومدنيين.

 

فوج 330 المستقل

في البدء كان الجنود الفيليون يؤخذون من مركز تدريب تكريت إلى المواقع العسكرية في: (الناصرية) و(الديوانية) و(الحلة) و(تكريت) و(الناصرية) و(النجف) و(المثنى) و(البصرة)، وهناك ينسَّبون إلى (فصائل شغل) تلك التي ينسَّب لها في الغالب الجنود غير المسلحين والمعوقون من الألوية، لأن الخطة اقتضت عدم تسليحهم، فكانوا يقضون النهار يمارسون أشغالا شاقة في مصانع ومعامل الجيش كمعمل البلوك والطابوق في الديوانية، وعند اشتداد المعارك على الجبهات يساعدون جنود الألوية في نقل العتاد والأسلحة من المخازن إلى سياراتهم كالحمالين. وفي الليل يؤدون الخفارات (الواجبات الليلية) عزلاً حتى من العصي!

وبسبب كثرتهم بعد طلب مواليد متتالية، وجد صدام أن رقعة توزيعهم ستزداد مساحتها، وبالتالي وجد لزاماً عليه جمع أعدادهم الغفيرة في تشكيل عسكري.

وفي أواخر عام (1981) تأسس (فوج 330 المستقل) في (نواحي سنجار) ليجمع الجنود الفيليين، وتدل كلمة (المستقل) على استقلالهم عن الجيش العراقي. وهذا الفوج يختلف عن أي فوج في ألوية الجيش؛ لأنه بمثابة لواء في العدد. وبعد تأسيس الفوج صار الجندي الفيلي يأخذ كتابه من معسكره في تكريت إلى فوجه المستقل، وجعلوا آمراً على الفوج (المقدم جواد الدايني).

ضم فوج 330 مختلف التبعيات أكبرها الإيرانية وهي تقسم إلى قسمين: كرد فيليين (يشكلون الغالبية)، وفرس. ومن التبعيات الأخرى: هندية وبريطانية وروسية ويابانية.. فضلا عن المسيحيين الذين أعطوا أعمال الطبخ في بهو الضباط لتميزهم في الطهي. وتعرف تبعية هؤلاء من سحنتهم فترجعهم إلى أصولهم؛ فالهنود لهم السمرة الهندية ذاتها، واليابانيون عيونهم مشقوقة كاليابانيين. كما حمل بعضهم الأسماء المعروفة في تلك القوميات فأحد الجنود من التبعية الروسية اسمه (إيـ?ان) وكانوا يلقبون تندراً (إيـ?ان الرهيب)!! وكان مخترعاً، فقد صنع من (السكراب) سيارة يركبها في إجازاته، واقترح صنع آلة لرفع الجنود من الأرض إلى قمة (جبل بمو) بوقت قياسي بدل صعودهم بمشقة في ست ساعات أو أكثر، ولكن آمر السرية لم يوافق لتكلفة المشروع. وأسماء الكرد الفيليين بين العربية والكردية مثل: قيطاز، كوكز، شمّه، گنجلي، ?ه‌له‌شير وغيرها، وكذلك بقية الأعراق.

في نيسان من عام 1982 جاءت الأوامر بتحرك الفوج إلى بعقوبة، وسط إشاعات قوية تقول: إن الفوج سيشترك في المعارك على جبهات القتال، وقد كانت مراوغة خبيثة من الطاغية كما تبين فيما بعد. بقي الفوج يومين في بعقوبة، بعدها تم تحريكه إلى منطقة (زين القوس)، وبقي الفوج شهراً كاملاً هناك. خلال هذا الشهر وضع صدام الفوج في اختبار لزجهم في إحدى المعارك الخاسرة للتخلص منهم نهائياً. كان جنود الفوج يقومون في هذا الشهر بحفر مواضع وملاجئ للجيش العراقي في العمق من الليل إلى ما قبيل الفجر، ويقضون النهار في المقر.

 

رفض الفيليين القتال على الجبهات

وفجأة جمّع المقدم الدايني الجنود ومعه ضابط (مقدم) جاء من (القصر الجمهوري)، فأعلمهم الاخير أن القيادة تريدهم أن يشاركوا في الحرب بوصفهم عراقيين ليقفوا مع إخوانهم في  جبهات القتال!! وفي تلك الأيام كان التسفير على قدم وساق، وقد جاءت الأنباء إلى الجنود وهي تلتهب ناراً فأكثر الجنود شمل التسفير ذويهم أو أقاربهم ولاسيما أهل بغداد.. وعلى إثر ذلك عمت موجة عارمة من الاستياء والتذمر بل التنمر بين الجنود، وصاروا ولاسيما مَن شمله التسفير يعلنون احتجاجهم واستنكارهم، مما دفع آمر الفوج ومساعده وباقي الضباط إلى عقد سلسلة اجتماعات لتهدئة الجنود.

وأمام استمرار الاحتجاج ولحساسية المنظومة العسكرية، أخبر آمر الفوج الجنود أنه نقل هذا الانطباع إلى بغداد وما عليهم إلا انتظار ما تقرره السلطة. وبعد مدة جاء خبر أن القيادة سترسل لجنة إلى الفوج للنظر في أمر الجنود، وكانت الحرب في ذلك الوقت مستعرة على الجبهات. ومثلما يكره الجنود الذهاب إلى مشاركة غير مشكورة ومغفلة على الجبهة، فإن ضباط الفوج كانوا في ظل الحالة التبعية يحافظون على حياتهم بالبقاء في الفوج وعدم الذهاب إلى جبهات الموت، لذا كان من مصلحتهم بقاء الفوج في الخلفيات. وهكذا كانوا يتصلون بالجنود ويشجعونهم على احتجاجهم ويطلبون منهم التحدث بشدة أمام اللجنة القادمة من القصر الجمهوري وإعلان رفضهم التسفير والمشاركة في القتال، وقد طبق الجنود هذه التوصيات بحذافيرها.

وأمام اللجنة المؤلفة من ضباط كثيرين بعضهم برتب عالية، تعالت أصوات الجنود الرافضة المحتجة والمعلنة: (كيف تطلبون منا المشاركة في القتال وانتم لا تزالون تسفرون ذوينا وأقاربنا وأبناء جلدتنا؟ أولاً: هذا إجحاف بحقنا وعدم احترام واعتراف بمواطنتنا، وثانيا: إننا على الجبهات قد يقاتل الشخص منا أخاه أو قريبه المسفر المتطوع (في الجانب الآخر)). كما قالوا كلاماً كثيراً غير هذا مما حدا بصدام بعد رجوع اللجنة أن يغير الخطة فيأمر بعدم زجهم في الحرب ونقلهم إلى (كلار) التابعة لمحافظة السليمانية. وهنا قرر الطاغية أن يضرب الكرد بعضهم ببعض، وهي خطة لا تقل خبثاً وغبناً عن مشاركتهم في الجبهات وقتال ذويهم أو أقاربهم. ولكن صداما سيظل يتحين الفرص لتمييعهم  في الألوية المقاتلة، لأنهم إذا صاروا أفراداً لا يستطيعون غير الاستسلام بصمت للموت في جبهات القتال وهو ما يحلم به.

في مايس من سنة (1982) أصبحت كلار مقر الفوج المستقل، والمهمة المناطة به تأمين طريق الجيش العراقي من الـ?شمر?ـة عبر المناطق الكردية، فانتشر الجنود على شكل ربايا ومقرات للسرايا والأفواج من جلولاء إلى فتحة سرتك قريباً من السليمانية، فوق التلال والهضاب وعلى أراضٍ منبسطة وفي أعالي الجبال أيضاً كجبل (بمو) و(خوشك). وهي مسافة شاسعة جداً، وهذا الاتساع يعطي الرقم الدقيق لعدد جنود الفوج وسيتضاعف حين يتحول إلى لواء.

وحال وصول الفوج تم تسليحه بالأسلحة الخفيفة، وهي أول مرة يتسلم الجنود فيها السلاح. وقد حقق صدام ما أراد في خطوته هذه؛ فمن جهة أنه لم يخسر موالين يُشغلون بحماية هذه الطرق والمناطق الداخلية، ومن جهة أخرى ضرب الكرد بعضهم ببعض: السوران بالفيليين، وعلى الرغم من ارتياح الأهالي في هذه المناطق الكردية لجنود من قومهم يتحدثون بلغتهم ويغارون على حرمهم. لقد كان لقاء الأخوين (الكرديين) حميمياً؛ تعانقا وتصافحا وتوادَّا ولكن غارات (الپيشمرگه) لم تكن تستثني أحداً في الجيش العراقي فكل من يلبس الخاكي يرونه عدواً مبيناً. كما أن الجيش كان لا يبقي ولا يذر (تنفيذاً للأوامر) فسقط ضحايا من الطرفين؛ لأن السلاح أصم أبكم لا يعي الأخوَّة.

 

استمارات وتسفيرات

في شهر آب من هذه السنة ولأول مرة وزعت على الجنود كافة (استمارة معلومات) تضمنت (22) فقرة فيها استفسارات عن وجود معدومين أو مسفرين أو هاربين خارج العراق، فملأ الجنود الاستمارة بسلامة النية أو بسبب تخويفهم عاقبة عدم الصدق، فتم اعتقال (66) جندياً اثر ذلك ممن اعترفوا بوجود معدومين أو مسفرين أو هاربين لديهم.

وقد هز خبر اعتقالهم الفوج هزاً، كما شمل الذعر عوائل الجنود وصار يسأل بعضهم بعضاً عن أبنائهم إذا تأخرت إجازاتهم خشية أن يكونوا من المعتقلين، لأن أغلبهم لديهم مسفر أو معدوم أو هارب. واستمرت (استمارات المعلومات) لتقع في حزيران من عام 1984 مأساة مشابهة، اذ جاءت لجنة من بغداد حققت مع جنود ثم اخذوا إلى بغداد وتم سجنهم في (أبو غريب)، ومنهم (صلاح حياة) الذي بقي في السجن أربع سنوات وأطلق ليموت بعدها بقليل. وقسم منهم ارجعوا إلى الفوج فسجنوا فيه وأطلقوا بعد سنة. وكانت اللجنة تحقق مع الجنود بلا رحمة أو أخلاق فأحد الجنود المحقق معهم وكان قد سفرت والدته، صرخ الضابط بوجهه قائلاً: (وماذا تفعل أمك في إيران هل تمارس الجنس؟!). وتكررت استمارات المعلومات والاحتجازات في عام 1985 أيضاً وخسرنا أعزاء علينا.

 

معركة تيلاكو

في 10/12/ 1982 وقعت معركة دامية مؤسفة في (تيلاكو) أو (تيله كو)، وهي منطقة تقع على طريق (سر قلعة) ويستمر الطريق اليها سهلا مكشوفاً حتى يقترب منها فتقوم هضبة عالية كأنها جبل علواً وفوقها تقوم مقبرة، وفي قبالتها تقوم سلسلة هضبية غير مستقيمة الا انها طويلة وقابلة لاخفاء فوج كامل، كما ان صخورها تتيح للرامي المختبئ حماية من الرصاص.

في ذلك اليوم الذي وافق يوم جمعة، ذهب الجنود المجازون من مقر السرية في تيلاكو بعد تجمعهم من الربايا الى سرقلعة. وكانت قافلة المجازين تتكون من ناقلة أشخاص مدرعة واحدة فيها جنديان، وعجلة واحدة (إيـ?ـة) بلا حماية سوى الجنود المجازين، وفي سرقلعة يسلم المجازون اسلحتهم وينزلون الى بيوتهم ويتسلمونها عند التحاقهم ليكونوا مسلحين في هذا الطريق الخطر ملتحقين ونازلين، ويرسل في الاعتياد مع المجازين البريد والارزاق.

عندما توسطت القافلة البسيطة الهضبة العالية والسلسلة الهضبية في منخفض أشيع بأنه نهر متيبس، ظهر الپيشمرگه. كانت أول إطلاقة على سائق العجلة (صلاح عبد الهادي مواليد 1956) وهو فيلي من علي الغربي فأردته في الحال، وبعد مصرعه المباغت قفز الجنود جميعهم من العجلة وصاروا يطلقون النار بشكل عشوائي بينما كانت رميات الپيشمرگه مصيبة لأنهم يرون الجنود ولا يراهم الجنود، ولأنهم محتمون بالصخور والجنود مكشوفون لهم، فقتل سبعة جنود. وعندما توقف رمي الجنود نزل الپيشمرگه وأسروا الباقين. وتقدم أحدهم بقاذفة RBG7 ورمى ناقلة الجنود المدرعة، ولكون الضربات قريبة كانت الناقلة تتمايل كالزورق في موج عاتٍ، مما دفع احد الجنديين الى القفز خارج الناقلة توهماً بالنجاة فأردي في الحال واستسلم الثاني. وفي الحال قفز احد أفراد الـ?يشمر?ـة فوق الناقلة ومعه (مفك) وفتح السلاح BKC فوقها وأخذوه مع العجلة والجنود الأسرى وهم نحو عشرين أسيراً.

وكان يرافق الهجوم على القافلة هجوم على السرية الا انه اريد به مشاغلة مقر السرية والربايا المحيطة بها. وبعد ان اسر الپيشمرگه الجنود جعلوا يتوغلون بهم في أعماق جبلية، وكلما وصلوا مرتفعاً أطلق احدهم رصاصة لينزل أفراد يلتحقون بهم حتى وصلوا مقرهم.

كان الجزع في الفوج من قبل الجنود شديداً عليهم وخاصة على صلاح عبد الهادي لأن بمسؤوليته عائلة كبيرة، بينما كان آمر الفوج غاضباً على القتلى والأسرى إذ عدَّهم متخاذلين وكتب في ذلك تقريراً إلى آمر الفرقة. وسرعان ما زار آمر الفرقة المنطقة ودرس بدقة عسكرية مهنية ظروف الهجوم من جوانبه كافة، فعلق قائلا:" للحقيقة أقول لو كان مكان هؤلاء الجنود القليلين فوج كامل لما استطاع المقاومة، وأنحى باللائمة على الفوج وضباطه لان القافلة حمايتها غير كافية مما دفع الفوج إلى زيادة عدد قطع القافلة وزيادة جنود الحماية.

وفي مقر الپيشمرگه قضى الجنود الأسرى أسبوعين، وقد اخذوا أسلحتهم وطاقياتهم (البيريات) ومعاطفهم العسكرية (القماصل). وفور وصولهم التقاهم غلام كردي في نحو السادسة عشرة من عمره وألقى فيهم محاضرة بالعربية، كال فيها اللعنات لصدام حسين والجيش العراقي وبيَّن جهادهم المشروع ضده. وذكر الجنود الاسرى ان الپيشمرگه كانوا يسمعونهم حواراتهم وهي تتضمن آراء شيوعية، وكان يجادلهم احد الاسرى ويفند تلك الآراء وهم ينزعجون وقد هددوه مرتين بالسلاح لو انه خالفهم، فطلب الجنود من زميلهم ترك الجدل وانتظار الفرج. وبعد الاسبوعين سلموهم الى مختار قرية قريبة من السرية، واذا بجنود السرية يتفاجؤون بمجموعة جنود محلقين بملابس عسكرية اعتيادية بلا معاطف تقيهم البرد القارس يتجهون نحوهم!

 

التحاقي بالفوج

في الشهر الثالث من عام (1983) التحقتُ ماراً بمعسكر تكريت بالفوج في كلار، ونسِّبتُ على السرية الثالثة وتعرفت إلى بعض الجنود الجدد فضلا عن رفاقي في معسكر تكريت من مواليدي (1964). وفي تلك الأثناء، وتحت تأثير جبنه ومساومته لكرد شمالي العراق، أعلن صدام تسريح الجنود من القومية الكردية فشمل الكرد الفيليين، وبالفعل تم تسريح بعضهم وكنت أتهيأ للتسريح.

ولكن صداماً لدكتاتوريته كان ارتجالياً وفاته أن الفوج يضم النسبة الكبيرة من الكرد الفيليين، فتدارك قراره بإلحاق يجعل التسريح للكرد في منطقة (الحكم الذاتي) حصراً، أي استثنى الفيليين فقط وسرح ما سواهم، فأسقط في يدي بعدما أعيد المتسرحون إلى الخدمة، وقد التحقوا ضمن خدمة الاحتياط حتى الذين مضى على وجودهم في خدمة المكلفية أشهراً. ولم يمضِ وقت طويل حتى نقلنا إلى منطقة بمو وفيها جبلا (بمو) و(خوشك) و(فتحة سرتك) التي تقود إلى جبهات القتال الشمالية وهي بين كلار والسليمانية، لأعيش في هذا الجيش تراث مأساة الفيليين وتليد أوجاعهم.

وعلى جبل (بمو) تمشيتُ أجوب الأرض شبه المستوية في قمته، وكنت أراها من الأرض ولا أظنها إلا مدببة كالناب. وانطرحتُ مرة وأنا أصوّب ببندقيتي على قطيع من الخنازير راح يتقافز من الرصاص دون أن يسقط واحد منه، وقد سمعت أنها مكسوَّة بطبقة من الشحم تحول دون تأثير الرصاص وغيره فيها، لذا كانت تقدم في اقتحام الغابات لان الأفاعي لا تؤثر فيها بسبب تلك الطبقة من الشحم. حينما استلقيتُ على ظهري تحت شجرة بلوط عملاقة تذكرت الناس الذين التقيتهم في كلار وكيف لأول مرة اسمع لغة كردية يُتُفاهم بها.. نعم كنت اسمع أبي وأمي يتفاهمان بالكردية ولكن بكلمات قليلة وبين مدة ومدة، ورأيت لأول مرة الزي الكردي فكردنا يلبسون الملابس العربية عدا (الـ?راوية) وهي أيضاً تشبه اليشماغ الذي يلبسه العرب بطريقة لبس مختلفة.. لقد حاولت إيجاد تبريراً لغوياً للكلمات الكردية التي سمعتها في كلار والغريب أنني كنت أحاول أن أجد لها تخريجاً عربيا؛ فمثلا كلمة (به‌ياني) وتعني (غداً) خرجتها على أساس (بيان) أي وضوح وهكذا يبين الصباح فيكون (به‌ياني)!! ولكن هذه السذاجة في التفسير والتبرير محاولة لتعمق اللغة الكردية وفق معطيات ما عندي ووفق قاعدتي العربية الخالصة، ولذا قررتُ أن أتعلم الكردية برغم ظروف الجندية ومع الوقت والى التسريح عام (1990) تعلمت تقريباً (60%) من الكردية السورانية، أما الفيلية فلم أتعلمها أو أتعلم منها إلا كليمات غير مضبوطة.

ثم نهضت أتمشى وأتطلع في تلك البيئة المنعزلة التي أتاحت لي قدراً كبيراً من التأمل، ثم رحتُ أنظم الشعر بطريقة أخرى هي كتابة الشعر الفصيح بقالب (الابوذية)، ومشيت في الكتابة حتى أتممتها قصيدة! وصحت بقهقهة ساخرة في أعالي الجبل: أبوذية وباللغة الفصيحة وعلى جبل كردي!!

 

اللواء 444

كان الفوج في تلك الأثناء يضم ست سرايا، وهو خلاف نظام الجيش إذ يتكون الفوج حسب النظام العسكري من ثلاث سرايا. وتعادل السرية الواحدة سريتين أو ثلاثة من سرايا الجيش العراقي، مما اضطر القيادة إلى تحويله لواء. وهكذا صار لواءً اسمه (لواء 432) ثم غيروه إلى (لواء 436)، ولكن لم  تقتنع القيادة أو صدام تحديداً بهذا الاسم بعدما ضجت به الحيرة في أمر هذه اللواء، وان تغيير اسم اللواء ثلاث مرات في مدة وجيزة يفسر اهتمامه الشخصي بأمر تسميته حرصاً منه على اختيار اسم يطفئ غليله، ويؤكد ذلك الاسم النهائي الذي توصل إليه. لقد داهمه مجدداً خيال الأفعى المقضضة لقيامه ومنامه لذا اشتق منها اسم اللواء فسماه (لواء 444)؛ لان رقم (4) يشبه أفعى ملتوية! أي كان اللواء بمثابة ثلاث أفاعٍ ملتوية تنفث سماً وتتأهب للدغه.

 

رؤوس بشرية للبيع

عند فتحة سرتك يقف جبلان كبيران (بمو) و(خوشك) وتجري في الأسفل وديان صغيرة بمياه العيون الحلوة، وتنتشر أشجار مختلفة طبيعية من الحمضيات والكروم والبلوط وتفترش الأرض خضرة نباتات مختلفة كالريحان والبطنج، فضلا عن الحشائش والنباتات الموسمية. وعند اجتياز فتحة سرتك إلى الداخل تشاهد غابة كثيفة في وسطها نافورة تقذف الماء إلى الأعلى بقوة بلا ماطور او كهرباء بل بدفق ماء العيون المحصور (وسمعنا انه مكان البارزاني). إنها الطبيعة الساحرة التي سمعتُ عنها، ويزيدها سحراً وتأثيراً أنها للكرد الذين أحبُّهم بالفطرة وانتمي إليهم بالفطرة ولكني قبل هذا لم أرهم أبداً. كنت أسرِّح العين في الجبال العملاقة وصخورها الملونة التي لا يرقى إليها الطير وقد استحوذ عليَّ الحلم فنسيت سجن الجيش والحرب. وقادني سحر الجبال وحب الاكتشاف ونشاط الشباب إلى تسلق جبل خوشك مع اثنين من زملائي للبحث عن طريق أخصر من المعهود واقل ساعات صعود، غير أننا بالكاد سلمنا من المزالق وقطعنا المسافة بسبع ساعات أو أكثر!

ترى كيف يعيش الحبَّ شخصٌ قذف في قعر الخدمة العسكرية مرعوباً فوجدها هنا أمراً مرغوباً؟!! ونسي انه ترك أهله في أقصى الجنوب إلى الغربة في أقصى الشمال؟ ألأنه صار في موطن الكرد فأحس بأنه استعاد كرديته؟

ولكن سرعان ما أعلمتني الحقيقة مأساتي فنضجتُ بحجم الوعي، وتبينت الحرب شوهاء قبيحة وأبطالها بمواصفات مجرميها، وشاهدت الوجه الآخر للمكان فأرجعني بقوة إلى سبب وجودي المقيت فيه. فقد سمعت جلبة وأناسا يركضون مرعوبين فتصورت بركانا على وشك الانفجار. ولكن حتماً هو ليس بركاناً، فحين ذهبت إلى قلب الحدث عرفت ان كردياً من المنطقة جاء يحمل كيساً كبيراً فاستقبله آمر سريتنا وبعد كلام قليل أكفأ الكيس فتدحرجت رؤوس مقطوعة مدماة ملء الكيس على أنها لأشخاص من الپيشمرگه. وتلك أول مرة أعيش الرعب وأرى الموت وعليَّ أن أتوقعه منذئذ. قالوا: إن صدام حسين يعطي على كل رأس يحمل إلى اللواء مبلغاً باهظاً.. وعلمت لاحقاً أن هذا السفاح الخسيس كغيره يقتل كرداً رعاة من بني جلدته ويدعي أنهم پيشمرگه! بل أخبرني أحد الواقفين المشاهدين أنه رأى بين الرؤوس رأس طفل!

وفي الربية أدركت أن  الوقت يمضي بليداً أو يقتل صبراً، فيترك آثاره الحزينة على الوجوه التي يعتادها البؤس واليأس، وعلى الأماكن الموحشة التي تحيط بالربايا والمقرات فتذكرهم بأنهم يعيشون في مكان وحالة غير صالحة للإقامة والعيش وليس ثمة مستقبل في انتظارهم. ويكاد يقفز الوقت قفزات رتيبة وثابتة ثلاثاً على قدر وجبات الأكل: الفطور، الغداء، العشاء، فليس لهم شيء لذيذ غير الأكل. وقد عشت زمناً ألوم (حسين علي مراد) لأنه تشاجر بسبب الأكل حين أفسده الذي طبخه لنا فجعل الرز (التمن) عجيناً، وأخذ يصيح في وجهه ويبالغ في القضية ويقول: (وهل عندنا شيء غير الأكل)؟ ولكني عذرته فيما بعد وللأسف بعد وقت طويل، وسامحته وصرت ألوم نفسي لأني لمته في حينها، ووجدته على حق (وهل كان عندنا شيء غير الأكل)؟

بعد نحو شهر قتَل احد الجنود الفيليين (عماد كريم) صديقه الحميم (إسماعيل) بالخطأ فوق جبل خوشك. وكان عماد مع مجموعة من الجنود يصعدون إلى أعلى الجبل الذي يستغرق صعوده نحو (ست) ساعات، وكان اسماعيل (يرحمه الله) صديقاً حميماً لعماد، وكان قد وصل القمة قبله. وحينما وصل عماد إلى القمة أراد الجلوس من فرط التعب، وكانت الملاجئ (الغرف) تبنى منخفضة حيث يحفر لها مقدار متر في الأرض، وهكذا جلس عماد على الملجأ بينما كان يجلس أمامه على ارتفاع يوازي ارتفاع الملجأ جنود سبقوه في الوصول ومنهم إسماعيل. وصادف جلوس عماد على بندقية مفتوحة الأمان، فصارت أصابع يده اليمنى على الزناد، فانطلقت أربع رصاصات إلى الأمام لتضرب إسماعيل: واحدة في حنكه وواحدة في جبينه وثنتان في صدره. وحين وجد عماد صديقه وهو يغرق بسيلان الدم الساخن وجروحه الفاغرة تشخب، حاول الانتحار بإلقاء نفسه من أعلى الجبل فامسكوا به، وتم سجنه في اللواء بمنعه من الإجازات فقط وبحكم ميسَّر (ستة أشهر) لعدم قصديته.

وكلاهما تعرفتُ إليه، كان اسماعيل قبل نقلنا إلى الجبال في كلار يتحدث إليَّ أثناء الواجب عن طموحه بعد التسريح (تسريح الكرد) وقال: إذا لم يسرحوني سأنتحر! وعماد عشت معه بعد الحادث في ربية واحدة مدة قضائه محكوميته..

وفي اثر هذا الحادث تم نقلنا إلى معسكر للتدريب لإتقان استعمال السلاح، وبعدها وزعونا على ربايا في الطريق بين كلار وبيباز.

 

إيرانيون ولو طاروا

في بيباز تنقلت بين ربايا عدة وتعرفت إلى جنود فيليين أطباء ومهندسين وحملة شهادات عليا عانوا قضية التبعية. كان احد الأطباء الذين تعرفت إليهم مكلفاً بحمل الماء على ظهر (حمار) من أسفل الربية إلى الأعلى، وكان الحمار بذمته وأصر أن يأخذ معه صورة إدانية. وتعرفت أيضاً إلى المهندس (علي محسن) فاخبرني انه كان مهندساً في المفاعل الذري العراقي ونقل مطروداً إلى اللواء بسبب التبعية. قال: أرسل بطلبي المدير المسؤول، ولما دخلت غرفته نهض من مكانه وجاء نحوي غاضباً ثم صفعني بقوة وصرخ بصوت عال: (أنعل أبوك لابو إيران)!! علماً بأن المهندس علي لم يكن هواه مع إيران ابداً وكان علمانياً صرفاً.

وحدثني صديقه (عبد الإله) وهو مهندس أيضاً، قال: كنت في ميناء البكر، وفي احد الأيام حدث خطأ في إقامة تجربة في مختبر وكنت يومها مجازاً، فاحترق جانب من المختبر، ولما شكلت لجنة تحقيقية اتهمتُ أنا لأنني كما ذكروا (من التبعية الإيرانية.. ولا يفعل ذلك عراقي) فعوقبت وتم نقلي إلى اللواء. وذكر من قبيل ذلك جندي مسيحي (تبعي)، كان في دائرة حساسة وحين عرفوا انه (تبعية) نقلوه إلى اللواء، على الرغم من كونه مسيحياً أي لا توجد أية علاقة روحية بينه وبين الثورة الإسلامية في إيران!!

وربما من وحي الأمل أو اليأس كنت ارسم باب الملجأ من الداخل في كل مكان أنقل إليه. انه يرمز إلى الخروج، ولكنها أبواب لا تخرج ولا تخرِّج. كما كنت انظر إلى الطيور المحلقة..أراها تستطيع الفرار أو هي فوق الحبس. وأخذت اصطاد الحشرات الطائرة لأعرف كيف تطير، وفكرت بجدية في صنع آلة تطير لأهرب بها بعيداً عن الجيش وصدام والبعثيين، ولكن تبدد كل شيء وأحسست بالسذاجة حين قال لي المهندس علي محسن: إن هذه العملية تكلفك الكثير من المال والوقت، وهي بحدود ميولك الأدبية ضرب من التوهم والتخييل.

وفي أحد أعياد (النوروز) احتفل الأخوان الكرديان: الأهالي في الجبال والقرى والجنود الفيليون في معسكرات الجيش. حينها كسا الربيع الجبال والوهاد أبهى حلله، ونشر الورد والزهر أريجه في الوديان التي علت بأغاني الرعاة وثغاء الماشية، وألبست الشمسُ الأرضَ والأفقَ الممتدَّ أساورَ وقلائدَ من شعاعها الذهبي، فانطلق من فم احد الجنود الكرد الفيليين نشيد (دلم يادي وطن كرد، نزونم ده وطن كي يادي مَن كرد؟/ تذكر قلبي وطني فمن في وطني تذكرني؟)، وصاحت مجموعة من وراء الساتر على كرد كردستان (قلوبنا معكم).

 

الفيليون والكردستانيون

كان تعامل صدام مع كرد كردستان كما لمسه وتحدث به الكثيرون من جنود اللواء مختلفاً تماما عن تعامله معهم، وهم يحملون السلاح في وجهه وكانوا يمثلون له قلقاً حقيقياً وتاريخاً دامياً، وليس ببعيد عام 1975 الذي خشي فيه أن يدخل الملا مصطفى البرزاني بغداد عليه ويجتثّ أنفاسه.

كان الجنود الفيليون يتحدثون بتعجب عن تلك المعاملة الغريبة..فقد سرَّح أبناءهم من الخدمة العسكرية.. ونسمع من الشباب الكرد في المدن والأقضية التي يسكن فيها اللواء قولهم: (ما أسوي عسكرية) أو (عسكري ناكه‌م). وأذكر مرة كنت ضمن حماية أجانب ألمان يعملون خطوط هواتف بين كلار والسليمانية، وكان معهم كرد بصفة عمال أو بصفة أخرى، فقال لي أحدهم ببرود تام:" صحيح أكو حرب بين العراق وإيران"؟!

بل كان العسكري الكردستاني قبل قرار تسريح الكرد من حقه أن (يهرب) من الجيش ويسجل في (الفرسان) ثم يقف في سيطرة عسكرية يحاسب الجنود الغائبين او الفارين! وقد غرقنا في الضحك ونحن نشاهد أحد (الفرسان) يحاسب جندياً غائباً، وكان قبل ايام في اللواء عسكرياً ثم هرب. حتماً هم فرضوا على صدام تلك المعاملة المختلفة؛ فهو اذا لم يسرحهم سينقلبون پيشمرگه، ولكن الوضع بينهم وبين الفيليين مختلف على كل حال، فالكردي اذا كان كردستانياً فهو عراقي محترم، واذا كان فيلياً فهو لا عراقي ولا محترم.

 

الجنود في الربايا

في داخل الربيئة أو (الربيَّة) كما ينطقونها يعيش جنود اللواء (الكرد الفيليون والتبعيات الاخرى) ، فضلا عن جنود عرب، وجنود أعضاء في حزب البعث أعدادهم تطعيمية جيء بهم لإحكام السيطرة وعدم ترك الجنود الفيليين وحدهم. وآمر الربية عربي في الغالب، وقد يكون فيلياً في حالات الضرورة، أو بديلا من آمر الربية في حالات طارئة كنزوله في إجازة او نحوه. أما آمر السرية فصاعداً فهو عربي فقط. وضباط اللواء وآمروه من الموصل بالدرجة الاولى والرمادي وتكريت ثانيا وثالثاً من كرد الشمال.

وكان الحزبيون يراقبون الفيليين بل يتربصون بهم الدوائر، ولا أزال أذكر موقفاً عايشته فأعجبُ كيف كنا نعيش في هذا اللواء بلا أدنى ثقة بولائنا، ونحمل اسلحتنا معرَّضين للموت ونحن لا نساوي حتى المرتزقة في نظر الدولة، ففوق ما نعانيه ونعرِّض له انفسنا من مخاطر يتحينون بنا الفرص للنيل منا. كان (منعم كاظم) مع مجموعة يسمعون (كاسيتاً) لشخصية هزلية في مواقف ضاحكة تدور في الاهواز وهو باللغة العربية، فقط يذكر في الشريط اسم الاهواز (التي يصر صدام على عروبتها وعراقيتها) بين حين وآخر. فاقتحم (الحزبي) الغرفة واخرج الشريط من المسجل عنوة وقال: " هاذه شريط ايراني! كلكم أذبكم جوه " ثم التفت الى منعم وقال له بلهجة الجلاد " ابن عمي.. هاذه يبقى يمِّي "!! فتوسل به ومنعم وتوسلت المجموعة معه فلم يلتفت لهم بعدما ظفر بصيده.. وقد استفز الموقف حتى الجنود العرب (غير الحزبيين) فراحلوا يكلمونه ويؤكدون له بأن منعماً لا علاقة له بايران وهو على نيته ولا يقصد غير الضحك، كما ان الكاسيت ليس في السياسة. فقال لهم الحزبي: ومن أين حصل عليه وهو من الاهواز؟! وبعد لأي تخلى عن فكرة معاقبة منعم ومجموعة الفيليين معه وكسر الشريط وهو أسف لانه أجبر على ذلك.

وكان الجنود الفيليون كثيري التندر وقد أطلقوا على اللواء اسم (تـ? تو? Tip Top) علامة (الآيس كريم) المعروفة، تندراً أو أخذاً بالمعنى الحرفي للكلمة وهو (رأس القمة) حتى غلب هذا الاسم على اللواء.

وما كانت النكتة تغادر هؤلاء الجنود والأحاديث عن الكرد وعاداتهم وبطولاتهم وملؤهم ثقة بالنفس، حتى أني كنتُ أبهر بهذا الخيلاء الذي يكتنفهم وهم في قعر المحنة. وكانت للغة الفيلية حضور في تلك الجلسات ولاسيما من كرد بغداد إذ قلما أجاد كرد المحافظات لغتهم الكردية.

وكانوا يسخرون (ينصبون) من آمر الربية والسرية صعوداً إلى آمر العراق، وحفلات (النصب) تقام باستمرار وبلا تهيؤ. ومعروف (جعفر) بتقليد حركات صدام حسين وصوته، ووقف مرة يقلد صدام وهو يتوسل الصلح من القيادة الإيرانية، ووقفت مجموعة تقلد الإيرانيين وهم يرفضون الصلح، فأخذ صدام أو (جعفر) يضرب على رأسه ويرفس الأرض برجله.

وفي يوم أخذوا بأطراف الأحاديث وطرائف النكت بعيداً عن الدولة وأزماتها وحربها الآثمة، وفي ذلك الحين كانت إيران تقارب استرجاع المحمرة من الجيش العراقي، فدخل الملازم سعدون الملقب بـ(أبو ذيبه) لصلافته وشدته، فوجد الجنود يضحكون فقال لهم: (لا تضحكوا نحن أقوى منكم)! فعدَّهم طابوراً خامساً للإيرانيين وهو تجنٍّ كبير عليهم.

 

لواء الذيب وقرية عمر بل

تعاور إمرة اللواء ضباط كثيرون منهم (عميد سامي) وهو فلسطيني و(العقيد بارق عبد الله الحاج حنطة) الذي جيء به لتأدية مهمتين، الأولى: كسر شوكة الپيشمرگه عقب فشل الهدنة بينهم وبين الحكومة، والثانية تشتيت (لواء التبعية). لكن العقيد بارقاً فشل فشلا ذريعاً في تحقيق الغايتين؛ ففي حروبه مع الپيشمرگه تأكد من قوتهم التي لا تغلب ولاسيما بعد معركته الأخيرة الفاصلة في قرية (عمر بل)، فعلى الرغم من إشراكه في الهجوم ألوية عدة ولاسيما (لواء 70) الملقب بـ(لواء الذيب)، واستعمال أسلحة ثقيلة مقابل قلة وبساطة أسلحة الپيشمرگه فقد كانت خسارته قاسية وفاضحة. ومن المفارقات أن الجيش لم يجرؤ على استعادة جثث قتلاه إلا بوساطة رعاة كرد نقلوها على البغال وحملوها إلى اللواء مقابل ثمن! أما الغاية الثانية وهي تشتيت اللواء فقد قام بنقل الفيليين على شكل دفعات، ولكن بعد نحو شهر توقف النقل.

بعد فشل العقيد بارق في مهمتيه غيَّر أسلوبه مع الاثنين (كرد الشمال والجنود الفيليين) فصار يتعاطف مع الكرد في كلار (مقر اللواء)، وساعد مادياً الكثير من فقرائهم. وتعاطف مع جنود اللواء وكان سبب نقله وشاية احد الضباط الحزبيين به إلى صدام بأنه يتعاطف مع التبعية. وقد نقل بالفعل، تاركاً شدخاً في سيرته العسكرية حتى انتهى به المطاف بالإعدام على يد المجرم حسين كامل.

 

النقل إلى الألوية وتوقفه الاضطراري

كان سبب توقف نقل جنود اللواء إلى الألوية زمن بارق، أن الجنود المنقولين حالما يصلون إلى الألوية الجديدة يقولون: (نحن تبعية إيرانية) مما كان يترك خوفاً لدى أمراء تلك الألوية، فيعيدوهم إلى لوائهم أو يجعلوهم غير مسلحين. وسمعنا أن احدهم رفض القتال فأعدم، وقيل عن آخرين إنهم (تخاذلوا) ولم اعرف معنى هذه الكلمة هل اعترفوا بالجبن أم رفضوا القتال شجاعة.

ولكن السبب الحاسم في توقف نقل الجنود يرجع اليَّ، وكنت وقتها في مقر الفوج الثاني في منطقة بيباز (باوه نور)، فقد جاءنا وفد من قيادة العميل صدام إلى مقر الفوج، واجتمع الوفد بجميع الجنود وقال قائدهم: " ليس المهم  أنكم تشعرون بالاضطهاد، ولكن المهم أن تكون القيادة راضية عنكم، ومهما نفعل بكم وبعوائلكم، عليكم بالمقابل أن تضاعفوا من إثبات الولاء للدولة بالقول والفعل حتى تصل القيادة إلى حالة الرضا عنكم"!!

لقد كنتُ أتحرق ألماً وأنا اسمع هذا التعجرف وهذا الاستخفاف الحقير بجنود عراقيين على رغم انف الطاغي الباغي. وفي الليل كتبتُ شعاراتٍ تناولت القيادة العميلة وصداما المأفون، وبعد ظهورها في الصباح ارتبك الجهاز الأمني والحزبي وتم الالتقاء بنا جميعاً وطلبوا منا كتابة كلمات وردت في تلك الشعارات ليقارنوا خطوطنا بالخط المكتوب ورفعت إلى بغداد، كما تم حجزنا في الفوج، ولكن استمرت كتابة الشعارات من جنود آخرين دفعتهم الغيرة.

وقد وضع عليَّ عين كما وضعت عيون على كل جندي فيلي. والتقى بي هذا العين مراراً وسألني أسئلة كثيرة، وطلب أصدقائي إثرها آخذ الحذر منه فأخبرتهم بأني اعلم ذلك، واستطعت أن ألبس عليه أمري واصرفه عني. وقد استمر حجزنا في مقر الفوج ثلاثة أشهر.

توقف اثر هذا الحدث نقل الجنود، وصرفت قيادة صدام كتابة الشعارات إلى ضباط الفوج على ظن أنهم فعلوا ذلك لكي يتوقف نقل الجنود ويضمنون بقاءهم أيضاً، كما فعلها الضباط سابقاً في زين القوس بتحريضهم الجنود على العصيان، ولكن تم نقل عدد من الضباط لاحقاً. واذ توقف نقل الجنود بكميات كبيرة، فانه بعد توقفه للاسباب المار ذكرها عاد بتقطع وعلى شكل أفراد أو مجموعات صغيرة حتى كانت تصفيته بعد هيكلته عام 1989- 1990.

وفي عام 1986 طالني النقل بعدما نقلت إلى مقر الفوج في (سر قلعة) ونسِّبت على سرية الإسناد بعد دخولي دورة في (الرباعية)، فنقلت إلى أحد الألوية الشمالية في الجبهة. وحال وصولي اللواء تبينت الفرق الشاسع بين ألوية الجيش العراقي ولوائنا. كان صوت المدفعية لا ينقطع في الخلفيات فتخيلت قوته في الخطوط الأمامية. وكان الجنود منجحرين في ملاجئ تشبه جحور الكلاب لصغرها ودخولها في الأرض. وحين كنت في دورة الرباعية اخبرني جنود الألوية عن الإبادة اليومية للجنود العراقيين في الجبهات حتى اذا لم يكن هجوم. وقال لي احدهم: في (عارضة سانوبة) معدل القتل (500) جندي يومياً، في حين كانت ملاجئنا غرفاً مرتفعة يعلو عليها ساتر ترابي، ولم نكن نسمع صوت مدفعية، ونشتري كل ما نشتهيه من الحوانيت المتنقلة التي تصلنا يومياً فضلا عن نزولنا الى المدن الكردية. وعندما كنا في مدينة (كفري) كنا ننزل الى المدينة يومياً فنأكل القيمر ونستحم في حمام السوق ونعود الى ربايانا. أي ابتلي الجنود العرب في الحرب بالموت قتلاً وابتلي الجنود الفيليون بالموت ظلماً.

فطلبت مقابلة الآمر، وحين لقيته أخبرته بأنني من (لواء التبعية)، قال: كلنا عراقيون وقبلك جاءنا جندي من لوائكم وقاتل بإخلاص مع إخوته العراقيين حتى استشهد. فقلت له: أنا أردت إعلامك فقط وانصرفت. فلحق بي (كاتب القلم) ومعه كتاب عودتي إلى لوائي.

 

طرد الفيليين من حزب البعث

شهد عام 1986 طرد الفيليين من الحزب. وكان صدام قد أرسل في عام 1983 قبل تشكيل اللواء اثنين من حزب البعث لكل سرية لكسب جنود الفوج للحزب. وكان التهديد الاشاري والعلني الدافع إلى أن ينتمي الجنود برمتهم الا من رحم ربي. وكان في السرية الثانية اثنان لم يأبهوا للتهديد وبقوا (مستقلين)، ويستطرد أخي علي الذي روى لي هذا الأمر وكان في السرية الثانية: " كان الرفيق الحزبي يجتمع بنا فيخرج (جليل) ومعه آخر لا أذكر اسمه، وكنا نعجب أو نستغرب من عدم انتمائهما بلا خوف أو تردد. وفي التسعينات حين هربت إلى إيران اضطراراً في حرب الكويت، تعرفت إلى (كاظم أبو زهراء) فاخبرني انه منذ الدراسة المتوسطة تعاهد مع صديق له اسمه (جليل) على عدم الانتماء لحزب البعث مهما كانت الظروف. فقلت له: لقد أبرَّ بوعده وحدثته عنه في الفوج".

ومن الغريب ان قرار الفصل من الحزب جاء مذيلا بعبارة الطرد لعدم الالتزام بالاجتماعات! مما اثار الاستغراب لدى الجنود فهم ملتزمون جداً من الخوف جداً، لذا قصد (ماهر) الرفيق المسؤول عنه فقال له: رفيقي، اذا كنت انا غير ملتزم فهل فلان وفلان وسماهم له غير ملتزمين وهم لم يتغيبوا مرة واحدة؟ فقال له الرفيق: اذهب واكفني شرك!!

 

بندقية غير محشوة

وأذكر في صباح باكر جداً، أخذونا إلى إحدى القرى القصية، كان الجيش يبحث عن أشخاص معينين فأزعج القرية وأقضَّ مضجعها، وحدث إطلاق نار وأصيب احد الجنود، وصار القتال في شوارع القرية، فأمسكت بندقيتي وكان عليَّ أخذ قرار. دمعت عيناي بشدة فها أنا أمام حالة قتال قوم أحببتهم من كل قلبي، قوم يتحدثون الكردية التي تفور في أعماقي صامته لأني لا أجيدها، وأرى في صورة شيوخها أجدادي فيخدش أسفي وجودي كله. وقررت قراراً في وقت يفتدي الأخ نفسه بأخيه وأبيه والموت يقرأ بالأسماء كيفما اتفق والأفئدة مشدوهة مذعنة لأزيز صوته.. قررتُ عدم التهيؤ للقتال  فلم أسحب رصاصة الى حجرة البندقية! مفضلا أن يقتلني من يصادفني على أن أقتله. ولكن لم يحدث شيء وانسحبنا، فكتب الله لي أن لا أقتل كردياً أو يقتلني كردي، فعددتها من نعمه الكبرى.

واذكر أسفي الشديد على جنود فيليين عايشتهم، بعضهم قتل وبعضهم حبس إلى الموت وبعضهم هُجِّر، وبعضهم انقطعت أخبارهم عني. ولم أزل استعيد ذكرى الهجوم على كمين من قبل الپيشمرگه بعد أن حصلوا على معلومات من جنود خونة، فسقط سبعة جنود فيليين قتلى وثلاثة جرحى. وإذ الجنود القتلى ساقطون أرضاً والجرحى يتلوون وينزفون، حضر آمر الفوج فذهب إلى الجرحى فخاطبهم بلهجة حادة غير آبه بأنينهم ونزيفهم قائلا: " لماذا لم تستشهدوا، لماذا أنتم جرحى" ؟!! وقد أثلج قلوبنا فيما بعد حين عرفنا أن آمر الفوج هذا لقي حتفه على الجبهة بعد وقت قصير جدا من نقله إليها.

وذهبتُ أتأمل الضحايا الأعزاء.. كانت وجوههم مثخنة بالدماء والذكريات كآخرين فقدناهم. لقد ذهبوا سدى في جهاد غير مأجور وجهد غير مشكور، وأسفت على أنهم لم يعبروا الصحراء إلى النجاة فقتلوا.. فتمتمتُ في أعماق نفسي: لقد صاروا في مكان آخر لا تفصلنا عنهم مسافة جغرافية، بل مسافة الشوق والحزن والذهول.

 

وشاية لبعثي تقتله

في عام 1987 انتقل فوجنا إلى خانقين للتدريب، فتعرفت إلى جميع أفراد سريتي (الإسناد) اذ نحن لا نجتمع في غير هكذا مناسبات نادرة لكوننا متوزعين في السرايا والربايا، وممن تعرفت إليه (أكرم) الذي رصدت به أن أيّ وشاية بفيلي ضد الدولة قابلة للتصديق؛ فقد اشتكى عليه رئيس عرفاء بعثي اندس بين الفيليين، وكان عمله حلاقاً يتيح له الالتقاء بهم كلهم. زعم رئيس العرفاء هذا أن أكرم قال له: إذا كبرت (حلا) بنت صدام حسين ستصبح عاهرة، وشهَّد شاهداً فيلياً على ذلك اسمه (صباح). كان صباح شخصاً معتدلاً وسائقاً مميزاً وفيتراً ماهراً. وقد لاحظته متعباً اثر نوبات الذهاب والإياب إلى المحكمة، وازداد اضطراباً مع الوقت علماً بأنه مجرد شاهد، بينما كان (أكرم) واثقاً من كذب الادعاء واثقاً في تصرفاته وحديثه.

بعد أن شاع حديث أكرم، صار الجنود ينفرون من رئيس العرفاء؛ فكلما جاء إلى مجموعة من الجنود انفضوا من حوله حتى صار منبوذاً من الجميع وأدرك هو ذلك. وفي فجر تدريبي بارد سمعنا صوت إطلاقة مخنوقة، وهرول الجميع إلى خيمة رئيس العرفاء فوجدوه غارقاً بدمه. بعد هذا الحادث الانتحاري أغلق موضوع أكرم وأفرج عنه، غير أن (صباحاً) ازداد تعباً، وسمعتُ لاحقاً من جنود في اللواء أنه مسه جنون، ولم ألتق به إلا بعد التسريح في التسعينات ببغداد.. أقبل نحوي بابتسامته وكلماته السريعتين، وحين تركني لاحظت في إحدى رجليه حذاءً فخماً ورجله الثانية حافية!

 

الأنفال وهدم القرى

وجاءت (الأنفال) أو الهدم الشامل للقرى الكردية بوصفها الساند الأول للپيشمرگة، وقد شارك في هذه العملية الجيش العراقي بمساعدة الكرد العملاء (الفرسان) أو (جاش= الجحوش) كما يسميهم الأهالي، وكانوا يعملون مع صدام بالمال فأثرى كثير منهم ثراء فاحشاً، وربما اشتغل بعضهم عميلاً مزدوجاً مع الپيشمرگة وصدام. وبأمّ عيني شاهدت الجاش يسرقون القرى الكردية التي فارقها اهلوها والكردَ الفيليين يعفون يداً وجناناً، بل يتأسفون ويجاهرون بالاسف..

كان واجب لوائنا في هذه العملية تمشيط القرى والاستحواذ على ما تركه الكرد من ماشية وأثاث وغير ذلك. وكان الضباط يريدون من الجنود أن يشتركوا في السلب والنهب بعدما قاموا هم والعرفاء بسرقة تلك الأموال، وقد سرق جنود من اللواء عدا الكرد الفيليين. وسرق عريف سريتنا (11) بقرة و(30) رأس غنم، ولم يعترض الفوج ولا اعترضت السيطرات طريقه وكأنها مسألة مقررة من الدولة.

وبلغ من الإجرام وإتلاف تلك الأموال أنهم بعدما شبعوا من اللحم صاروا يذبحون الشاة فيأخذون منها الكبد والقلب ويرمونها للكلاب والذئاب. وتتبع الضباط الجنود الفيلية الذين رفضوا السلب والأكل فقللوا عليهم (الأرزاق) حتى الصمون العسكري الذي كان فائضاً. وأخبرني أخي وهو في الفوج الأول أنه والجنود اكتفوا بالمعلبات والأعشاب الموجودة على التلول. ومرة قاموا بعمل الأكل من هذه الأشياء، وإذا بمجموعة من الضباط ومعهم (ملازم ثاني مجيد) كان حزبيا برتبة نائب ضابط فرقاه صدام الى ضابط. وكان يقول للجنود لا تنادوني بـ(سيدي) بل نادوني بـ(الحجي)، وكان يصلي معهم ويتذاكرون الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة. وحين رأى (الحجي) عشاءهم البسيط الخالي من كل شيء عائدٍ إلى القرية فقدَ أعصابه وصاح: اتركوا هذا الأكل واذهبوا الى القرية ففيها لحم غنم وتمن وطحين وعدس.. فأصر الجنود على (الأكل الحلال) فانصرف الحجي الحزبي غاضباً مع مجموعته الغاضبين، وسمع الجنود الحجي وهو يقول لرفاقه: (هذا دين ثالث ظهر لنا، سنتفرغ لهؤلاء بعدما نفرغ من الخميني).

وقد جعلت الأنفال (الأهالي) يغلون في مراجل حزن وحقد على الجيش.. وجلستُ أعلى الربية على كيس ترابي يمنع نفاذ الرصاص، وتأملتُ الوادي بيني وبين كفري البعيدة نسبياً حيث يسرح الرعاة وتلبس الأرض حللاً للزينة والأكل. وثمة نساء مسنات يبحثن في الأرض المزروعة عن أشياء تصلح للأكل، انهنَّ فقيرات ولكن ليس الفقر وحده أقرؤوه على وجوههنَّ حين تتقاطع نظراتي مع نظراتهنَّ المرتفعة والمنخفضة مع المنجل. ونزلتُ أتمشى نحوهنَّ، وحين تقربت شاهدتُ مخازن دموع كبيرة في تلك العيون الضيقة، يبدو أن القلق والخوف وتكاليف الحياة أجَّلت فتحها. وكنت على ثقة حين سألت إحداهنَّ عن سبب الحزن الكبير البادي عليها، فاندفع حزنها يتكلم.. ربما استعان بصوتها المتقطع ولكن ليس كثيراً فهي لم تقل إلا كلمات قليلة فقط. كانت تبكي على الپيشمرگه أملهم في الخلاص وترى أن حرق القرى سيفقدهم قدرتهم وظهورهم مجدداً وهي تردد بولولة (?يشمركه نه ما = الپيشمرگه انتهوا).. فتذكرت أغنية لفيروز بقيت أدندن بها انسجاماً معها في الأسف (راجعين يا هوى راجعين يا زهرة المساكين).

كنت أخشى أن يأخذ هذا الظلم الشديد والحزن الشديد الكرد إلى القطيعة مع العرب فيهيئ لبناء حدود طبيعية في الوطن الواحد..والحدود الطبيعية على الضد من المصنوعة عصية على الزوال، فقد تهدم جدار برلين الضخم ولم يتهدم جدار الكره الوهمي بين الألمان والانـ?ليز. كما حزنت على هدم القرى وفقدان الـ?يشمركه هذا السند المهم، ورحت أتطلع إلى عودتهم وظهورهم مجدداً على الرغم من تقاطع سلاحينا.. فنحن على أي حال جنود غير مخلصين لصدام لا أكثر.

 

ضباط نزقون وعملاء

امتلأ اللواء بالضباط النزقين فما أذكر ضابطاً حسن السيرة، فالقيادة توصيهم باللواء وبجنوده شراً، وحين يباشرون يتعلمون من الأقدم منهم كيف يعاملون الجنود المعاملة القاسية نفسها التي مارسوها هم. ومن هؤلاء ضابط نقل إلينا كالمعتوه يشرب الخمر في المقر ويأتي في زيارة القاطع وأينما ينزل يعاقب الجنود بلا سبب. وفي تيلاكو وسط الأمطار والعواصف زارنا آمر اللواء والعمل على قدم وساق لبناء ربية جديدة، وكنا ننام في خيم ريثما نكمل بناء الغرف. فقال آمر اللواء لآمر الربية: لا داعي للخيم..ما داموا يعملون النهار كله ويحرسون الليل كله!! أي انه عامل الجنود بأقل من الحيوان فللحيوان وقت للنوم والراحة معترف به.

ومع هؤلاء الضباط ضباط كرد هم في درجة أقل من ثقة الدولة. وهم وان حسنت علاقتهم بالجنود نسبياً فولاؤهم  للپيشمرگه أوقع أفراد اللواء في مأزق آخر إذ تعرضوا للموت مراراً ودفعوا بسببه أضاحي ثكل وألم. ومن ذلك أن ضابطاً كردياً في إحدى (الربايا) اتفق مع الپيشمرگه أن يسلِّم الربية لهم، ولكن عرفوا بأمره واعتقل ثم أفرج عنه في وقت قريب.

وأبشع ضحايا هذا الولاء للپيشمرگه ما حدث على طريق القرى: (سيد جه‌ژني، عمر بل، بكره شل) وهي تابعة لناحية (سر قلعة) من نواحي قضاء كلار، ويقال ان قرية سيد جه‌ژني (مقر العصاة)، وهو لقب كان يطلقه النظام البعثي على أفراد الپيشمرگه.

في سيد جه‌ژني كانت تقوم (ربية) فيها (15) من جنود اللواء. وفي يوم 8/ 3/ 1983 تعرضت هذه الربية الى هجوم كردي، فطلبوا المساعدة من مقر السرية في سر قلعة، وكان آمر السرية الملازم الثاني صلاح من الكرد، فأمر بإرسال قوة تعزيزية من (20) جندياً فضلا عن اثنين من الإسناد مع (هاون 82 ملم) وقام بقيادة القوة بنفسه. ولكن بدلا من أن يذهب بالقوة إلى الربية لفك الحصار عنها، ذهب بعيداً متوسطاً بين الربية وقرية سيد جه‌ژني فصار هدفاً واضحاً. وقد أمطرهم الكرد بوابل من مختلف الأسلحة وأردوا منهم نحو (10) أفراد وأسروا (9) وفر بالهاون الناجون وابقوا قاعدته للپيشمرگه. وبعد انتهاء الحادث المؤسف جاءت الإمدادات من الفوج والفرقة!

لقد كان هذا الحادث مروعاً في عموم اللواء، وترك جرحاً عميقاً في النفوس على الضحايا (رحمهم الله) ومنهم: أزهر، نبيل، قاسم لزگة، وصفي، ونصير الوحيد لأهله وأخ لست بنات... كما أثار الريبة والاشمئزاز من عمل الملازم صلاح الواضح النية والهدف. وقد قامت السلطة بنقله إلى الجبهة وحسب التصريح الذي قرؤوه على جنود اللواء (ليكون على المحك مع الأعداء ويُراقب مراقبة شديدة ويعدم فور قيامه بعمل خياني). وكان هذا التصرف لتهدئة الجنود، فبعد مدة ليست طويلة انتشر خبر القبض على الملازم صلاح بتهمة بيع الأسلحة للپيشمرگة، وبالفعل قدم إلى المحكمة وحكم بالإعدام، ثم خفف عنه الحكم، ثم أطلق سراحه.

 

هيكلة اللواء واستمرار محنة الفيليين

استمر اللواء بعد انتهاء الحرب حتى (تهيكل) في عام 1990، وكنت من الجنود القلائل الذين بقوا فيه الى نهايته فزادت ذكرياتي عنه. واستمر صدام يزدري اللواء وأفراده كما ظل يسفر ويسجن ويصادر حقوق الفيليين حتى استحقوا لقب (الزنوج البيض) وقد أفردت في كتابي (منامات ابن سيَّا) منامة خاصة بهم.

وعندما حدثت حرب الخليج، ومع تجنيد صدام الشباب العراقي لإشراكه بجريمته في احتلال الكويت الشقيق لإقامة حدود طبيعية من الكراهية بين الشعبين خدمة لأمريكا وإسرائيل، أعاد الفيليين إلى الخدمة مع أقرانهم. فذهبوا كالمعتاد إلى معسكر تكريت أولاً، لينقلوا بعدها ولكن هذه المرة إلى منطقة (النشوة) في البصرة وفي اللواء الحدودي (324)، الذي أصبح اسمه او رقمه (اللواء الثاني) ثم (اللواء الثاني عشر) في وقت قصير. لقد شددوا على الجنود بوصفهم (تبعية) وحصروهم في مقرات سرايا وأفواج اللواء الحدودي، فلا سمحوا لهم بدخول الكويت ولا سمحوا لهم بالوصول إلى الحدود المشتركة مع إيران. وكنت من الملتحقين إليه مجدداً، وفي معسكر تكريت التقيت أصدقائي الفيليين في ضيق آخر وحرب أخرى. ونقلت الى النشوة لألتقي بجماعة أخرى منهم. ولكن لم يتح لي معرفة أحوالهم بعد الهجوم الأمريكي فقد انسحبت إلى مقاعد الدراسة في كلية الآداب/ جامعة بغداد حيث أكملت البكالوريوس مخلفاً تاريخاً من الموت والضياع لأبدأ مشوار القلم، غير أني وعدت الفيليين مَن قتل ومن هرب ومن صار مجهول المصير، أن أبقي هذه الأيام التي عشناها في اللواء المريب خالدة في ضمير الحق وذاكرة الشرفاء.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2133 الاحد  27 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم