قضايا وآراء

المقدس والمدنس / جاسم الصافي

الى أن تجزأت هذه الكتابات لتعتليها التفكيكية، وما بعد الحداثوية، ولكن بمنهج شكلي لا يتوافق ومكتسباتنا الثقافية أو العقلية، لنخوض عن الآخرين صراعا أعمق من إمكانياتنا، فيقودنا الى ضياع مزدوج، بين العقل السياسي والعقل الديني، بين سلطة الزمان وسلطة المكان، بين رؤية رجل الايديولوجيا ورؤية رجل الفقه.

 من هنا كان اشتغال الكاتب عمار نعمة جابر ضمن أدوات نصه المسرحي (ما كان وما دار....) والذي من الصعوبة أن يرتقي كاتب بنص أدبي، يحاكي به العقل أكثر من الوجدان - والخطورة دوما تأتي من هنا! - أي مما هو مقدس، حين يكون بحثا أو دراسة أو عملا أدبيا (رواية ـ مسرح أو أي جنس أدبي آخر) في زمن أصبح فيه الفقيه سياسيا، والسياسي فقيها يتفنن في تضخيم كل ما هو عاطفي ومرعب تجاه المقدس أو المتخيل الديني، لأن القاعدة المنفعية تنص على أن من ينتهك التابو يغدو هو نفسه جزءا منه، وهذه منافسه أزلية ما بين الفقيه والزعيم.

 

إن عمار نعمة جابر حاول أن يجد في أفق المسرح قطبا ثالثا يتوسط ما بين السماء والأرض، وقد افلح في الاقتراب من هذه النقطة الخطرة، وهي التابلو الذي كان رحى الإشكالية الحديث، بعد أن أماتت الإيديولوجية وانتزاع الإيمان، ليركن على انه مجرد هاجس بدائي حان للإنسان أن يتخلى أو يتخلص منه، لذا اختار الكاتب مناخا كلاسيكيا أو صورة كوزموبولوجية، بما فيها من معتقدات للمجتمعات التقليدية، ليكون بهذا موضوعا نصيا يستعيد به طفولة العقل البشري تجاه المقدس، ويستعير منه المحرم بشفافية أدبية، والذي يعادله حديث الايديولوجي أو الحزبي أو المذهبية.

 فيستهل الكاتب عمله في تعريف المكان، وهو مملكة ذات تسعة وتسعين معبدا، ويظهر من الرقم الذي يتكرر على لسان شخوص المسرحية (القصدية... .(

 خادم ثان: لا تتحدث عن أهل مملكة المعابد التسعة والتسعين بهذا الشكل ..

 التي عناها الكاتب وهي قريبة لما هو مأثور لدينا من مقدس هذا الرقم، بدليل أنه يكرر أحدا مشتق هذا الرقم في قول الكاهن.. بوركت سواعدكم السمراء، التي تبني صروح المجد والمتمثلة بتشييد ثلاثة وثلاثين نصبا جديدا، للإله المقدس ذي العينين الواسعتين.

 

ثم يصف الكاتب هذه المملكة: انها تطل على نهر عظيم نهر خصب ونماء، وحضارات الأنهر معروفة، إذ كان الكاتب على طول العمل وهو يستخدم المناخ الكلاسيكي والصورة كوزمولوجية حيث يذكر وزير الأمن: لقد مات قبل دقائق بعض المسؤولين... ومات معهم جموع كبيرة من الناس.. وهم الآن يتساقطون في الشوارع والأزقة والمدن.. على طول النهر.. إنهم جياع.. إن الكاتب قد عنى من مفردة النهر منحاها الأسطوري حتما..

 لقد حاول الكاتب تقريب الواقع المحلي في وصف أهل تلك المملكة، كونهم بسطاء، ويعتنقون دينا واحدا، ويعبدون إلها واحدا، لكنهم يختلفون في رؤيته، وهذا يحصر ذهنية القارئ في حاضر اليوم (الصراع الطائفي والسياسي)، أي انه نوع من الإسقاطية شبه المباشرة، والتي تأتي ضرورتها مع التخيل القريب، فيكون بالنتيجة خيالا سحريا للواقع.

 في بداية العمل يقول الخادم وهو ينش على الطيور (اغربي أيتها الطيور من هنا.. طيور غبية) ولأهمية هذه الطيور التي ستكون موضع اهتمام النص المسرحي سيشكل تساؤلا عن ماهيتها وهيئة تلك الطيور، حمائم، غربان، نسور، أي نوع من الطيور هذه؟ التي تقبح في الجانب السياسي (القصر) وتطرد من الجانب الزماني، ثم تقدس في الجانب الديني (المعبد) الجانب المكاني، لتكون بعدها حطب التصعيد في صراع النص، حين تثار قضية تحريم أو حلية أكلها..

 

الشاب: (ينادي) اقرؤوا فتوى تحريم طيور المستنقعات.. وطيور المعابد المقدسة.. (يعطي منشوراً لأحدهم) اقرؤوا فتوى تحريم طيور المستنقعات.. وطيور المعابد المقدسة ..

 

الشاب 2: أيها الناس.. أيها الناس.. اسمعوا وعوا.. لقد جاء أمر الإله.. فلقد جاء كاهننا الأعلى المفدى، وحي من السماء صباح هذا اليوم.. يؤكد أن طيور المستنقعات، وطيور المعابد حلال أكلها.. وليس محرما أبدا.

 ثم يزيد من حدة الصراع فعل تلك الطيور، الفعل الشائن! وهو سخرية من العقل البشري الطفولي.

 المرأة: صباح هذا اليوم حلقت أسراب من هذه الطيور، واتجهت باتجاه معبد ذو الحاجبين المعقودين، ومعبد ذو الحنك الدقيق، ومعبد ذو الأنف المدبب ..

رجل 1: وماذا حصل؟.. تكلمي؟

المرأة: قامت هذه الطيور.. أأ.. يا إلهي.. كيف أتكلم بمثل هذا الحديث..

رجل 2: سيدتي أرجوك تكلمي.. فقط اذكري ما الذي فعلته هذه الطيور..

المرأة: لقد.. أأ.. لقد ذرقت ..

إن الطيور التي دنست تلك الآلهة، كشفت زيف قداسة هذه المعابد، كما عرفت أن البشر ليسوا أحرارا حين احتجزوا عقولهم في كل ما هو مقدس، دون أن يكون بمقدورهم الحبو إلى أكثر من ذلك الفضاء المتوارث، والذي يعتبر القوة الفاعلة دوما في تاريخ البشرية، تلك القوة المسكونة في داخلنا بالخوف من كل ما هو مقدس، وقد يتبادر هنا سؤال.. من هو الجاني؟ ومن المجني عليه الطيور التي ذرقت على كل ما هو مدنس في وجه الإله ووجه الملك ووزير أمنه، أم الإنسان الذي خلق قداسة صراع أزلي في تكفير وقتل الآخر؟

 

لقد عمل الكاتب في صراع الحدث، على تعظيم علاقة المقدس والمدنس، اللذين لا يجتمعان بل ينفي أحدهما الآخر، ولكن في العمل نجد أن الضرورة تجعل المدنس يخدم المقدس، إذ حين تحرم أمرا ما إنما أنت تجعل من عكسه مقدسا، وهو السبب لتعمد التعصب الديني الذي يكون أكثر فسحى حين يظهر في أفق التجربة الإنسانية الكلية، تلك هي الأزمة التي يبتكرها عمار نعمة جابر من أبطاله ..

المتظاهرون: تسقط مملكة آكلي طيور المعابد المقدسة..

تسقط مملكة آكلي طيور المعابد المقدسة.. يسقط عبدة الشيطان ..

يسقط الملك.. تسقط وزارة الأمن.. تسقط المملكة.. تسقط المملكة ..

(يدخل رجال الأمن.. يركضون بالهراوات خلف المتظاهرين.. يمسكون بعضهم.. ويهرب الآخرون).

 

نلحظ إلى أي مدى يصل التصعيد الوجداني للمقدس، إلى الحد الذي يسقط النظام، ويعري المقدس المطلق نفسه، انه التابو الذي ينطوي على دلالتين متعارضتين.. الأولى دلالة المقدس الخطر، والثانية دلالة المدنس المقلق، ويعني بذلك التعبير عن كل ما يرتبط بالخوف المقدس، أو ما يقال عنه بالتابو الدائم المتعلق بما يصدر عن الكاهن والزعيم، وهي صفة المقدس الذي يتجاوز طبيعة الأشياء العادية، إلى أن يصبح بفعل التراكم المتوارث، قوة تقليدية وعرفا يزيد من فاعلية الأسطورية والخرافية في الذاكرة الجمعية للبشر، والتي تفرض علينا نحن جيل اليوم واجبا إكراهيا نحو  الأمس المألوف أو المعتاد عند أجيال قد سبقتنا، ليكون بعدها سننا قانونية يشرعها (الزعيم السياسي) لا يمكن العبور بها إلا إلى ما هو (محرم دينيا أو سياسيا) لهذا يقول فلهام فونت وهو فيلسوف وعالم نفس ألماني "إن فكرة الحرام، تشمل جميع العادات والأعراف التي تفصح عن الخوف المستشعر إزاء بعض الأشياء، بالاتصال مع الأفعال المرتبطة بهذه الأشياء... وهو يمثل الدستور غير المكتوب والأقدم عهدا للبشرية".

إن نص (ما كان وما دار...) ملحمة تحاكي واقعنا المعاش، بل يجاري الأحداث التي نراها اليوم، وهي محاولة جريئة لتجاوز الوجدان الذي يؤسس عليها العمل الأدبي في محاكاة الفكر وبدلالات كونية، ووظائف طقوسية معقدة، لا يمكن جمعها بسهولة في عمل مثلما فعل كاتبنا في نصه( ما كان وما دار بين من ملك.. وما طار).

 

إشارة: مسرحية (ما كان وما دار بين من ملك.. وما طار) حازت على جائزة دبي الثقافية لعام 2011، ونشرت ضمن مجموعة مسرحية للكاتب بعنوان (شاورما) صدرت عن مطبعة تموز في دمشق / 2012

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2134 الاثنين  28 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم