قضايا وآراء

النقد الادبي: (إبريق جوتي) .. حامل مفاتيح الحكمة ومالك سر الجمال / حميد الحريزي

يبدأ صراع الصور في مخيلة الكاتب منذ السطور الأولى للقصة، والذي سيستمر حتى نهايتها بين الصورة المشتهاة صورة الشابة(جوتي) وصورة الأخت الكبيرة (مام) وهي إشارة للام معادلة ل ( أنكل).

هذه ا(لمام) التي تستهوي واقعية الأخت الكبيرة التي تتميز بعلاقات إنسانية نبيلة مبنية على الحب النقي الصافي، والعلاقات الانسانية المبرأة من الأعراض والإغراض الغرائزية بين الرجل والمرأة بينما تمثل الشخصية الثانية (جوتي) الحبيبة المتمناة المشتهاة المتمناة لتكون حاضرة في عيد ميلاد المتحدث، وهنا لعيد الميلاد رمزية تجدد الولادة واستمرارها وتجددها..... وهو تعبير عن جوهر ومضمون القصة برمتها..

كان المتحدث قد ادخر في ذاكرته حديث الرقة والغزل وبث لووالأباطرة.ينما يتحقق له الانفراد الموعود بحبيبته المتخيلة، وهنا تظهر المفاجأة حيث كانت التي على الباب هي (مام) الأخت الكبيرة وليست (جوتي) التي كانت تحمل له هدية عيد الميلاد، مما أثار ارتباكه وصدمته، من اخبر (مام) بعيد ميلاده ن هذه (المام) التي بدت مصرة على البقاء رغم ا ن المتحدث كان يحاول استعجالها بمغادرة المنزل لكي لا تعكر عليه صفو لقائه ب (جوتي)...

تطلب منه ان يفتح العلبة ليطلع على الهدية

(إبريق جميل يشبه الأباريق التي يحتسي بها الخمر السلاطين والأباطرة .)

سكبت في الكاسين خمرا ورديا رائقا لم يرى ولم يتذوق مثله أبدا ، إشارة إلى امتلاء كاس مخيلة المتحدث بالحلم الوردي المسكر، وتصور نفسه ملكا متوجا على عرش حب (جوتي) فأغرقته في بحر الخيال (..أغمض جفوني نشوة وأتخيّل جوتي بين ذراعي ّ.) ... وهنا توقظه (مام) العقل من خياله وغفوته، وان يفتح عينيه على حقيقة تخيلاته وتصوراته المخبوءة تحت جفنيه ... الذي أراد لهما ان يغلقا على صورة جوتي.........

(أفتح عينيك ولا تسبح في وهم ظنك، أعرف أنك تنتظر جوتي، ولكن جوتي لن تأتي فهي في عالمها الحقيقي داخل الإبريق) .

هذا الإبريق الذي يبدو كأنه رديف ومعادل (المصباح السحري) في قصص الخيال السحري المشهورة في الموروث العربي الإسلامي، ولكن هذا (الإبريق) يحمل مضمونه ومكنونه بداخله ولا يستطيع ان ينعم بسحره وجنائنه ورياضه إلا من يرتوي بخمر سحر الخيال الوردي المخزون في جوفه بمثابة حامل سر الجمال والحياة (دم) ونسغ هذا الإبريق العجيب، ويلتحم بقبلة الصدق والحميم بجسد الحكمة والعقل العليم المتوقد دوما جسد وعقل (المام) ، هو هدية الحكمة والعقل وليس هدية من (جن) أو (درويش ) أو أي كائن مسحور آخر كما هو الحال بالنسبة ل(المصباح السحري) الذي تُفعِلَهُ دعكات يد المالك ،فيخرج إليه المارد أو الجن المسحور معلنا استعداده لتلبية كل طلباته ورغباته ، دون ان يتطلب الأمر تحولا في ذات وشكل وحجم المالك الأمر، و هو يمثل انعكاس لعصر العبودية والاستبداد، ليس كما هو (إبريق جوتي) الذي يتطلب التغير والتبدل والتحول ، ليستطيع المتمني المشتهي الحالم ان يحقق امانينه بعد ان يدخل إلى جوفه ومحتواه ومضمونه بعد ان يرتوي بنسغ وجوده (الخمر الوردي) (ورشفت من الخمر الوردي مما جعلني أسرع فألثم شفاهها وفي لحظات شعرت أنني أصغُر ..أصغُر، حتى صرت بحجم استطعت معه دخول فوهة الإبريق بيسر.)

 

ان جوتيته المشتهاة لم تحضر لأنها غير موجودة في عالم الواقع بل في عالم (الخيال) والسحر داخل الإبريق حامل أسرار الحب والجمال ومستودع الخيال ......

تشير عليه (المام) رمز الحكمة والعقل وقارئة أسرار العجائب والغرائب ان يدخل إليه من خلال عنق الإبريق ......!!!!!

وهنا يتألق خيال الكاتب المبدع ليقول :- ان العيون المفتوحة والشفاه المشبعة بالحب والتواصل ألحميمي الصادق هي الباب الوحيدة لولوج عالم السحر والخيال والمتعة، هي الباب الوحيدة للوصول للحقيقة الانسانية الخالدة المتشحة بشال الحب والهيام في المقدس المتعالي على الغريزة الفجة ....

(لا عليك خذ رشفة أخرى وخذ شفتي ّ بشفتيك، قبّلني وعينك مفتوحة، فتشعر بحرارة تذيبك فيصغر حجمك فتستطيع ولوج عنق الإبريق بسلاسة....)

حين ارتوى من قبلة الشفاه الحري وبعيون مفتوحة واعية تحقق المستحيل، اتسعت أمامه الأبواب والمنافذ الضيقة لتكون بسعة حلمه حيث

(عندما انزلقت رأيت نفسي في جنّة خضراء يانعة الغصون وعلى كل غصن تجلس غانية حسناء كأن خدودهن الورد.)

وهنا طبعا ترد هنة في جمع التشبيه (كان خدودهن الورد) في حين سياق الجملة يستوجب ان تكون كالآتي.. تجلس غانية حسناء كأن خدودها الورد

وجد ان شجرة الحياة اليانعة غصونها محملة بالحسان، المبهرات الساحرا ت، جميعهن على شكل (جوتي) فأين ما اتجه جوتي في اليسار وفي اليمين في الشمال والجنوب في كل مكان .....

فكانت وحدة وتوحد وتكامل وحالة الإحلال والتناسخ والديمومة صدمة كبيرة لشخصية المتحدث... الذي لم يكن يدرك قبل تجربته هذه وحدة العالم وحدة الجمال وتحدده وتجسده في كل الأرواح النقية المحبة.... كما علمته ودلته عليه معلمة الحكمة أل(مام)....

هرب من الحديقة من الحياة الواقعية المورقة الخضراء المشعة بهجة وحيوية وجمالا وتجدده وانبعاثه، هرب إلى المعبد رمز التوحد مع السر الأعظم مع المتعالي الأسمى رب الخيال والجمال.....

تراءت له (جوتي) مرتدية شال الإبهار والعطر والرغبة والشباب وهي تصلي.... وهذا درسا جديدا من دروس الحكمة تقول :- ان المعبد هو مكان لتوحد روح الجمال مع الأجمل والأكمل لاكتناه سر جماله وكماله وخلوده (.. عبدي اطعني تكن مثلي)

نعم إنها هي (جوتيتي) لقد وجدتها...

بمهارة عالية وخبرة، وضربة سردية بارعة : حفاظا على وحدة الموضوع واكتمال الفكرة،.... تظهر لنا صاحبة الشال هي ..(مام ) هي (جوتي ) و (جوتي ) هي (مام)... ليقفل الكاتب قصته بمضمون يقول بوحدة وتكامل وتداخل مظاهر الجمال وتجلياته في مضمون واحد وان اختلفت أشكاله ..... ومن كل ما تقدم نستطيع القول ان قصة الأديب سردار محمد سعيد (إبريق جوتي) تتركز على الركائز التالية:-

1-       الإحلال والإبدال والتناسخ بين الشخصيات.

2-       الموروث ألعجائبي في الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الهندية وما بينهما من تلاقح.

3-       اعتماد اسلوب ومنهج الواقعية السحرية في السرد.

وهنا لابد لنا نشير إلى اثر العامل الخارجي على الكاتب وبوعي ظاهر طبعا وناثرة بالثقافة الهندية الغنية بالسحر والأساطير، الهند قارة العجائب والغرائب وحاملة أسرار الشرق وسحره والتي لها اثر بالغ على الثقافة العربية الإسلامية في نواحي عدة ، وتأثر بعضهما البعض من خلال العلاقات التجارية الضاربة في القدم بين بلاد العرب وبلاد الهند.....

استطاع القاص ان يرسل للمتلقي رسالة غاية في الحكمة والجمال بمدى المتعة والنجاح المتحقق من تمازج الحكمة والعاطفة تمازج وتكامل العقل والخيال، وان الجمال هو جمال الروح بغض النظر عن الأسماء والأشكال والأعمار.....فالحكمة دائما تتمثل الشباب والجمال،والشباب لا يكتمل إلا بتمثل روح وجوهر الحكمة...

الصدق روح الفعل ومعناه المنتج

(لا ...لا تفعل مالا تعتقد به لقد سمعت ما حدثت به ضميرك )

 

وبعد ذلك الاعتراف نقول ان اسلوب القاص والروائي الأستاذ سردار كان اسلونا مبهرا حقا، اسلوب خبير قدير في صياغة المفردة واختيار والتقاط الصورة، وكان مبهرا حقا في إحكام بنية السرد ووحدته وتكامله، وجاذبيته السحرية للقارئ في تواصله للقراءة وبالتأكيد قراءة النص لأكثر من مرة ليروي ظمأ كل متعطش للخيال والجمال والحكمة وسحر الكلمة التي تبدو فرحة مسرورة راضية مرضية في المكان والمعنى الذي اختاره لها الكاتب، حيث أتت مفرداته ممتلئة بمعناها ومبناها......

وإذا افترضنا إننا استطعنا ان نسلط ضوء بصيرتنا المتواضع على معنى ومغزى وتأويل ودلالة هذا النص القصصي الرائع حقا، وعذرنا في التقصير أو خطل التأويل والتحوير ان لكل غواص قدرة وطول نفس وخبرة في على التقاط نفائس ودرر بحر الجمال، نلتمس العذر من أستاذنا المبدع الكبير ومن الناقد والقاري الخبير من أي تقصير، فلاشك ان نفسنا قصير وعدتنا متواضعة، وبحر الجمال لا يفتح خزائنه بسهولة.....

بحر إبداع سردار محمد سعيد لم تزل اغلب خزائنه وجواهره لم يسلط عليها الضوء .... نتمنى ان تكون محل اهتمام اكبر من النقاد وأهل الاختصاص ... كما نتمنى للمبدع الكبير التألق الدائم في سماء الثقافة والأدب الرفيع.....

 

أيار 2012

 للاطلاع

إبريق جوتي / سردار محمد سعيد 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2134 الاثنين  28 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم