قضايا وآراء

النخبة السياسية العراقية وضياع بوصلة النخبة (1-7) / ميثم الجنابي

هذه هي الفكرة البديهية التي ترفضها اغلب النخب السياسية العراقية الحالية، مما يجعل منها مادة ضرورة للتحليل والنقد من اجل تلافي "سر الأسرار" في استمرار الأزمة الحالية في العراق. وذلك لان الحال الظاهري والباطني للنخب السياسية العراقية الحالية يشير إلى وجود خلل عضوي وبنيوي شامل فيها، يجعل من وجودها الحالي مشكلة المشاكل الكبرى ومسبب الأسباب في خراب الدولة والمجتمع وانغلاق المستقبل.

فقد كانت وما تزال وسوف تبقى قضية النخبة من بين أكثر الإشكاليات تعقيدا وأهمية في الوقت نفسه. وذلك لان النخبة تحتوي بقدر واحد على حالة تمثل وتمثيل الواقع الفعلي للدولة والمجتمع والثقافة. بمعنى أنها تتمثل كل ما فيه عبر تحويله إلى رؤية ومواقف وقيم ومفاهيم وأفكار، وتمثلها في سلوكها العملي. فالنخبة السياسية هي النخبة العملية، أي الصيغة المجسدة لحصيلة الإبداع النظري للنخب العامة والخاصة.

وعندما ننظر إلى النخب السياسية العراقية الحالية، فإننا نقف أمام حالة تحتوي بذاتها (في شخصيتهم وسلوكهم العلني والمستتر) على قدر متناسب من الخطأ والخطيئة، والجريمة والغباء. من هنا فقدانها لبوصلة النخبة السياسية الحقيقية. فبوصلة النخبة السياسية الحقيقة هي الدولة والأمة والازدهار الشامل. وفقدان او ضعف هذه البوصلة عند أغلبية النخب السياسية العراقية الحالية يشير أولا وقبل كل شيء إلى فقدان او ضعف النخبة (الاجتماعية والثقافية والفكرية والروحية) بحد ذاتها. مع ما يترتب عليه من جيشان النفسية والذهنية التقليدية. 

وليس مصادفة ألا يشغل بال النخب السياسية العراقية الحالية شيئا غير السلطة وما فيها وحولها فقط. والسبب بسيط كبساطة الغريزة - القوة والسيطرة، باعتبارهما وسائل أنتاح وإعادة إنتاج السيطرة والقوة عبر الاستحواذ على المال والجاه. وليس مصادفة أيضا أن يكون كل حزب فرح بما لديه من "كفاءات" لاحتلال منصب رئيس الوزراء والوزارات، وليس لتبوء وإدارة مؤسسات الدولة! بحيث جرى تحويل هذه الرغبة الحزبية الضيقة إلى مرجعية بديهية

أما في ظروف العراق الحالية، فان التمسك بهذه "البديهة" الغبية، فانه يعني ضرورة استبدال رئيس الوزراء سبع مرات في الأسبوع. وليس ذلك لكثرة الجيوش (الجحوش) السياسية، بل ولاستعدادهم الغريب في "الكفاح" من اجل احتلال هذا المقعد! وعليه تظهر الأسئلة التالية: من أين هذه الدعاوي والاستعداد؟ وهل هي طبيعية حيوانية متأتية من أن الإنسان "حيوان سياسي" بالمعنى الحرفي لهذا التحديد، وليس كما كان أرسطو يقصده؟ أم أنها جزء فعال وجوهري للغريزة السائدة في "العقل السياسي" العراقي الحالي، أي فقدان العقل النظري والعملي وحقيقة السياسة باعتبارها حكمة عملية؟

أما الإجابة عليها فيما يتعلق بطبيعة وحالة النخب السياسية في ظروف العراق الآنية، فمن الممكن إرجاعها إلى سبب أولي وبسيط وهو أن "السياسة" في العراق هي الوسيلة الأكثر فاعلية ويقينا في الحصول على المال والجاه. وعندما نتأمل اغلب، أن لم يكن جميع النخب السياسية العراقية الحالية، فإننا نقف أمام حقيقة جلية وهي أن القوى الفاعلة فيها هي غريزة حيوانية صرف (الجاه والمال) او ما دعته تقاليد الإسلام القديمة بشهوة الفرجين. وبما أن النخب السياسية العراقية ليست نتاج حالة ثقافية مركبة، وتقاليد نظرية عريقة، وتاريخ ذاتي ملهم، لهذا يمكن اعتبار شهوة الفرج الأعلى (البطن) هي الأكثر قوة وفاعلية. وذلك لان اغلبها كبير في السن ومليء بالأمراض. الأمر الذي يجعل من السلطة قوة للعلاج والنقاهة الجسدية من جهة، والأنثى الضرورية للتلذذ "الروحي" من جهة أخرى. بمعنى التعويض عن الأنثى بالسلطة. وذلك لأنها لا تطالب بل تعطي فقط! وتثير اللذة والنشوة دون جهد باستثناء المغامرة والمؤامرة. كما أنها لا تحتاج إلى ذكر، بل إلى ذكرى "النضال" و"مآثر الأبطال" القديمة! وبالتالي، يمكنها أن تصنع من جسده العتيق قضيبا عندليب!

أما البعد الآخر، فهو قوة الغريزة العملية التي تجعل من السلطة قوة معوضة عن النقص الفعلي للعقل أيضا. إذ لا سبب وجيه يمكنه أن يفسر قدرة الجميع واستعدادهم لان يكون رئيسا للدولة ورئيسا للوزراء، سوى أنهم لا يفهمون بان الرئيس من الرأس. وبما أن الرئيس بالنسبة لهم هو لسان وإشارة من هنا استسهال هذه المهمة. وقد كان وما يزال زمن العراق الحديث بعد 1958 مليء بهذا النمط. فالأغلبية جهلة أو أميون. وينطبق هذا في اغلبه على من هو في هرم السلطة ومعارضتها. وذلك لان معارفهم الفعلية لا تعدى كونها كمية لغو متداول في أسواق الأحزاب واجتماعاتها المليئة بالخبث المتلذذ بذاته!

لكننا حالما نفلسف هذه الظاهرة، ونبحث في مقدماتها الواقعية بوصفها ظاهرة سياسية تاريخية وليست حالة شخصية ونفسية عابرة، فان استعداد الجميع ويقينهم الجازم بسهولة وإمكانية قيادة الدولة ( وليس إدارتها) فهو نتاج  ثمانية أسباب رئيسية وهي:

  1. 1.ضعف او انعدام المعرفة العميقة والإستراتيجية بحقيقة الدولة الحديثة،
  2. 2.وضعف او فقدان الاحتراف العلمي والمعرفي،
  3. 3.وسيادة النزعة التقليدية،
  4. 4.وهيمنة الأعراف والتقاليد (السادة والجمهور)،
  5. 5.وتغلغل التقاليد الحزبية وليس السياسية الاجتماعية في كل مسام الأحزاب وأنماط وعيها العملي،
  6. 6.وهيمنة وفاعلية النفسية والذهنية الراديكالية السياسية،
  7. 7.
  8. 8.وأخيرا كبر السن الملازم لأغلب قيادات النخب الحزبية (بسب عدم تداول السلطة).

وقد أدى ذلك إلى ظاهرة معقدة، بينما مفارقة تعقديها تكمن في سطحيتها. وذك لأنها نتاج الأسباب المذكورة أعلاه على خلفية انحلال الدولة والنظام السياسي والمجتمع والثقافة في العراق بأثر أربعة عقود مظلمة ومدمرة من سيطرة التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية وسبعة أعوام من الاحتلال الأميركي. وفي هذا تكمن الحالة المشوهة والمعقدة لتعقيد النخبة بشكل عام والسياسية بشكل خاص.

لقد أدى تداخل وتفاعل المقدمات المشار إليها أعلاه إلى تعقيد لا عقلاني وبهيمي فيما يخص صيرورة النخبة السياسية العراقية واغترابها الفعلي وشبه الكلي عن حقيقة العراق بوصفه مستقبلا. مع ما ترتب عليه من انتهاك لكل ما فيه وتحويله إلى مجرد "ذخيرة" جرى العثور عليها عن طريق الصدفة. الأمر الذي جعل ويجعل من النخبة السياسية الحالية مجرد قوى طارئة، مثالها "اخذ الجمل بما حمل"! وبالتالي، ليست النخبة السياسية العراقية الحالية سوى قوة مؤقتة، أي احد أتعس وأرذل وأقسى أنواع القوى البشرية. وليس مصادفة أن نعثر فيها في الإطار العام على أربعة أصناف وهي صنف السلالة العائلية (الحكيم والصدر والبرازاني)، وصنف التجار (أياد علاوي والنجيفي) وصنف الطارئ العابر (اغلبية الشخصيات السياسية الجديدة) وصنف الأحزاب السياسية العقائدية (المالكي والطالباني وحميد مجيد وأمثالهم). والصنف الأول بلا تحصيل علمي ولا ثقافة فكرية، والثاني تجارة سياسية او سياسة تجارية، والثالث متغير متقلب محكوم أما بجاه او أهواء او مال او جميعهم، والرابع هو الوحيد الذي يمثل تقاليد الفكرة الحزبية بالمعنى التقليدي، أي الفاقد أيضا لفكرة السياسة بوصفها فكرة علمية واجتماعية.

مما سبق يتضح، بان نسبة النخبة السياسية الحزبية (بالمعنى العراقي) لا يتعدى 25%. وهي تعاني أيضا من ضعف كبير بسبب ضيقها العرقي والطائفي والأيديولوجي. ومن ثم تعاني من خلل بنيوي هائل حالما يجري النظر إليها بمعايير الرؤية الاجتماعية والوطنية والحداثة والمستقبل.

*** 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2141 الأثنين  04 / 06 / 2012)


في المثقف اليوم