قضايا وآراء

خرافات العراقيين وعلاقتها بسيكولوجيا التطير (1-2) / قاسم حسين صالح رئيس الجمعية النفسية العراقية

..الوقاية منه لا تكون بغير الحنّاء..ثم فارق الحياة.

وبحسب جريدة المدى (العدد 2389في 21/5/12) "فان الأمر تطور ليصل الى دور العبادة، وعلم الفلك ويأخذ جوانب اقتصادية وثقافية واجتماعية". وأنها- الخرافة - "افرغت العراق من الحنّاء وجعلت ايران تتهيأ لا رسال شاحنات حنّاء الى العراق" بحسب الكاتب أحمد عبد الحسين .. وأن سعر الكيس الواحد منه قفز من ألفي دينار الى خمسة آلاف دينار، وان أسواق الحلة نفدت من الحنّاء.. وفقا لتقرير صحفي من بابل اعده ساجدة ناهي وحيدر الحيدري.

 

توطئة في التوقع

ينفرد الإنسان بأنه المخلوق الوحيد الذي يمتلك القدرة على التوقع، و نقصد بالتوقع تفسير الإنسان لما سيقع له من أحداث وما يظهر عليه من تصرّف قبل وقوعها. غير أن الناس يختلفون في طريقة تفسيرهم لما سيقع من أحداث، وفي نوع المعنى الذي يضفونه على تلك الأحداث، ومدى تأثيرها فيه أو في الآخرين .

ويمكنك تصنيف التوقع على أنواع : خير وشر، صح وخطأ، توقع عقلاني مقابل توقع غير عقلاني ... ولك أن تضيف أنواعا" أخرى .

وبخلاف العديد من النظريات النفسية (لاسيما الفرويدية ) التي ترى أن خبرات الماضي هي التي تحدد سلوك الحاضر، فأن التوقع يبنى على فرضية مفادها: إن الأحداث التي ستقع في المستقبل، وليس الخبرة التي اكتسبها في الماضي، هي التي تقرر نوع السلوك الذي يتصرف به الإنسان في زمنه الحاضر . وأن تباين الناس في سلوكهم لا يعود بالدرجة الأولى إلى تباينهم فيما اكتسبوه من خبرات وتعلمات إنما يعود إلى تباينهم في تصنيف طبيعة الأحداث التي يتوقعونها، وطريقة تفسيرهم لها ونوع المعنى الذي يضفونه عليها .

ولا يقتصر تأثير التوقع على سلوكهم وتصرفاتهم بل يتعداه إلى ما يصيبهم من أمراض أو اضطرابات نفسية، بمعنى أن هنالك امراضا" نفسية تصيب الإنسان لا لسبب وراثي (جينات) أو صدمات أو خبرات في الماضي، إنما (التوقعات) بالمعنى الذي اوضحناه.

 

التطيّر

لقد مهدنا للتطير بتوطئة عن التوقع، لأن التطير هو طريقة أو أسلوب في التفكير يتعلق بما سيقع للفرد من أحداث . هذا يعني أن البعد الزمني للتطير هو المستقبل، غير أن تأثيره في السلوك يظهر في الحاضر . فإذا توقعت مثلا"، أن خاك الغائب عنك من عشر سنين سيأتي غدا"، فأن مزاج الفرح يظهر عليك اليوم، وإذا توقعت أن صديقك الراقد في المستشفى سيموت غدا"، فأن انفعال الحزن يظهر عليك اليوم .

بهذا المعنى فان التطير حالة سيكولوجية خالصة، من حيث إن مضمونها الرئيسي هو القلق الناجم عن احتمالات متناقضة واحيانا حادة، بين خوف من شرّ مرتقب وبين خير وفير آت .

ولان التطير ينتمي إلى التفكير الخرافي، عليه يفضّل أن نعرف ما هو علمي عن هذا النوع من التفكير لتكتمل عندك الصورة .

 

التفكير الخرافي

إن التفكير عند الإنسان كان في الأصل خرافيا"، ونقصد بالتفكير الخرافي تفسير الظاهرة بغير اسبابها الحقيقية العلّية، أو عزو نتائج عمل معين أو حادث إلى غير مسبباته الفعلية. ويميل الرأي إلى الاعتقاد بأن الظواهر الطبيعية التي تقع خارج سيطرة الإنسان من قبيل : الاعاصير، الزلازل، الطوفان، الرعد والبرق .. كان يجري تفسيرها في البدء على إنها تحدث بفعل قوى غير طبيعية، وكان " اختلال " عقل الإنسان أو أصابته بالجنون يخضع للتفسير نفسه . فالجماجم التي وجدت فيها ثقوب صغيرة جرى تفسيرها على إنها تعود لاشخاص اصيبوا بامراض عقلية . وان أسلافنا الاولين كانوا " يعالجون " هؤلاء بفتح ثقوب في جماجمهم لأعتقادهم بوجود ارواح شريرة في داخلها، وان فتح هذه الثقوب يساعد على طرد الارواح الشريرة من ادمغتهم. وكان البابليون ينظرون إلى الإنسان " المخبول " على انه مبتلى بعفريت هو سبب مرضه، وان هنالك روحا" أو عفريتا لكل مرض . ومثل هذا الاعتقاد كان موجودا" لدى الصينين والاغريقيين، الذين كانوا يعزون " الجنون " أو الشذوذ في السلوك، إلى أن الشخص تمتلكه روح شريرة بعد أن يسحب عنه الآله حمايته له.

وكانت مثل هذه الاعتقادات والخرافات شائعة حتى في اوربا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وانتشر السحر والسحرة فيها حتى القرن الثامن عشر، وهي حالة حتمية بسبب الحروب والمجاعة والاوبئة التي شهدتها اوربا في تلك العصور.

كان ذلك حال الناس قبل نشوء العلم، وهم معذورون عن تفكيرهم الخرافي، لكن العذر يكون باهتا" لمن يعيش في عصر العلم وما يزل يؤمن بالخرافه .. بل انك ترى " اكاديميين " بينهم حملة دكتوراه لديهم خرافاتهم التي يعتقدون بها . وقد يعزى السبب إلى أن خلايا دماغ الإنسان كانت قد تدربت أو تقولبت عبر ملايين السنين على التفكير الخرافي، وأن فيها من " الترسبات " ما لايستطيع العلم الحديث محوه، أو لأن مصدر الخرافة في الأصل كان عقيدة شبه دينية، على ما يرى الباحثان ( انجلش وانجلش )، أو لأنها فلكلور شعبي يحبه الناس على ما يرى الباحث " هل "، أو إنها اعتقاد راسخ في القوى فوق الطبيعة وفي الاجراءات السحرية المخدّره من التفكير الخيالي وصارت مقبولة اجتماعيا على ما يرى " كارل يونغ "،أو لمعاناة القهر التي يعيشها الانسان المعاصر لاسيما في الشعوب المتخلفة التي تحكمها سلطات غير عادلة وعدم وجود حلول لمشكلاته الحياتية وتضافر وسائل الاتصال الحديثة مع وسائل الفكر الشعبي في ترويج الخرافة كما نعتقد نحن.

وسواء كانت الخرافة اعتقادا أو فكرة .. ذات مصدر ديني أو شعبي أو سحري .. فأن المهم في الأمر أن الخرافة طريقة في التفكير يعتمدها الفرد في تفسير ما حدث له أو ما سيحدث بغير أسبابه الحقيقية، وبشكل مخالف أو مناقض للتفسير العلمي لها، على وفق مقاييس العقل والمنطق والموضوعية .

والحقيقة أن آلية التفكير الخرافي لا تختلف عن آلية التفكير العلمي من حيث أن كليهما يهدف إلى تفسير ظاهرة غامضة، غير أنهما يختلفان من حيث أن التفكير العلمي يتوصل إلى معرفة الأسباب العلّية الفعلية للظاهرة، فيما يعزوها التفكير الخرافي إلى أسباب لا علاقة لها بالظاهرة .

والخرافة بهذا المعنى تختلف عن الاعتقاد الخاطيء من حيث ديمومتها وتمّسك الفرد " واحيانا" المجتمع " بها، فيما الاعتقاد الخاطيء يكون طارئا" يتراجع الفرد عنه حين يثبت له العكس. كما تختلف الخرافة عن الشائعة التي تظهر في أوقات الحروب عادة لأنها تختفي سريعا"، فيما الخرافة تظل مستمرة سواء على مستوى الفرد أو المجتمع.

ومع أن الفروق لا تبدو واضحة بين الخرافة والاسطورة، ووجود تداخل بينهما، إلا إن الاسطورة تحمل شيئا" من القداسة ونوعا" من الإيمان المطلق بها.

والملاحظ إن انتشار الخرافات يكثر في أوقات الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية، وتعرّض المجتمع إلى أخطار مثل حدوث حرب أو توقع حدوثها . وهنالك علاقة طردية بين انتشار أو شيوع الخرافة وبين تعرّض الفرد أو الناس إلى الخوف أو القلق، وبينها " الخرافة " وبين التخلف والجهل وتدني المستوى الثقافي، وبينها وبين إدراك الفرد أو المجتمع بعجزه عن حل مشكلة حياتية يتوجب عليه حلّها.

 

سيكولوجيا التطيّر

اشرنا إلى أن التطير يتعلق بالتوقع، أي بطبيعة الأحداث التي ستقع في المستقبل. أما الحالة السيكولوجية التي تتحكم بالانسان المتطير فهي التناقض الانفعالي بين التشاؤم والتفاؤل: توقع الشر والنحس والخطر والمرض وقلة الرزق أحيانا"، وتوقع الخير والسعد والامن والصحة ووفرة الرزق أحيانا" أخرى،في حالة تنّقل بينهما تشبه رقّاص الساعة .

ولأن الجهاز العصبي للأنسان لا يتحمل حالة قلق مستديمة فأنه لا بد أن يبحث عن وسائل لخفض هذا القلق. ولأن الإنسان المتطير لا يمتلك سيطرة عملية وعلمية ويشعر بالعجز في السيطرة على مصيره، وان الواقع لايقدّم له حلولا" لمشكلاته الحياتية، (ونعني بالواقع هنا :السلطة السياسية، الحكومة تحديدا")، فأن العقل الواعي " الشعور " يتعطل لديه ويكف عن التفكير في خفض قلقه وايجاد رأس خيط شرنقة الغموض التي تلفه، فيتولى "اللاشعور" هذه المهمة بأن يسعفه بحيلة أو آلية نفسية هي "الإسقاط "، ونعني به ترحيل مخاوفه وقلقه على أشياء أو رموز لها دلالات تبدو له مقنعة، مثل القدر والحظ والنصيب ... أو باضفاء قدرة على قوة خارجية أو سماوية، أو رمز معين، تولّد لديه الطمأنية بأنها ستحل له المشكلة أو تحقق له المرام .

 

أ.د.قاسم حسين صالح

رئيس الجمعية النفسية العراقية

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2142 الثلاثاء  05 / 06 / 2012)

في المثقف اليوم