قضايا وآراء

(رسائل البحر) .. والنص المثقف .. إنطباعات حول فلم مصري جديد / سلام كاظم فرج

كذلك يقول اورتيجا إي جاست (في الفن لايعد التكرار شيئا يستحق الذكر.) .. في حين ان السينما المصرية عودتنا على التكرار الممل الساذج المسطح المسف الذي يهبط بالقدرات العقلية للمتلقي ويسطحها..باستثناء بضعة افلام .

وقد افرزت السينما المصرية التي تربى على مضامينها جيل عربي عمره الان جاوز السبعين عاما مشاهدا كسولا..مسطحا لا يحفل بالانزياحات الفكرية والتقنية . ولا بالتداعيات المركبة لأي نص فلمي.. حتى السينما الواقعية الملتزمة (اعني افلام صلاح ابو سيف وتوفيق صالح). عالية القيمة. كانت تعتمد ايصال الرسالة الاجتماعية بتقنيات بسيطة متاحة لملايين المشاهدين البسطاء . رغم انها تكتنز قيما اخلاقية ورسالية نبيلة.. (صراع في الوادي) (ودرب المهابيل) على سبيل المثال لا الحصر.. اقول بالرغم من ذلك لم تبتعد هذه الافلام ايضا عن التكرار المبسط المنتج لمشاهد كسول يبحث عن السهولة واليسر في استبطان مضامين الفلم وترميزاته...

ربما قفزة يوسف شاهين منذ فلمه عودة الابن الضال كانت نوعية.. لكن تجاوز السرد التقليدي . والحبكة التقليدية كان مبالغا فيه احيانا ومفتعلا.. مع التأكيد ان شاهين يعد من عمالقة مخرجي العالم..

فلم داود عبد السيد.. (رسائل البحر) جذبتني تقنيته .. حتى سائلت نفسي الا يستحق هذا الفلم جائزة الاوسكار؟؟. الا يعد من بين اهم الافلام العالمية المعاصرة التي تتصدى للإنسان لا بصفته الفردية الشكلانية.. بل بوصفه عقلا محضا متفاعلا مع الوجود (وفق رؤية هيجل). بعد ان يمر بمراحل متعددة ليصل الى العقل المحض..هذا العقل الذي قد يعبر عن نفسه بأكثر من وسيلة..من بينها الدين او الفلسفة او الفن.. وهدف العقل عند هيجل هو الفهم.. تسبق هذا الفهم مرحلة الاحساس.. وهي مرحلة بدائية لكنها مهمة.. مرحلة مهمة في رحلة العقل نحو الفهم الكلي.. ومهما كان العقل كليا لايستطيع ان يتخلى عن الحواس والماديات.. وتفاعلات العالم المحيط بالعقل سلبا وايجابا لانتاج تلك الغاية (الفهم) .. فالفن الراقي في حقيقته يعبر عن المطلق. او الروح المطلق.. وذلك . لا يتحقق الا عن طريق الادراك الحسي الواقعي.. بعكس الدين الذي يحقق ذلك عن طريق تلقي الرسائل المباشرة التي تفسر الوجود عبر وسيط هو النبي. او الرسول..

في الفن...هناك منتجة لمئات الصور المتقاطعة المتناقضة..وصراع ومعاناة من اجل فهم رسائل البحر.. وتلك المعاناة.. قد توصلك الى المطلق. ورسائل المطلق.. لكنها ابدا لا تدعي اليقينية الثابتة الاستاتيكية التي يمتلكها الدين.. او الايدلوجيا..

هذه الرؤى التي تختزنها ذاكرتي لما اعرفه عن تصور هيجل للعالم وروح العالم.. وجدتها مجسدة بشكل خلاق في فلم المخرج داود عبد السيد.. (رسائل البحر).. لقد انتظرت الى نهاية الفلم تقريبا لكي اعرف ترميز رسالة البحر اولا.. ولكي اعرف مضامين تلك الرسالة ثانيا. من خلال رحلة عجيبة ومثيرة وممتعة تبحث في سيرة رجل موهوب لكنه مبتلى بداء يعيق قدراته على النطق بشكل سليم وطبيعي.. وهذا العوق يجعله يفضل الابتعاد عن الناس .. لكن موهبته الفذة اتاحت له ان ينجح بتفوق في دراسة الطب واتاحت له اطلاعا جيدا على اللغة الانكليزية.. وبعض اطلاع على اللاتينية.. وكما نعت نفسه في حوار بديع (هو طبيب مع وقف التنفيذ) يفضل العزلة وصيد اسماك البحر بالسنارة على التفاعل الحقيقي مع الشارع والناس والعمل.. وبسبب عزلته.. تفوته اشياء كثيرة عن حقيقة العالم والوجود.. وتفسير عمق التقاطعات الاجتماعية في فهم معنى الشرعية في الجنس او الصدق في القول ومبررات الكذب والخيانة( او مايسمى بالخيانة. وهل الخيانة هي مجرد لفظة اتفق عليها الناس وعلى مبررات اطلاقها.. ام هي ابعد من ذلك بكثير. كل ذلك لا يستطيع الوصول اليه بمجرد رسالة غامضة.. يقينية تفسر له ذلك. بل احتاج الى مشقة التعرف على سيدة من طراز خاص لكي يفهم الرسالة.. من هنا كانت رسالة البحر غامضة وغير مفهومة. عرضها على عشرات المعارف من مختلف الجنسيات فلم يفكوا حرفا منها. حتى هو باطلاعه على اللاتينية لم يفك لغزها..

الرسالة التقطها في قنينة طافية على الماء. وقضى ازمنة كل الفلم يحاول فك تشفيراتها..

لنعرف في النهاية.. ان غموضها مبرر.. فهي في الحقيقة رسائل الحياة للبشر. او رسائل السماء ربما.. لكنها لن تفهم الا بعد تفاعل مستمر يستغرق ربما العمر كله.. وفق توصيفات هيجل..

ولم يعتمد داود عبد السيد على روح بطل النص فقط.. بل هناك عشرات الارواح التي ترمز كل الى حالة من حالات الوجود الانساني.. وجدت في الحاج التاجر الطيب مثلا.. والذي ابتكر صيد الاسماك بالمتفجرات ما وجدته في الرأسمالية المعاصرة التي تجمع الوجه الانساني مع وجه مضمر يترك ملايين الاسماك الضعيفة قتيلة.. وبطل الفلم وصديقته. في نهاية الفلم كانا حياديين في نظرتهم للحاج التاجر.. فعبد السيد هنا لا يأخذ دور المعلم الفظ . بل يترك للمشاهد ان يبحث عن تشفيرات شخصية التاجر صائد السمك بالمتفجرات.. وقد يجد غيري معنى آخر في الترميز؟؟ وهنا تكمن عبقرية المخرج.. وهنا يمكن ان ننتج مشاهدا متفاعلا ذكيا متقصيا..

ويمكن ان نجد ذلك ايضا في شخصية البودي كارد الطيبة التي تختزن ذكريات اليمة تحاول ان تستأصلها ونسيانها وان بعملية جراحية مكلفة وخطيرة.. روح البودي كارد وحدها تشكل ثيمة مستقلة عن حبكة الفلم لكنها مكملة بشكل خلاق من خلال تعلقها بشخص الطبيب المعاق واخلاصها له كصديق..

هنا تبرز ترميزات عن معاقبة الذات من اجل تطهيرها..وهل يملك الانسان ان يحاكم نفسه.؟. ام ثمة قوى غيبية ستتولى ذلك.. وهناك حديث طويل عن الذاكرة ومعناها. ومعنى الآم الذاكرة..وهل يمكن استصالها والتنصل من تبعاتها؟؟..

وتبقى شخصية بطلة الفلم.. هي الاعمق والاكثر تراجيدية وحيوية..وهي الاكثر اثارة للجدل الفكري المحتدم الذي تشهده البشرية . عن معنى الخيانة. الكذب. الصدق. الوفاء. الاخلاص. الحب. البغض. الشرعية. اللاشرعية.. الجنس.. ومعناه. (جمالياته وقبحه)..

وشخصية بطلة الفلم عالم خاص مختلف تماما عن شخصية بطل الفلم.. هي ايضا في بحث دؤوب عن ذاتها المطلقة.. لكنها لا تبحث عن فك تشفيرات رسالة البحر.. بل هي تعيشها بحذافيرها.. ولكنها تعيشها بروح الفن لا بروح الفلسفة ولا بروح الدين.. رغم.. ان الاجابة تأتي اخيرا على لسانها وهي تعتلي زروق الحب الحقيقي مع الفتى المعاق بعد قبوله بكل خطاياها.(وأضع مفردة خطاياها هنا بين قوسين). وتحتهما عشرات الاسماك القتيلة.. الجواب هو الحب وسط عالم ملتبس.. فيه القتل. وفيه المعاناة. والكذب.. لكن لا بديل لهذا العالم المتعولم الا بالحب .. هي تلك رسالة. البحر. رسالة الحياة. رسالة روح العالم.. الرسالة المتمناة التي.. قد تتحقق او قد لا تتحقق..

حيث لا يقين ثابت جامد.. ولا شكوك منفرة مضيعة للروح والجسد.. في الحب تتحقق كل الرسائل النبيلة حتى الغامض منها والتي يبعثها البحر لبطل الفلم او لنا نحن القاصرين عن فهم كل شيء

وفي التفاتة عبقرية.. لم تخبر بطلة الفلم حبيبها الذي اختارته انها لم تكن مومسا كما اوهمته.. ولم تبرر كذبتها التي وجدت نفسها مضطرة لتبنيها. لانها وان كانت تمتلك القدرة على النطق. لكنها ايضا لا تملك القدرة على قول الصدق رغم انها تعيشه.. فهي مرتبطة برجل عن طريق زواج عرفي.. فرض عليها لاسباب اقتصادية لم يبحث الفلم طويلا فيها.. ومثل ذلك الزواج لا يختلف كثيرا عن الدعارة بشيء حيث الحاجة المادية لا الحب هي الاساس في شرعيته. من هنا نتعرف ان الكذب مفردة نسبية.. كذلك الصدق.. والوفاء.. الوفاء.. لمن؟؟ والصدق مع من. والكذب على من؟؟ والخطايا والتقاطعات والتناقضات تملأ الكون؟؟

وإذا كانت الاستعارة هي جوهر الشعر (الفن).. فإن جماليات التأويل من بين اجمل اللذات في البحث عنها وكشفها. وهذا ما اتاحه فلم داود عبد السيد . بالنسبة لي على الاقل.. فشكرا له. وشكرا للسينما المصرية..

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2143 الاربعاء  06 / 06 / 2012)


في المثقف اليوم