قضايا وآراء

النخبة السياسية العراقية وضياع بوصلة النخبة (2-7) / ميثم الجنابي

يجري الحديث عن إشكالية فعلية ومؤثرة على مجريات الحاضر والمستقبل. وليس هناك من إشكالية يعاني العراق منها الآن أكثر من إشكالية النخبة بشكل عام والسياسية بشكل خاص. ولعل مصدر الغرابة والإثارة والتخريب فيها يقوم في أن النخب السياسية العراقية هي بحد ذاتها إشكالية ومشكلة وسبب ومسبب للخراب الفعلي في العراق الحديث. والقضية ليست فقط في أنها ليست نخبة بالمعنى الدقيق للمصطلح، بل أشبه ما تكون من حيث حدها وحقيقتها برعاع "مهندمة"، بل وليقينها بأنها صاحبة العصمة والمستقبل! وليس صراعها المرير وانحشارها مع كل حركة وقول وفعل صوب المأزق، بما في ذلك في ظروف العلنية والديمقراطية والشرعية، سوى احد الأدلة الظاهرية على طبيعتها. وذلك لان مبدأها وغايتها في الوساوس والهواجس والنيات والرغبات هي السلطة.من هنا تحول الاجتماعات الحزبية والمعاهدات والاتفاقات والبروتوكولات العلنية والسرية إلى أسلوب وحيد لوجودها ومعاناتها! بمعنى إهمالها ورميها المجتمع والدستور والبرلمان في المزبلة حالما تدخل مزابلها الخاصة! وليست سنوات المحاصصة والتوافق والشراكة سوى سنوات الازدهار الفعلي لهذا النمط الخائب والخائف والسخيف بكافة المعايير والموازين. وليس الانتعاش الفعلي "لقيادات" الأحزاب والفرق والتيارات الحالية من اجل"سحب الثقة بالمالكي" سوى الصيغة الظاهرية لهذه الحالة. وغرابة المسألة ليست فقط في استعمالها كلمة "الثقة"، كما لو أنها تثق بشئ غير مصالحها الضيقة، بل ولجعلها "قضية ديمقراطية وشرعية"! بينما هي في حقيقتها، ومنذ البدء مجرد "توافق" و"شراكة" من اجل اقتسام الغنيمة. من هنا يمكن إدراك وفهم انتعاشها الحالي بالحديث واللغو والمشاجرة والاتهام والتخوين والتهديد فيما بينها. بمعنى أنهم لم يتفقوا على حصص أسهم الشركة "الوطنية" للنهب والسرقة! وفي هذه الحالة يمكن رؤية الأسلوب النموذجي المعبر عن خواء العقل والضمير وانعدام الحرفية والعلم والثقافة السياسية. بحيث تحولت معارك الساسة إلى أشياء شبيهة بمعارك "نسوان المحلة"! السنة طويلة وعقول قصيرة وانتعاش وتلذذ بالسب والشتيمة. مع أن كل ما فيهن (الساسة والنسوان) عورة!

تعكس هذه الحالة الخربة والمرضية أولا وقبل كل شيء بقايا مرحلة لم تنقرض بعد، أي مرحلة الراديكالية السياسية والدكتاتورية "المنظمة"، ومن ثم بقاياها الشرسة في ديناصورات الأحزاب والعقائد الكبيرة والصغيرة، الدينية والدنيوية! وقبل أن تنقرض، فأنها ستقرض ما يمكنها قرضه من تاريخ الدولة والمجتمع والمستقبل. وبالتالي، فهي عاجزة بحكم الضرورة عن حل إشكاليات الوجود التاريخي للعراق المعاصر.

إن المقدمة التاريخية الكبرى لهذه الحالة واستمرارها تكمن في حالة تفريغ فكرة وتاريخ النخبة بشكل عام في العراق بعد انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958. فهو الانقلاب الذي فسح المجال أمام إمكانية المغامرة السياسية وتحويل الراديكالية إلى أسلوب "شرعي" ومقبول من جانب الأحزاب السياسية قاطبة، بحيث أعطى لكل جندي وعريف وبائع ثلج وحمال وصباغ أحذية وعجان وسائق بغال الرغبة والاعتقاد و"الشرعية" في أن يكون "قائدا" للدولة والمجتمع والثقافة!

أما النتائج غير المباشرة لكل هذه العملية فهي تفشي ذهنية المؤامرة واشتراكها الفعال في جعل الفكرة الراديكالية الملاذ الوحيد والمخرج النهائي للخروج من مأزق هي صانعته الكبرى. ومن حصيلة هذين التأثيرين تراكم الانتهاك السياسي لفكرة الشرعية والصراع الشرعي. بحيث جعل النخبة السياسية جزء من وجدان "الشارع" وليس عقلا مدبرا لمنظومة الدولة والمجتمع والثقافة. وهي الحصيلة التي أدت في نهاية المطاف إلى السقوط في أوحال الدكتاتورية الصدامية والاحتلال.

فالنخبة السياسية الحاكمة في ظروف العراق الحالية تعيد في حالات عديدة إنتاج دكتاتوريات مجزأة وصغيرة. وإلا فكيف يمكن للمرء أن يفهم سلوك أولئك "الديمقراطيين" الذين يحيطون أنفسهم، في ظروف العراق البائسة، بأعداد هائلة من الحرس، والسرقة المفرطة لكل شيء! أو أن تصبح المتاجرة بكل شيء أمرا مسموحا به أو مقبولا!! باختصار إننا نقف أمام مظاهر عديدة ومتنوعة للفساد الشامل في مؤسسات السلطة بشكل عام والنخبة السياسية بشكل خاص. وهي مظاهر لا تعني في حال وضعها، مهما كان شكلها وحجمها، بمعايير رجل الدولة سوى الفساد المريع والانحطاط الشامل. ذلك يعني إننا نقف أمام نخبة تستمر وتستكمل زمن الانحطاط. بمعنى أنها جزء من زمن التوتاليتارية والدكتاتورية. فهي نخبة لا يخامر قلبها الخجل حالما تنظر إلى الحالة المزرية لواقع الأغلبية المطلقة من العراقيين. بل على العكس! أنها تتلذذ برؤية نفسها متربعة على عرش القمامة!! وفي هذا يكمن سر الطابع الباهت للنخبة السياسية العراقية الحالية. فهي، كما يقول العراقيون، قوى "احترقت أفلامها" بسرعة!! بمعنى أنها لم تعد في عقل وضمير المجتمع أكثر من أشباح.

إن تحول الأشباح إلى قوة سياسية هو الوجه الأكثر مأساوية في تاريخ النخبة العراقية. ومن ثم لا يعني صعود "أزلام السلطة" سوى الوجه الآخر لتلاشي "رجل الدولة". وهي العملية التي تجد انعكاسها النموذجي في ظروف العراق الحالية بانحدار النخب صوب المكونات التقليدية والبدائية لما قبل الدولة العصرية مثل الطائفية والعرقية والجهوية والعشائرية وما شابه ذلك، وكذلك في صعود نجم رجل الدين وانحدار رجل العلم. فهي العملية التي تشير إلى حجم الضعف الهائل للقوى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من جهة، والى ضعف أو انعدام نخبة دنيوية (علمانية) عراقية ذات تأثير روحي بالمجتمع. من هنا صعود المرجعية الدينية وليس المرجعية الدنيوية، وقوى الأقليات القومية والعرقية وليس الوطنية العامة.

إن توحد الانحطاط المادي والروحي في النخبة السياسية الحالية في العراق، التي أخذت تجمع في آن واحد الانهماك غير المحدود في سرقة الروح والجسد والحاضر والمستقبل من خلال تحويل السلطة إلى مصدر الإثراء يجعل من غير الممكن توقع نهوض العراق من جديد. كما أن من الصعب توقع إعادة عمرانه الشامل والحقيقي في ظل تخريب فعلي شامل. أما حصيلة هذا الواقع فأنها تشير إلى أن العراق لم يصنع بعد نخبه السياسية الحقيقة. وليس مصادفة ألا نرى في اغلب النخب السياسية العراقية الحالية غير وجوه كالحة وبطون منتفخة وجيوب مثقلة فقط! فهي الملامح الوحيدة البارزة في صيرورتها وكينونتها!!

إن الإشكالية الكبرى النظرية والعملية القائمة أمام العراق تقوم في كيفية التخلص من النخبة المزيفة وتصنيع النخبة الوطنية الأصيلة، أي العاملة بمعايير الفكرة العلمية عن الدولة والمجتمع والمسترشدة بمعايير الرؤية الاجتماعية في ميدان العلاقات السياسية والمحتكمة في جميع أعمالها بفكرة الحقوق المدنية وإستراتيجية البناء المستقبلي.

وحالما نطبق هذه الفكرة العامة عن النخبة الوطنية على واقع العراق الحالي، فإننا نقف أمام ثنائية أزلام السلطة ورجل الدولة. وهي ثنائية تشكل الصيغة العملية للأصيل والمزيف في النخبة السياسية. وفيها ينعكس صراع القديم والجديد، والحي والميت، والفضيلة والرذيلة. لكن خطورتها الكبرى مقارنة بغيرها تقوم في تأثيرها الحاسم على مجرى التطور التاريخي للدولة والمجتمع ومصير الأمم. فعلى كيفية انتصار أي منهما يتوقف نهوض الأمم أو سقوطها. وسقوط العراق واستمرار مأساته تقوم أساسا في استمرار سيادة النخبة المزيفة أو أزلام السلطة. وسوف تبقى هذه الحالة مؤثرة وفاعلة وشرسة في نخرها لجسد الدولة وروح المجتمع وعقل الثقافة ما لم تنقلب هذه المعادلة.

***

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2143 الاربعاء  06 / 06 / 2012)


في المثقف اليوم