قضايا وآراء

تأثيرات هندو - بوذية في الفلسفة الصوفية (1) / خالد جواد شبيل

سواء من كتب فيها من المتصوفة أنفسهم أو من غير المتصوفة، وقليل من هؤلاء الأخيرين من كان منصفا وموضوعيا في تناوله، شذ عن ذلك المستشرقون على العموم. وفي معظم الاحوال قلما يجد الدارس التأثيرات الفلسفية الشرقيه فيها من الهندوسية والبوذية بشكل جلي باستثناء إشارات عابرة لدى المهتمين المعاصرين لا سيما بعض المستشرقين..

لذا فإن كتاب الدكتور مصطفى عبد الله نومسوك، يأتي ليسد ثغرة كبيرة في هذا المجال، والكتاب في الأصل رسالة ماجستير نال بها درجة الإمتياز- من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة- تحت عنوان "البوذية تاريخها وعقائدها وعلاقة الصوفية بها" والعنوان واسع فضفاض مما ألزم المؤلف أن يبذل جهدا كبيرا لتغطية مجال البحث الواسع في ثلاثة محاور أساسية هامة: البوذية والصوفية، وتأثير الأولى في الثانية، ناهيك عن المحاور الثانوية ذات العلاقة، التي تحيط بالموضوع وتغطيه تغطية شاملة من جميع الجوانب. فعلى سبيل المثال، لما كانت البوذية قد نشأت في رحم البراهمية (الهندوسية) فلا بد من بحث في الهندوسية وفي العناصر المشتركة بينها والبوذية. وفي الحقيقة أن البراهمية من أكثر العقائد سعة وتعقيدا وممارسة وطقوسا، فيكفي أن فيها من الآلهة ما يصل الى مئات الألوف، ولكل إله خصائصة واختصاصه. وقد استطاع الباحث أن يستخلص العناصر ذات العلاقة مما شكل دراسة مقارنه خدمت بحثه وأغنته، بما هو جدير بالتنويه والتقدير. ولا شك أنه قد استفاد من أستاذه الهندي المشرف الدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي، وهو استاذ هندوسي قد تحول الى الإسلام. كما أن الباحث نفسة الدكتور مصطفى عبد الله نومسوك، هو استاذ تايلندي مرموق قد استفاد من المظان البوذية باللغة التايلندية، فهي أول دراسة للبوذية في لغتها الاصلية مما أغنى الجانب المعرفي في البحث ناهيك عن معايشته للمجتمع البوذي ودراسة الجانب التطبيقي للبوذية عن كثب.

يقع البحث في مجلد قوامه 672 صفحة، واحتوى على مقدمة وتمهيد، وبابين وخاتمة. في المقدمة، تعريف بكتب البوذية المعتمد عليها في هذا البحث مع دليل المصطلحات البوذية،من اللغة الأصلية (البالية)- وهي إحدى لهجات اللغة السنسكريتية، والتي تشكل حوالي 25% من المفردات المتداولة في اللغة التايلندية الحديثة- مع ما يقابلها في اللغة العربية والإنكليزية، ولا شك أن هذا الدليل لا يشمل كل المصطلحات وإنما اتى على أهمها في واحد وأربعين مصطلحا مهما تداولها الباحث في دراسته.(راجع الكتاب ص45-47).

والتمهيد فيه فصلان تضمنا: البيئة التي ظهر فيها بوذا، وعناصر الديانة الهندية في عصر بوذا. الباب الأول المخصص للبوذية فيه خمسة فصول: بيت بوذا وحياته،الفلسفة البوذية واخلاقها، العقائد في البوذية، الرهبنة عند البوذية، الفِرق والمذاهب البوذية وانتشارها في الأقطار... أما الباب الثاني، فهو مخصص للصوفية وعلاقتها بالبوذية وفيه ثلاثة فصول: التعريف بالصوفية، علاقة البوذية في العقائد والأخلاق، وعلاقة الصوفية بالبوذية في العبادات والتقاليد، ثم الخاتمة. وأخيرا ثبت بالمراجع والمصادر التايلندية والعربية والإنكليزية. وأهم النتائج التي توصل اليها الباحث في بحثة مع ملخص للدراسة باللغة الإنكليزية.

ويرى القاريء أن الجانب المعرفي الثر قد وضع ضمن خطة بحث محكمة، تسهل للقاريء الوصول الى ما يريده بكل يسر، وسنتطرق الى الجانب المنهجي وكيفية التعامل مع المادة المعرفية، إضافة الى الوقوف على بعض الاخطاء والهنات التي لا يخلو منها بحث بمثل هذه السعة!

 

المنهج الأيديولوجي الدوغمائي:

وهو المنهج الذي يتخذ من العقيدة الايديولوجية أو الدينية كمطلق ومسلَّم يبني عليه في محاججة الطرف الآخر ويهتم بالنصوص المقدسة كمرجع يسمو فوق العلم والمنطق، ثم تكون المنطلقات اساسا وفق هذه النصوص، ومن لا يلتزم فيها سيواجه تهم الخروج عن الملة او الكفر..وظل هذا المنهج هو السمة المميزة للسلفية الدينية والمدرسة الوهابية كما سنأتي على ذلك في سياق الموضوع.

ولا شك أن موضوع الباحث الدكتورنومسوك الذي نوقشت رسالته في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة وضمن لجنة من أساتذة سلفيين وفي دولة تتخذ المسلك الوهابي عقيدة وقانونا (شرعة) قد القت ظلالها القاتمة على منهج البحث وبالتالي أثر تأثيرا سلبيا على النتائج التي توصل اليها الباحث وهو كون الصوفية ملة منحرفة وخارجة عن الإسلام!ففي ص14 وضمن أسباب اختياره للموضوع يقول:"إن دعوة غير المسلمين الى الإسلام واجب وكذلك فإن تنقية الإسلام مما ليس منه أهم الواجبات، وعلى هذا فإنني في هذا البحث لم أعرض البوذية كدين من الأديان فقط ، بل عرضتها كمصدر هام من مصادر الصوفية المنحرفة في الإسلام" ثم يواصل " وبخاصة فيما(في ما) يتعلق بالطقوس الدينية والرياضات النفسية، ليتبين أن هذه الجوانب الصوفية ليست من الإسلام في شيء وإنما هي من أصول البوذية القديمة" وهكذا فهو أخرج الصوفية من الملة، وأنكر على البوذية كونها دين ولعمري هذا هو المنهج الدوغمائي. وإنصافا للحقيقة فقد تمكن أساتذة مرموقون وباحثون جادون في جامعة الملك سعود بالرياض أن يقدموا مواد بحثية رصينة رغم الضجة التي افتعلت ضدهم، مثل: الدكتور سعد بن حذيفة الغامدي في بحثه " سقوط الدولة العباسية ودور الشيعة بين الحقيقة والإتهام" وفي هذا البحث أثبت بالادلة الدامغة براءة الوزير ابن العلقمي من التواطؤ مع المغول. والدكتور عبد العزيز الهلابي في بحثه الهام "أسطورة عبد الله بن سبأ" الذي أثبت فيه بما لا يقبل الشك خرافة عبد الله بن سبأ، وكان قد أثبت ذلك قبله طه حسين في"الفتنه الكبرى" ومرتضى العسكري في "حول عبد الله بن سبأ" و""عبد الله بن سبأ وأساطير اخرى"جزءان.

ومن أبرز خصائص المنهج الأيديولوجي الدوغمائي أيضا هو وضع الحقائق المسلم بها هدفا مسبقا ثم البحث عما يتفق مع مسلماته وأبعاد كل ما يختلف معه، وهكذا منهج لا يمكن اعتماده ضمن دائرتين متضادتين من الايديولوجيا (بين الإيمان والإلحاد مثلا)، إنما يمكن اعتماده على الأغلب ضمن الدائرة الواحدة من الإيديولوجيا (بين مذاهب مختلفة حيث كل يوظف النص لصالحة!). فعلى هذا يسقط الأعتبار المنهجي بين البوذية الملحدة وبين الإسلام! ولا يمكن فرض مطلقات طرف على الطرف المضاد، ومن الشواهد التأريخية هو: صلح الحديبية، عندما حضر مندوب دمشق سهيل بن عمرو والرسول الأكرم لإقرار نص الإتفاق"هذا ما اتفق عليه محمد رسول الله" حيث قال: امحُ رسول الله، لو آمنا بك رسولا لما قاتلناك" فاستجاب الرسول لطلبه! وحدث في صدر الإسلام أن تقرر إرسال بعثة الى الهند لإقناع الهندوس بالدخول الى الإسلام، وعند اللقاء استمع الهندوس الى دعوة الداعية المسلم، وبدأ النقاش حيث اعتمد الهندوس الإستدلال المنطقي والداعية المسلم كان يستشهد بنصوص الكتاب والسنة، كان المحاجج الهندوسي يقول: دع ما يقوله ربكم وما يقوله نبيكم أجبنا بماذا تقول أنت؟! ولم يفلح الداعية في إقناع نظرائه الهندوس... حتى بدأ المسلمون يولون اهمية للمنطق ولعلم الكلام.

تأثير هندو- بوذي:   لا يعرف على وجه التحديد منشأ الديانة البراهمية، (او الهندوسية)، والتسمية بات بالقرن الثامن قبل الميلاد نسبة الى إلهها الأكبر براهما، وهي خليط بين معتقدات الغزاة الآريين ومعتقدات الهنود الأصليين، وما يهمنا العناصر المهمة الأربعة في البراهمية التي انتقلت أوأثرت في البوذية، ويلمس آثارها في الصوفية، وهي:1- عقيدة الكرما أو قانون الجزاء،ومحتواه أن المرء يثاب أو يعاقب وفق اعماله، فمن يعمل خيرا سيجازى خيرا ومن يعمل شرا سيجازي شرا في هذه الحياة. 2- وتناسخ الأرواح: وهو مرتبط بالقانون الأول إذ ستنتقل الروح بعد مفارقتها الجسد الى إنسان أو حيوان وفق سجل أعماله السابقة، وقد جاء المحتلون الآريون بهذا المبدأ من اجل تخدير الهنود الاصليين حتى لا يثوروا ضدهم زاعمين أن السيد إذا أخطأ سيعاقب وسيصبح عبدأ وأن العبد أو من هو في الطبقة الدنيا إذا أطاع سيده وابتعد عن العنف فسيصبح سيدا في الذورة القادمة من الخلق، وهكذا تسمو الى أن تتحد بالإله براماتما وهو مبدأ اساسي في البراهمية لا في البوذية وهو يتشابه مع الحلول الصوفي... 3- وحدة الوجود وهو ان روح الإله تتجلى في الكائنات كلها الخيرة والشريرة بدرجات قداسة متفاوتة، وهذا المبدأ لايقر الإله في البوذية، وهو متشابه مع مبدأ وحدة الوجود عند ابن عربي.4-الرياضة الروحية (التأمل واليوغا): وهي ممارسات ترويض النفس على الزهادة وقهر الشهوات من أجل التسامي حتى الإتحاد، والرياضة الروحية كممارسة موجودة بنفس الأهمية في البراهمية والبوذية مع اختلاف الغاية ، ففي الاتحاد ببراماتا، وفي البوذية حيث لا إله وإنما لبلوغ حالة نرفانا والإنفلات من دورة الحياة- الموت وهي أعلى الدرجات..، ومن هنا نرى التشابه مع البراهمية أكثر في الوسيلة والغاية.

هذه باختصار يقترب من الاقتضاب لخصائص الإختلاف والإئتلاف، ويجد القاريء أن تأثيرات البراهمية في الحركة الصوفية أقوى بكثير، ولا ينكر تأثيرات البوذية التي سنتوقف عندها، كلبس المرقعة والتبتل. ثم أن البراهمية أقدم بكثير من البوذية بقرابة أربعة قرون، وإذا تجاوزنا البعد التاريخي الى البعد الجغرافي نجد أن احتكاك المسلمين الدعوي بشبه القارة الهندية بدأ منذ فجر الإسلام حين أرسل الرسول الأكرم عام 7ه (628م) مبعوثا الى ملك ماليبار يدعوه فيها الى الإسلام، شك أن أية دعوة تتضمن تبادل الآراء وكل يتعرف على معتقدات وعادات وطقوس الآخر... ثم تواترت البعثات الى الهند برا وبحرا وأشهرها بعثة مالك بن دينار البصري، وشرف بن مالك وغيرهما الذين حلّوا في "كدنغلور" ثم جابوا جميع أنحاء الهند...وكان وجود الهنود والسنود مألوفا في الدولة الإسلامية على مختلف عصورها وكان يطلق عليهم"الزط". ومن يقرأ سيرة الحلاج يجده كان كثير الإحتكاك بالهند، واستمر حضور الهنود بمختلف دياناتهم في الدولة العباسية، وهنا لا بد من تاكيد أن الهندوس يقدسون جميع الأولياء المسلمين وغير المسلمين فقد شاهدت بنفسي في سرينغار عاصمة كشمير تجمع الهندوس في ضريح الولي الشيخ حمدان، وكذلك في أجمير في ضريح الصوفي الشهير معين الدين جشتي (مؤسس الطريقة الجشتية) تجد حشودا من الهندوس يتقدمون بالنذور والقرابين والورود والنقود، وفي دلهي كذلك في ضريح نظام الدين، وكانوا يأتون (ولا زالوا) لضريح الشيخ عبد القادر الكيلاني، وهذه الأماكن كلها إما مقرات للمتصوفة أو قريبة من خانقاهاتهم التي غالبا ما كانت تجاور أضرحة الأولياء ومقاماتهم.. مما يؤكد التأثير البراهمي في الصوفية.

الخوف من البوذية:   مما ذكره الباحث في مسوغ اختيارة للبحث في البوذية هو انتشارها المتنامي في " أوربا والأمريكيتين الشمالية والجنوبية واستراليا"، مما اقلق الباحث (راجع المقدمة)، وعزا ذلك الى سطوة الحياة المادية في الغرب على تفكير الإنسان وسلوكه، كما أدرك زيادة المؤلفات التي كتبه الغربيون إعجابا بالبوذية، وعدد جزءا منها. وأنا اضيف له أيضا المؤلفات التي كتبت في الديانات الشرقية، والتي اشاد مؤلفوها بالتعاليم البوذية مثل د. احمد شلبي (راجع: أديان الهند الكبرى) ود. محمد غلاب (الفلسفة الشرقية) بل أن هناك من غالى واعتبر بوذا نبيا مثل الدكتور علي زيعور(راجع:الفلسفات الهندية ص233)، والدكتور محمد توفيق صدقي (الصلب والفداءص158)ولو استغرقت أكثر لملّ القاريء. وهنا يطيب لي أن أدخل في نقاش مع الباحث، أذا كنت مصابا بالخوف من البوذية(بودي فوبيا) ففي مثل هذا الاحوال لا بد من إعطاء الحق لأصحاب الخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا)، فلماذا تمارس شيئا وتمنعه على الآخرين؟ وللعلم ليس للرجال البوذيين ولا لنسائهم مايميزهن، أي ليس هناك جلاليب قصيرة ولا لحى والنساء غير متحجبات ولا متنقبات!! كما أن البوذية ليست ديانة تبشيرية، أي ليس هناك تجمعات في الساحات ولا في المعابد لنشر البوذية بل إذهب الى الكورنر سبيكر في الهايد بارك ستجد دعاة لكل الأديان وقد تجد هنا داعية للبوذية! وإن وجدت فخبرني! كما أن التعاليم البوذية تمنع العنف ضد الإنسان والحيوان والنبات،،، وأزيد: أن كاتب هذه السطور عاش في مجتمع بوذي خمس سنوات (ولا زال) دون ان يطرق بابه طارق يدعوه للبوذية، وأنه لم ُيسأل مرة عن دينه مطلقا، وأنه لم ير يوما شخصين في اشتباك بالأيدي لا بل لم يسمع من علّى صوتا على آخر في لغة التخاطب!! فعلام الخوف يا دكتور؟ مشكلة المنهج الأيديولوجي هي أنه يرى في عقيدة الآخرين كل عيب ولا ينظر الى عقيدته ومايعج بها من خرافات، وسنتوقف عند هذا في أكثر من موضع.

  

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2143 الاربعاء  06 / 06 / 2012)

في المثقف اليوم