قضايا وآراء

تـاثيرات هندو- بوذية في الفلسفة الصوفية (2) / خالد جواد شبيل

وسنتوقف عند هذا في أكثر من موضع.

ولادة بوذا: قبل قرابة 2500 عاما وفي شمال شرقي شبه القارة الهندية، وفي تخوم مرتفعات التبت(شمال النيبال) كانت هناك إمارة تدعى ساكا وكانت عاصمتها هي كابيلافاستو، وتسيطر عليها قبيلة تدعى ساكيا من منحدر آري، وكان الحاكم من طبقة كشاتريا(طبقة الحكام والإداريين والقادة العسكريين) التي تلي طبقة رجال الدين البراهميين في السلم الإجتماعي الطبقي الهندي، يدعى سودودانا غوتاما، وزوجته النبيلة مايا، رزقا بطفل أسموه "سُدارتا" في سنة 623 ق.م.على الأرجح، سيحصل على لقب "بوذا" Buddha وتعني المتنور، وهي درجة رهبانية رفيعة جدا لا يصلها الا القليلون، ولكنها ستغلب على اسمه من باب غلبة الخاص على العام.

يورد الباحث الدكتور عبد الله مصطفى نومسوك (في ص87 وما يليها) الأساطير التي رافقت ولادة بوذا ومقارنها بالأساطير المسيحية، ونظرا لأهمية الموضوع نمر عليها بإيجاز مستثنين النصوص الجميلة التي لا بد من حصرها بمزدوجات هلالية. 1-." أن الملائكة سبحت بحمده قائلة:ولد اليوم بوذا على الارض ليمنح السلام للناس وينقذ العالم"2- حصلت تغيرات في الطبيعة حينذاك: فرخت الحيات وأنشدت العصافير، وتلاْلاْ النور في العالم، وظهر نجم في السماء يبشر به، ويقود من رىه الى مدينة كابيلافاستو مسقط رأسه ليهنئه ويسجد له".3- ومن المعتقدات الهامة في البوذية تجسيم الفيل الأبيض الصغير ووضعه في هياكل بوذا في المعابد أو الساحات، وتفسير ذلك أن الملكة مايا والدة بوذا أنها " رأت في منامها أن الإله قد حل في أحشائها في شكل فيل أبيض كالفضة" وفسره المنجمون بأنه سيولد لها ابن يحكم العالم وسيتخلى عن العرش وتزهد وسيكون مخلِّصا للبشرية. وهنا لا بد من التأكيد أن معظم الأساطير والتصورات قد جاءت في مذهب ماهايانMahayan (المركب الكبير) أي المذهب الشمالي من فيتنام والصين والكوريتين واليابان، وهذا المذهب يعتمد النسخة السنسكريتية من الكتاب المقدس في البوذية "السلال الثلاثة" تراي بتكا Tri petaka، ولا يعتد به في دراسة البوذية  لإختلاطه بالموروثات الثقافية والدينية في الصين، بينما البوذية الاصلية هي الجنوبية (المركب الصغير أو هينايان Henayan) التي اعتمدت النسخة البالية (نسبة الى لغة بالي Pali) من الكتاب المذكور والمنتشر (أي مذهب هينايان) في سيلان وتايلندا، وماينمار، وكمبوديا ولاووس، أثر انهيار الإمبراطورية البوذية في زمن الإمبراطور آشوك 0273-232) في الهند حيث تفرق البوذيون أيدي سبأ الى البلدان المذكورة آنفا، وعادت الهندوسية من جديد الى الهند، وقد اعتمدت إمبراطورة آشوك Ashokaاللغة البالية، وأمر هذا الإمبراطور البوذي ببناء قبة اسطوانية حجرية في المكان الذي ولد فيه بوذا لا زالت موجودة في قرية بادوفيا، ويتوافد عليها البوذيون لقداستها، بما يشبه طقوس الحج.

يورد الباحث الدكتور عبد الله مصطفى نومسوك مقارنه مع الروايات المسيحية لولادة المسيح مقتطفا من إنجيل متى (الإصحاح الأول من فقرة 18-20، والإصحاح الثاني من فقرة 1-11) : " أن مريم حبلى من الروح القدس وأن ملاك الرب ظهر ليوسف بن داوود في حلم قائلا بأن ابنا سيلد واسمه يسوع ليخلص شعبه من خطاياهم، ولما ولد يسوع ظهر نجمه في المشرق يقود الناس ويتقدمهم الى حيث كان الصبي، فلما رأوا النجم فرحوا فرحا عظيما جدّا وأتوا الى البيت ورأوا الصبي مع مريم أمه فحرّوا وسجدوا له". (الكتاب ص91). وأتفق مع الباحث في أنها خرافات، لابل اساطير الأولين كما سماها القرآن. ولي سؤال مهم أطرحه على الدكتور الباحث نومسوك لماذا لم تقارن مع مولد الرسول الأكرم محمد لتكتمل الصورة  ويكون منهجك أكثر شمولية وموضوعية، فهي خرافات وأساطير إن لم يكن لها نظير في الإسلام أما إذاجاءت في التراث الإسلامي فعندئذ تكون معجزات!!! أليس كذلك؟ وسؤال آخر هل قرأت "دلائل النبوة" لأبي نعيم الأصفهاني المرجع الإسلامي المهم؟ افتح الكتاب أنى شئت (راندوم) واقرأ حيثما يتيسر لك، ستعجب للخرافات والأساطير التي فاقت أساطير الأولين والآخرين، حيث يصل الخيال حدا فوق الوصف!!

المناكفة بدل المناقشة:عمد الباحث الدكتور نومسوك في مواضع عديدة الى استخدام اسلوب المناكفة والإستعلاء والتهكم من عقائد البوذية بدل المناقشة العلمية، مما لا يصلح أن يكون في المسعى الأكاديمي الرصين. فالبوذية من أكبر العقائد أتباعا إذ يصل معتنقيها الى أكثر من مليار إنسان لا كما يزعم الموءلف (المقدمة) الذي أتى برقم (554 مليون)، ومن أمثلة ذلك في المبحث الرابع ص102 حيث وضع عنوان" استنارته المزعومة" فاستخدام المزعومة لا يليق وإن كان الباحث من حقه أن ينكرها ضمن سياق الجدل الموضوعي الأكاديمي، والإستنارة المقصودة هي المرحلة التي ادعى (كذا) فيها  سُدهارتا غوتاماSuddhurta Gutama أنه حصل على النور والنجاح والمعرفة بعد أن كابد أقصى ما يتصوره العقل من تجارب عديدة في التأمل والزهد والتقشف. والإستنارة هي نقطة تحول كبرى في حياته، إذ بها تأسست ديانته وتعاليمه. وبها حصل على لقب بودا وتعني المستنير. وهي صفة تحولت الى علم رافقه حتى بعد مماته.

وقد عاب المؤلف على البوذية انها تبيح أكل الحيوان ولا تبيح قتله ويزعم أن هذا تناقض، (ص144) واعتبر ذلك تناقضا، لا أجد في ذلك أي تناقض فالأكل ضرورة بينما القتل ليس ضرورة بل هو فعل شنيع، ومن يعش في أي مجتمع بوذي كالتايلندي سيعجب كل العجب على الرفق بالحيوانات حيث يقوم الناس بحمل الطعام كل يوم الى الكلاب والقطط السائبة، وإطعام الطيور وقد شكلت هذه المظاهر جزء من الثقافة العامة، أينما ذهبت الى البحيرات تجد باعة طعام الأسماك حيث يتمتع الناس بمنظرها وهي تتنافس لتناول ما يرمى لها من خبز وطعام جاهز. الرفق بالحيوان وعدم قطع الأشجار وإطعام الرهبان هو سلوك يومي وجزء مهم من الثقافة البوذية التي أثرت تاثيرا كبير في الفلسفة الصوفية، حيث عرف عنهم نزوعهم الإنساني كما هو معروف لدى الحلاج والبسطامي والسقطي والشبلي زمعروف الكرخي الذين جاءت أخبارهم لدى القشيري في رسالته القشيرية والهجويري في كشف المحجوب والكلاباذي في التعرف لمذهب أهل التصوف،،، ما من عقيدة نافست البوذية في رفقها بالحيوان إلا العقيدة الجاينية التي أخذت منها البوذية الكثير من تعاليمها ولا بد من وقفة معها.

الجاينية Jainism (وليس الجينية كما جاء في البحث) وجذور هذه العقيدة قديمة تبناها الغزاة الاريون، وقد تطورت على مراحل وقد ساهم في تطويرها التنويريون، دريشها، ويرشفا(877-777ق.م) وفاردهمانا،(599-527قزم)، في حين اعتبر الباحث أن مؤسس هذا المذهب فاردمانا(635-563ق.م) الملقب مها فيرا وتعني البطل الكبير، ولُقبJaina  وتعني قاهر الشهوات، وهو من طبقة الكشتريا (الحكام والقادة العسكريون) في الشمال الشرقي من الهند، وكان معاصرا لبوذا وهو اسن منه بقليل، ونظرا للتقارب المكاني والزماني، فإن تأثيرات هذه العقيدة جلية في البوذية، والبعد الإنساني أقوى بل هي أكثر جميع العقائد والأديان طرا في التمسك بطريق اللاعنف، والتركيز على المساواة بين كل الحيوات أي الأرواح الكامنة داخل كل كائن حي، كما تؤكد على تحرير الروح هدفا وفق مبدأ موشكا الذي يقابل في البوذية مبدأ نرفانا وذلك عن طريق ضبط النفس فريتا. وقد أخطأ الباحث في تسميتها بأنها فلسفة الحادية كالبوذية (ص76)، وهو تعميم وتبسيط، وربما السبب في ذلك أنها لا ترى الإله مستويا على العرش وفق المفهوم الظاهري لإبن تيمية، إنما ترى الإله قد حل في داخل كل كائن حي إنسانا وحيوانا ونباتا... بينما تنكر البوذية نكرانا تاما الإله كما جاء رد بوذا على سؤال مريده آناندا عن الإله:" وهل ترى أو تلمس تأثيرا للإله في حياتك؟- لا فقال له: دعه إذن (كتاب تراي بيتكا أو السلال الثلاث). ومن مباديء هذه العقيدة المنبثقة من البرهمية والمناهضة لها، والتي أثرت في البوذية ومن ثم سنجد بعضا من ملامحها في الصوفية هي:1-إنكار الآلهة البراهمية قاطبة، وإنكار وجود خالق أعظم للكون.2- إلغاء نظام الطبقات، والتحرر من الكتب المقدسة –الفيدا وملحقاتها-. 3- تحريم اللحوم ومنتجات الحيوان (الحليب ومشتقاته، البيض، العسل وكل ما يتعلق بالحيوان). ويسمى هذا المبدأِ ِAhinsa أي عدم الايذاء وبموجبه يحرم حتى غلي الحليب خوفا على قتل الكائنات المجهرية فيه، ويتميز اصحاب هذا المبدأ بوضع أقنعة من قماش حفيف على الفم والأنف خشية ألا تدل كائنات دقيقة الى افواههم وأنوفهم فتموت، كما أنهم يمتنعون عن الأكل عند حلول الظلام للغرض السابق ذاته، بل ويكنسون الأرض بمكانس ناعمة لئلا يؤذون حشرة، وهناك أشياء أخرى، قابلتهم في الهند واستمعت الى آرائهم الإنسانية المدهشة هم منتشرون في الهند دون العشرة ملايين ويتبوءون مراكز مالية وإقتصادية، وتجارية مرموقة وذلك للأمانة والمسالمة التي اشتهروا بها.4-يعتقدون بقانون الجزاء ,karma وبمبدأ التناسخ samsara . ومما هو مشترك بلن البوذية والجاينية هو مبدأ المحظورات الخمسة sila  أو ما يعرف مبدأ اللاءات الخمس:1- لاتقتل أحدا ولا تقض على حياة حي من الحيوان( عند البوذية يستثنى لغرض الأكل أو للدفاع عن النفس).2-لا تأخذ ما لا يُعطى إليك. 3-لا تكذب ولا تقل قولا غير صحيح.4- لا تشرب خمرا ولا تتناول مسكرا. 5- لا تزن.

قلق الباحث الدكتور عبد لله مصطفى نومسوك من الثناء الذي تحظى به البوذية لدى باحثين ومستشرقين امثال ماكس مللر Max Muller والمستشرق غوستاف لوبون Gustaf Lobon (حضارات الهند ص362، 363) وادعى أنهم "غالوا في تمجيدها كل المغالاة، فزعموا أنها أرقى المعارف الدينية التي عرفها العالم" ثم طرب لقول العقاد أيما طرب لإستنكار العقاد لذلك، الذي عزا هذه "المغالاة الى أنها فلسفة آرية والآرية هي عنصر الأوربيين الأقدمين والمعاصرين" (العقاد، كتاب الله ص77). ولنا الآن وقفة مع الباحث والعقاد معا: لو سلمنا بالعنصر الآري -الذي تدحضه الدراسات الحديثة- وهو يضم شعوبا متفاوتة الثقافة والحضارة بل متباعدة جدا، فلماذا لم يمتدح هؤلاء وهم مسيحيون ديانتهم اليس الأولى بهم ذلك؟ لماذا يمتدحون معتقدا الحاديا؟ ونومسوك والعقاد المسلمان يعلمان أن رابطة الدين أقوى من العنصر عندهما، ثم لماذا مجد الغرب ولا زال يمجد ابن رشد وابن خلدون وابن حيان وابن سبعين وكلهم عرب ساميون وليس آريين، إن الباحث الجاد حري به أن ينأى بنفسه عن هذه الخزعبلات، وألا يشيع الجهل فوق الجهل.

-للموضوع صلة-

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2147 الأحد  10/ 06 / 2012)

في المثقف اليوم