قضايا وآراء

اللغة بين السوبر حداثة والسوبر مستقبلية / حسن عجمي

إذن من الممكن وصفها وتفسيرها من خلال نظريات مختلفة ومتعارضة كنظرية النسبية لأينشتاين ونظرية ميكانيكا الكم. هكذا تنجح لغة السوبر حداثة في تفسير نجاح النظريات العلمية رغم اختلافها وتعارضها. من المنطلق ذاته، تعتبر السوبر حداثة أن اللغة ودلالاتها ومعانيها غير محدَّدة، ولذا تتغير اللغة وتتطور وتختلف وظائفها وتتعارض. فبما أن اللغة غير محدَّدة ما هي، إذن من الممكن استخدامها للتعبير عن العالم الواقعي واستعمالها للتواصل والتخاطب والتفاهم بين البشر واستغلالها للعب وإصدار النُكات واعتمادها في صياغة الوجود ففقط  حين نعتذر لغوياً يحدث الاعتذار وفقط  حين نسمّي الأشياء تحصل الأشياء على أسمائها. هكذا تنجح السوبر حداثة في تفسير لماذا تملك اللغة وظائف مختلفة ومتعارضة ؛ فاللغة تملك وظائفها المتنوعة لأنه من غير المحدَّد ما هي اللغة. من هذا المنظور أيضاً، تؤكد السوبر حداثة على أن المعاني غير محدَّدة. وبما أن المعاني غير محدَّدة، إذن لا بد من البحث الدائم عن معاني المفاهيم ما يضمن استمرارية البحث الفلسفي والعلمي. هكذا تكتسب لغة السوبر حداثة فضائلها.

 

لكن لغة السوبر حداثة تتضمن اللغة السوبر مستقبلية. فبما أن الحقائق والمعاني غير محدَّدة بالنسبة إلى السوبر حداثة، إذن الحقائق والمعاني قرارات مستقبلية لم تُتخذ بعد تماماً كما تعتبر السوبر مستقبلية. بالنسبة إلى اللغة السوبر مستقبلية، المعنى قرار اجتماعي في المستقبل، وبذلك لا بد من البحث المستمر عن معاني المفاهيم ما يضمن استمرارية البحث الفكري. هكذا تكتسب السوبر مستقبلية فضائل السوبر حداثة نفسها، لكنها تضيف تحليلات معينة للمفاهيم. فالسوبر مستقبلية تقول إن التاريخ يبدأ من المستقبل، وبذلك تعرّف السوبر مستقبلية المفاهيم المختلفة من خلال مفهوم المستقبل كتعريفها للمعنى على أنه قرار اجتماعي مستقبلي. وبما أن المعاني قرارات اجتماعية في المستقبل، إذن اللغة تتشكّل في المستقبل فقط  وبذلك نتحرر  من سجون لغاتنا المتوارثة. من منطلق اللغة السوبر مستقبلية، الحقيقة أيضاً مُعرَّفة من خلال المستقبل. بالنسبة إلى السوبر مستقبلية، الحقيقة قرار علمي في المستقبل. لهذا التحليل السوبر مستقبلي  فوائد معرفية واجتماعية عدة تدعم مقبوليته منها : أولاً، بما أن الحقيقة قرار علمي في المستقبل،  والقرار العلمي يتخذه العلماء، إذن من الممكن الوصول إلى معرفة الحقيقة. هكذا يضمن هذا التحليل إمكانية المعرفة. ثانياً، بما أن الحقيقة قرار علمي في المستقبل، والمستقبل لم يتحقق كلياً في الحاضر والماضي، إذن لا بد من البحث المستمر عن الحقيقة. من هنا، تضمن السوبر مستقبلية استمرارية البحث المعرفي والعلمي بدلاً من أن توقفه. ثالثاً، بما أن الحقيقة قرار علمي في المستقبل، والمستقبل لم يتحقق بعد، إذن الحقيقة غير محدّدة في الحاضر والماضي وبذلك من غير الممكن أن يدعي أحد أنه يملك الحقيقة دون سواه ما يضمن استحالة التعصب لمعتقدات معينة ورفض الآخر على أساس اختلاف معتقداته عنا. هكذا تجنبنا اللغة السوبر مستقبلية الوقوع في التعصب الفكري والعداوة العقائدية، وهذه فضيلتها الاجتماعية.

 

أما بالنسبة إلى السوبر تخلف فاللغة ودلالاتها ومعانيها محدَّدة تاريخياً، وبذلك لا نحتاج إلى تحليل المفاهيم علمياً وفلسفياً ما يؤدي إلى رفض البحث العلمي والفلسفي. هكذا نظرتنا إلى اللغة تحدِّد مصيرنا وكيفية تشكّل مجتمعاتنا وتاريخنا. وبما أن، بالنسبة إلى السوبر تخلف، اللغة ومفاهيمها محدَّدة مُسبَقاً، إذن الحقيقة محدَّدة  ومعروفة سلفاً. ولذا لا نحتاج إلى البحث عن الحقيقة من خلال العلوم والفلسفة. هكذا لغة السوبر تخلف تستدعي رفض التفكير بأشكاله كافة. وبما أن الشعب السوبر متخلف يعتقد أنه وحده يملك الحقائق، إذن يتعصب لمعتقداته ما يؤدي إلى رفض الآخرين. من هنا، النتيجة الطبيعية للسوبر تخلف هي رفض الآخر ومعاداته. فالسوبر متخلف يعادي الفكر والعلم، وهو بذلك يعادي الإنسان ويقتله. وهذا  لأنه يعتقد أنه وحده يملك الحقيقة وبذلك من واجبه أن يلغي الآخرين لتحيا حقيقته وحدها. في زمن السوبر تخلف، ثمة حقيقة واحدة فقط  هي تلك التي نعتقد بصدقها. وبما أنه توجد حقيقة واحدة فقط  هي التي نعتقد بصدقها، إذن لا مفر من التعصب لها  ما يحتم معاداتنا لمن لا يؤمن فيها. هكذا يؤدي السوبر تخلف إلى السوبر طائفية والسوبر عنصرية. نحيا اليوم في لغة السوبر تخلف لأننا لا نرفض الحقائق فقط  بل نستغلها من أجل قتل بعضنا البعض. الشعب السوبر متخلف له عقيدة أيديولوجية معينة سلفاً مفادها أن الحقيقة هي ما نعتقد وإلا ما اعتقدنا فيها. من هنا، الشعوب السوبر متخلفة سجينة لغاتها المحدَّدة سلفاً  بحيث يغدو الكون هو ما كان، ويمسي الوجود هو ما نجد، ويصبح العالم هو ما نعلم ما يحتم رفض أي مشاركة في البحث العلمي عن الحقائق. هكذا الشعب السوبر متخلف سجين الجينات اللغوية. وهذا سبيل السوبر إنهيار الحضاري والاجتماعي لأن المجتمع قائم على العلم والبحث الموضوعي عن الحقائق. فالعلم عملية تصحيح مستمرة لِما نعتقد، ولذا لا يقينيات في العلم ما يستدعي عدم التعصب لِما نعتقد، وبذلك نقبل الآخرين فيولد الإنسان وينشأ المجتمع.

أخيراً، بما أن العلم عملية تصحيح مستمرة، وبما أن لغتنا لا بد أن تكون علمية، إذن اللغة لا بد أن تكون عملية تصحيح مستمرة لذاتها ولمعاني مفاهيمها ما يضمن قبول البحث العلمي والفلسفي والمشاركة فيه. هكذا تكمن اللغات والحقائق في التحرر منها لأن اللغة مشروع حضاري قائم في البحث الدائم عن معاني المفاهيم تماماً كما أن الحقيقة كامنة في البحث المستمر عنها فمالك الحقيقة سجينها. اللغة التي لا تحررنا تقتلنا وتنتحر.

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2147 الأحد  10/ 06 / 2012)

في المثقف اليوم