قضايا وآراء

نصوص بلاغية متعالية / احمد الكناني

"مع الاحتفاظ بالمكانة المقدسة للكتاب الالهي" او انه متأخر رتبتين عن كلام الله تعالى وكلام النبي عليه الصلاة والسلام ؟ وهذا التاخر الرتبي نجده في كلام جامعه السيد الرضي تعليقا على الحكمة المتعالية التي تختزل القصة كاملة بكلمتين  " تخففوا تلحقوا "(?)

او انها مقارنات باطلة لا يعبأ بقائلها كائنا من كان لانها تدور بين مستويين احدهما الهي متعال والاخر انساني متدان فلا موضوع بينهما ليصح الحكم عليه بالنفي او الاثبات او ان هذا اعلى وهذا ادون .

او هي مجازات في الكلام واطلاقات تسامحية لم يقصد منها ارادة المعاني الحقيقية .

وللاجابة عن هذه التساؤلات البريئة وغيرها والتي نسمع صداها في بعض محافلنا الادبية وندواتنا الدينية من الاخذ بمقطع من هنا ومقطع من هناك والمقارنة بينهما للحصول على نتيجة ما وترتيب الاثار عليها ... مثل هذه المقارنات قد تفتقر الى الموضوعية في مناقشة نصوص دينية على درجة عالية من الحساسية حتى وان جردت من قداستها واخضعت للنقد الادبي وتعومل معها على انها نص لغوي، الا انها تبقى تحضى بمكانة سامقة لا بد من التعامل معها بقدر كبير من التأمل والحيطة، وليس من المعقول ان اتعامل مع نص ادبي منسوب الى النبي محمد (ص) او الى الامام علي (ع) كتعاملي مع نص لابي العلاء مثلا "على علو شأنه" ، لان في كلامهما مسحة الاهية مستقاة من الكلام الالهي الذي عايشوه وتربوا بين جنباته، وكذلك التعامل مع النص القرأني ذاته فانه يتطلب مهارة عالية للخوض في شواطئه فضلا عن الغوص في اعماقه .

و عدم الموضوعية تتأتى من اقتناص نص قرأني يتحدث عن قضية ما او عن حكم في واقعة ما، ثم الاتيان بنص من نهج البلاغة يحتوي على مجازات واستعارات بديعة ليقال ان نهج البلاغة يرقى في بلاغته الى مستوى بلاغة القران . وكأن القران كتاب في  البلاغة ليقرن به هذا النص البلاغي او ذاك. فالقران يحتوي على نصوص بلاغية وعلى غيرها كالوقائع والاحداث والاحكام، فهو ليس كتابا بلاغيا بأمتياز بالمعنى المتعارف عليه في الكتب البلاغية،و نهج البلاغة كتاب صنف ليكون كتابا بلاغيا، وليس كتابا يستدل به على الاحكام الشرعية حتى وان اشتمل على بعض منها، كما انه ليس كتابا تاريخيا ايضا رغم شموله على توثيق لبعض الاحداث والوقائع التي عاصرها الامام في فترة صدر الاسلام  والخلافة الراشدة وصراعه مع معاوية الى حين استشهاده في محراب صلاته، وانما هو مصنف في المجازات البلاغية كما اراده له جامعه.

و تذكرنا هذه المفارقات بذاك الرجل الذي زنى فاتى النبي ليطهره ويقيم الحد عليه، والنبي عليه الصلاة والسلام يريد افهامه بحقيقة الرنا الموجب للحد والرجل يصر على انه زان ومستحق للعقوبة، وهنا يقول له النبي " أ نكتها " لا تكني(?) .فهل يقال ان النبي لم يكن فصيحا لانه تفوه بكلمة سوقية لا تمت الى البلاغة بصلة .

و تذكرنا ايضا باعتراض الاشعث بن قيس للامام علي وهو مسترسل في خطبته بأن" ما تقوله عليك لا لك"، فيخفض الامام اليه بصره ويلجمه " بما يدريك ما علي مما لي عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين، حائك ابن حائك , منافق ابن كافر ..."(?).و يمكن لقائل ان يقول ان عليا بسبه وشتمه للرجل امام مرأى ومسمع الناس قد خرج عن البلاغة والفصاحة .

و حدثت ايضا مع المغيرة بن الاخنس عندما اغضب الامام فأجابه :"يا ابن اللعين الابتر والشجرة التي لا اصل لها ولا فرع " في المشادة الكلامية التي نقلها الشريف الرضي في نهج البلاغة(?) .

لكن البلاغيين ذكروا في تعريفهم للكلام البليغ قيودا منها مطابقته لمقتضيات الحال، والحال يقتضي تبيان حكم الزنا بما لا يقبل الشك مطلقا ولا تنفع الكنايات والمجازات والكلام البليغ هنا، سيما ان حكم الزنا قد يصل في بعض حالاته الى القتل كما في هذه الواقعة، فلابد من تبيانه حتى لو اقتضى الامر بيانه بألفاظ غير بليغة .

و كذلك الحال يقتضي الرد الحازم على الاشعث والمغيرة ولو باقسى الالفاظ، ولا يخرج الكلام عن جادة البلاغة والفصاحة طالما هنالك مطابقة بين الكلام ومقتضيات الحال، ولا ننسى ان التحقير والتصغير والتوبيخ والتقريع من الصيغ الراقية في البلاغة العربية اذا كانت في البين مطابقة مع الحال، واشتمال الكلام البليغ على بعض الالفاظ غير البليغة لا يخرجه عن كونه بليغا، كما ان شمول القرأن على كلمات غير عربية لا يؤثر على بلاغته كأستعمال السجيل صفة للحجارة في سورة الفيل، والامثلة على ذلك كثيرة في القران الكريم، وهناك بحث شيق ذكره  سعد الدين التفتازاني في مقدمة كتابه المطول في شرحه لتلخيص مفتاح العلوم،له دلالة اكيدة على ما ذكرته .

و بناء عليه لا يشوب القرأن ما يعكر صفو روعته مجرد شموله على أيات لا تحتوي على مجازات لغوية، لانه كتاب نزل هدى للناس ولا مانع من تسخير اليات مختلفة لتحقيق الهدف وهو الهداية كالقصص القراني واجوبة الحوادث الواقعة وما الى ذلك مما يتطلب بيانه الابتعاد عن  المجازات والتشبيهات المخلة بالغرض كأيات الاحكام مثلا وهي خمسمائة أية والتي قوامها في وضوحها المتمثل في الاستفادة من اقرب المعاني الى الالفاظ، وتخيل لو ان القران استعمل المجازات والتشبيهات البعيدة في بيان ايات الاحكام لنقسم المسلمون الى تسعة وتسعين فرقة  .

و لا مانع من النظرة التفكيكية للقران والنظر الى الاحكام كاحكام يقتصر النظر اليها على انها احكاما فحسب كما فعل الجصاص وابن العربي والكيا الهراسي وغيرهم، والنظر الى المجازات القرأنية كنصوص بلاغية لوحظ فيها البعد البلاغي كنصوص ادبية من لغة العرب يمكن استنباط قواعد النحو والصرف والبيان والمعاني والبديع منها كما فعل آئمة البلاغة كعبد القاهر الجرجاني في دلائل الاعجاز والسكاكي في مفتاح العلوم والخطيب والتفتازاني فيما كتبوه من تلخيصات وشروح على المفتاح، وكذلك  جار الله الزمخشري في تفسيره الكشاف .

الا ان من افرد كتابا للمجازات القرأنية هو السيد الشريف الرضي المسمى بتلخيص البيان في مجازات القران والمعروف اختصارا بالمجازات القرانية، جمع فيه عجائب الاستعارات وغرائب المجازات من القران، ويقول في مقدمته " وان اللفظة التي وقعت مستعارة لو وقعت في موقعها لفظة الحقيقة لكان موضعها نابيا بها ونصابها قلقا بمركبها،اذ الحكيم سبحانه لم يورد الفاظ المجازات لضيق العبارة عليه ولكن لانها اجلى في اسماع السامعين واشبه بلغة المخاطبين " (?)،و هذا المقام هو الامثل لمن يحلو له عقد المقارنات بين النصوص البلاغية اذا ما اريد للنص القراني ان يكون نصا لغويا .

ثم اردفه بكتاب اخر سار به على نحو المجازات القرانية واسماه بالمجازات النبوية حيث جمع فيه لطائف البلاغة من كلام النبي (ص)، ثم  اكمل مشروعه بكتاب خصائص الائمة ووصل به الى بدائع الكلمات القصار والحكم المنسوبة الى الامام علي، ووجد نفسه امام كنوز من البلاغة العلوية جمعها في نهج واحد اسماه نهج البلاغة، فالفضل كله يرجع الى هذا العملاق الذي وضع بين ايدينا نصوصا بلاغية متعالية عن كل نصوص الدنيا هي المجازات القرانية والمجازات النبوية والمجازات العلوية او نهج البلاغة .

و لايهمني القائل بعدم موثوقية ما جاء في المجازات النبوية من كلام للنبي  لان جامعها علوي الهوى، ولا يهمني ايضا القائل بعدم موثوقية ما جاء في نهج البلاغة  لانها مرويات مرسلة من دون اسناد.و هذا هو الوباء الذي نتحدث عنه ليل نهار وهو الخلط بين الموضوعات المختلفة،فلا يهمني هذا ولا ذاك لان لغة البلاغة تعلو على كل اللغات فهي لغة القلوب وفوق افق العقول، وليست هي لغة احكام حتى تحدها مقاييس الرواية والرواة .

 

.....................

المصادر :

(?)الخطبة ?? من نهج البلاغة ص ??، تحقيق صبحي الصالح،ط ?،2004 .

و نقلها الرضي في ذيل الخطبة ??? ص ??? .

(?)البخاري،  الجامع الصحيح، رقم ???? .

(?)الخطبة ?? ص ?? تحقيق صبحي الصالح .

(?)الخطبة ??? ص ??? .

(?)الشريف الرضي، تلخيص البيان في مجازات القران ص??،تحقيق علي محمود مقلد، ط بيروت

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2148 الأثنين  11/ 06 / 2012)

في المثقف اليوم