قضايا وآراء

المتنبي وسهام وخولة في إيطاليا / عدنان الظاهر

كيما نقضي فيها شهراً واحداً للتمتع ببحرها وسواحلها الرملية المترامية الأطراف، ثم بلياليها المتميزة حيث الموسيقى والرقص والغناء في ساحاتها العامة وحدائقها ومقاهيها ومطاعمها... فضلاً عن بهجة شوارعها الأنيقة الجميلة الفائقة الإنارة والتي تظل مكتظة بالبشر أطفالا ً ونساء ً ورجالاً حتى منتصف الليل . وصلت سهام الدرزية وصديقتها الأميرة الحمدانية (خولة)، شقيقة سيف الدولة الحمداني، قادمتين بطائرة خاصة من بلاد الشام فيما وصلت ُ أنا وصاحبي المتنبي قادمين بالقطار من بلاد الجرمان.

إستقرت الأميرة الحمدانية وصديقتها الأثيرة (سهام) في فيلا خاصة تمتلكها أميرة بني حمدان مطلة على ساحل البحر تماماً بينما كنت قد إستأجرت مسبقاً لي ولصاحبي شقة صغيرة لشخصين لا تبعد كثيراً عن قصر الأميرة . رتبت هذه الشقة لنا السيدة (ماريا) وشقيقها (بيرو) اللذان يديران مكتباً لإيجار وشراء وبيع الشقق والدور السكنية في مدينة لينيانو وضواحيها الأخرى . ثم هما مّن دبر صفقة شراء الفيلا الفخمة الباذخة لخولة الحمدانية لقاء عمولة مجزية وبالغة الكرم . رافقت الأميرة

ـ فضلاً عن سهام ـ وصيفة رومية وطباخة شركسية وخادمة حبشية . كان منظرنا، نحن الأربعة، ونحن نتمشى في الشوارع المزدانة بالورود وزهور أشجار (الماكنوليا) البيض الواسعة ... كنا نلفت نظر المارة من الإيطاليين وشتى الجنسيات من المصطافين من مختلف قارات العالم... إذ كانت الأميرة محجبة الرأس فقط وكان المتنبي يحتذي نعالا ً جلديا ً ذا إصبع ويرتدي جلابية فضفاضة بيضاء [دشداشة كويتية] وكوفية بيضاء على رأسه يتلثم بها حين نكون على ساحل البحر خوفاً من رماله . لم تدخل (خولة) البحر ... وإذا دخلته فبكامل ملابسها ... تغوص فيه حتى الركبتين ... بينما كانت الدرزية ُ سهام على عكس ذلك : فتاة جميلة متحررة تخوض البحر بالبكيني كدلفين مدرَّب . كانت تتسابق في العوم معي وكانت غالباً ما تفوز عليَّ تاركةً إياي وراءها ظهريا . ثم كانت تشارك فرق لاعبي كرة الطائرة على رمال الساحل في لعبهم رغم أنها لا تعرف اللغة الإيطالية التي كانت (خولة) تتقنها حيث تعرفت عليها زمان أن كان أخوها سيف الدولة يغزو بلاد الروم وكانت غالباً ما ترافقه في تلكم الغزوات . أما الأماسي الطويلة فقد كنا أربعتنا نمضيها على شرفة الفيلا الواسعة المطلة على البحر حيث أنسامه العليلة المشبعة ببخار عنصر اليود البحري وحيث ما لذ َّ وطاب من أطايب أيدي الطباخة الشركسية وأفضل ما في الدنيا من الفاكهة ولا سيما المشمش والتين والبطيخ بنوعيه الأحمر الداخل وأصفره العسلي فائق الحلاوة ... فضلاً عما كنتُ أبتاعه من الدجاج المشوي المعتق بعصير الثوم وأوراق نبتتي البازيليكا والروزمارين من السوبر ماركت الشهير المسمى: Eurospar / Epam

 

كانت خولة تحب أشعار الحروب التي قالها المتنبي في حروب أخيها الكثيرة وكانت تطلب منه أن ينشدها إياها فكان يلبي طلباتها على الفور مفضلاً إنشادها واقفاً لكأنما كان في ساحة الحرب بعينها . أما سهام الشاعرة والكاتبة فقد كانت تميل كثيراً لسماع أشعار الغزل والرومانس التي قالها المتنبي في حياته صادقاً أو كاذباً . كان المتنبي يعتذر خجلاً عن إنشاد أشعار النسيب والتشبيب لذا كلفني أن أقوم أنا بالمهمة الصعبة . ما كنا نحس بمرور الزمن وكانت سهراتنا غالباً ما تمتد حتى هزيع الليل الأخير . كما كنا أربعتنا نتمشى في بعض الأماسي في شوارع المدينة العاجة بالبشر ونأكل الكثير من (الآيس كريم) كباقي الناس . كانت سهام أكثرنا هوساً بحب الآيس كريم . أما خولة فمقلة كدأبها مع باقي أصناف الطعام . والمتنبي يأبى تناول مخاريطه ونحن نمشي في الشوارع . كان ما زال خجولاً كثير التحفظات . حين نملُّ من التمشيات الطويلة ومن صخب الموسيقى وآلاتها الحادة ومن شدة الزحام كنا نجلس في مقهانا المفضلة:  Bar Central Park

الواقعة على تقاطع شارع فرعي مع الشارع الرئيس في مركز المدينة المسمى Central

أغلب مرتادي هذا المقهى من النمساويين وعادتهم الإكثار من شرب البيرة حتى السكر أحياناً . ما كانت خولة تميل كثيراً لإرتياد المقاهي لكنها كانت تجاملنا كأننا ضيوف قصرها في حلب . حين تختلي سهام بصديقتها خولة تجرها للحديث في موضوع الرسم وباقي الفنون الجميلة . فبالقرب من مقهانا وفي ساحة الكنيسة الضخمة تقام معارض لبيع لوحات الرسم والخط الصيني ومنحوتات خشبية يعرضها أفارقة للبيع بأثمان بخسة . فضلاً عن ألاعيب بهلوانات الشوارع وموسيقى وغناء فرقة شباب من أمريكا اللاتينية .

نلتقي حيناً جميعاً في الفجر على ساحل البحر للتمشي وجمع القواقع والمحار والحصى الجميل فتأخذنا التمشيات حتى المدينة الساحلية العالمية الشهرة المسماة: Penita

فنؤوب منها وقد هدنا التعب بالحافلات العمومية . أما باقي ساعات النهار فكنا نمضيها على الساحل تحت مظلات وأسرِّة خاصة للتمدد إستأجرناها من محل قريب من فيلا خولة يحمل إسم: Lido del Sole

مصيبة المتنبي في أنه يميل إلى المخالفة حيناً وإلى الشذوذ أحيانا . ما كان يرتاح للمكوث تحت مظلته بل كان يفضل الإنبطاح بجلبابه الأبيض على رمال الساحل متوسداً أحدَ ذراعيه . حين كنت ألومه كان يقول : دعني ... أنا من جماعة (أبي تراب) . يلف رأسه بكوفيته وينام عميقاً فيبدأ شخيره يشق الآفاق .

قمنا ذات يوم بسفرة بحرية تستغرق ساعتين لزيارة المدينة الساحلية المسماة: Grado

مدينة صغيرة شوارعها غاية في جمال التنسيق تزينها أشجار الماكنوليا والمطاعم والمقاهي ومحلات بيع المجوهرات والأحجار الكريمة ونصف الكريمة وغرائب البحر من قواقع وأصداف وتشكيلات عجيبة . الغريب أن الكثير من هذه المحال يمتلكها أجانب أكثرهم من الهنود قصيري القامات لا يتكلمون اللغة الإنجليزية، فأي هنود هؤلاء؟

عرضت على صحابي أن نزور مدينة ترييستا الشهيرة: Trieste

القريبة من حدود إيطاليا مع جمهورية سلوفينيا فوافقت سهام التي تهوى السفرات وتحب المغامرات في حين إعتذر باقي الصحاب . أخذنا الباص المتجه صوب مدينة: Latisana

ومنها ركبنا القطار المتجه نحو ترييستا قادماً من مدينة البندقية

(فينيسيا) . إستغرقت السفرة بالقطار ساعة واحدة لا أكثر . كان مدخل مدينة ترييستا غاية في الروعة إذ البحر يمتد تحت سكة القطار بعمق يقارب المائة متر والجبال الشاهقة الخضر تمتد إلى شمال مسيره . أما المدينة ذاتها فلم تعجبنا . لم نجد فيها ما يستحق هذه الزيارة . سوى تعرفنا على فتاة شابة مغربية من مدينة الرباط تعمل في مقهى تكلمنا معها بالعربية فقالت إن َّ إسمها (فاطمة الزهراء) وإنها تزور أهلها في المغرب مرة ً واحدة كل عام تحمل لهم ما تدخر من نقود من عملها في المقهى . ذكرني إسمها بكاتبة مغربية كتبت مرتين في موقع " الهدف الثقافي " ثم غابت !! كنت أحس بشئ من الأسى لحال هذه الفتاة المغربية العاملة في إيطاليا في حين خالفتني سهام الرأي . قالت إنها تعمل هنا وتكسب نقوداً لتساعد بها أهلها . إنها تعمل حيث الأعمال جد َّ شحيحة في بلاد المغرب . تعمل وتكسب وتأكل جيداً وتتمتع بحريتها كإنسان وإمرأة شابة لا فرقَ بينها وبين الرجل . لا من يستعبدها أو يذلها أو يجبرها على تقديس وتأليه حاكم ظالم . سهام متحمسة للمرأة والدفاع عن حقوقها كاملة غير منقوصة . كنت أتعلم منها أموراً جديدة عليَّ أو ما كنت شديد الحماس لها . نتعلم من أطفالنا .

كنا ذات مساء حار على الشرفة الواسعة في قصر خولة إذ أخرجت سهام جهاز الموبايل وشرعت تتطلع وتناجي صورة كلبها الأثيرالذي تركت في بيتها . غارت خولة منها فأخرجت جهازها وقلدت نبالاً فأخذت تتحادث مع صورة قطتها التركية . تبسّمت ... تبسمت ففطن لي المتنبي وقرأ في وجهي أمراً ما كان خافياً أو ليخفى على أمثاله . قال هيا تكلم ... إن َّ في رأسك لأمراً ذا بال . قلت يا متنبي : ألا تشتاق لحصانك الذي تقحمتَ به جبال وعقاب لبنان مرة ً والآخر الذي قطعت به السهل والوادي والجبل حتى بلغت شيراز من إيران؟ قال نعم، قد أشتاق ولكن من أين لي بجهاز موبايل كي أضع فيه صورة حصاني؟ كانت سهام ما زالت في نجواها مع كلبها كما كانت الأخرى في تواصل روحاني عميق مع قطتها فسألت صاحبي : أكان حصانك الأخير أفضل في صفاته ومزاياه من حصان الأمير إمرئ القيس الذي قال فيه :

 

مِكر ِ مِفر ٍ مقبل ٍ مُدبر ٍ معاً

كجُلمودِ صخر ٍ حطّهُ السيل ُ من علِ

 

قال على الفور : أساء أمرؤ القيس لحصانه بهذا الوصف . كيف يا متنبي؟

قال جعله صخرة لا تتحرك إلا بقوة عظمى خارجية كالسيل الجارف وما شابه ذلك . يتحرك الحصان الأصيل بوخزة بسيطة جداً من قدم فارسه على إحدى خاصرتيه فينطلق ينهب الأرض نهباً ويكاد يطير كالبُراق في السماء . وكيف تصف حصانك الأخير الذي دخلت به بلاد فارس عام 354 للهجرة والذي قلت عنه على لسانه إذ أنطقته فجعلته يتكلم مؤثرا ً الحياة َ وجناتها على الحروب :

 

يقولُ بشِعبِ بوّان ٍ حصاني

أعنْ هذا يُسارُ إلى الطعانِ؟

 

قال كان فرساً عربياً أبيضَ أصيلاً أرسله لي هدية ً سيف الدولة من بلاد الشام وكنت وقتها في الكوفة بُعيد رحيلي عن مصر . حصل ذلك عام 352 للهجرة وكان الرسول هو إبن سيف الدولة فكتبت له شاكراً مادحاً قصيدتي الشهيرة :

 

ما لنا كلنا جو ٍ يا رسولُ

أنا أهوى وقلبُك َ المتبولُ

 

كلما عادَ من بعثتُ إليها

غار مني وخانَ فيما يقولُ

 

زودينا من حسنِ وجهكِ ما دا

مَ، فحسنُ الوجوهِ حالٌ تحولُ

 

وصلينا نصلك ِ في هذه الدنْ

يا، فإنَّ المُقامَ فيها قليلُ

 

فوجئتُ !! كانت سهام تتابع حديثي مع المتنبي . كانت تصغي بكل جوارحها له وهو يقرأ شعره هذا . طلبت منه أن يعيد قراءته لكنه إعتذر . قال سيقرأه لك هذا الرجل وأشار نحوي . قال إنما أنا مع خولة وأشعار الحرب وأنا كما تعلمين مَن قال :

 

الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني

والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ

 

أما أنتِ وشعر الرومانس فنصيبك هذا الرجل الذي يشبهك مدنية ً وتحضراً ... كما يزعم !! وقع الفأس إذا ً أخيراً في رأسي !! أنا من سيقرأ على مسامع سهام أشعار المتنبي في الحب والغزل والرومانس عموماً . ألحت هي بدورها في أن تسمع تلك الليلة بعض أشعار الحب التي قالها المتنبي هنا وهناك كمقدمات لأشعاره في المديح سيما وهو الذي قال :

 

إذا كان مدح ٌ فالنسيبُ المُقدَّمُ

أكلُ فصيح ٍ قالَ شعرا ً مُتيَّمُ؟

 

بأي غزل أبدأ المشوار؟ ما كان ديوان المتنبي معي لكني أحفظ عن ظهر قلب بعض أشعاره التي يقرأها المرء فلا ينساها طوال حياته . فكرت طويلاً لأختار ما يناسب تلك الأمسية المتفردة في أجوائها قريبين من البحر الذي كان لحسن الحظ هادئاً لا من موج فيه ولا من صخب والقمر الفضي فوقنا يضيء السماء الإيطالية بعصير منصهر فضته التي تبدو لناظرها مخضوضرة قليلاً . كنت في مأزق حقيقي أردت التخلص منه مقترحاً أن يقرأ المتنبي نيابةً عني فرفض رفضاً قاطعاً قائلاً : تغزّل أنت اليوم وسأقاتل مع صديقي سيف الدولة غداً !! إسترسل ْ أنت هذا المساء مع الحب وسأخوض الحروب على حصاني مساء الغد !! إذا تغزلتَ أنت فسهام شاخصة أمامك، أما أنا ... جد لي ساحة حرب حقيقية لكي أقرأ فيها شعراً !! غلبني الرجل بمنطقه ومناورته الخبيثة .

إستسلمتُ أخيراً فقررت أن أقرأ لسهام وباقي جماعتنا بضعة أبيات من قصيدة [أنا الغريق فما خوفي من البلل ِ] ففيها كما أحسب الكثير من لوعة الحب الحقيقي :

 

أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل ٍ

دعا، فلباه ُ قبلَ الركب ِ والإبلِ

 

ظللتُ بين أُصيحابي أُكفكفه ُ

وظل َّ يسفح ُ بين العُذر ِ والعَذَل ِ

 

وما صبابة ُ مشتاق ٍ على أمل ٍ

من اللقاء ِ كمشتاق ٍ بلا أمَل ِ

 

مُطاعة ُ اللحظ ِ في الألحاظ ِ مالكة ٌ

لمقلتيها عظيم ُ المُلْك ِ في المقل ِ

 

كنت أقرأ هذه الأبيات خائفاً وجِلا ً وفي صوتي رِعشة ... لأنني لا أجيد إلقاء الشعر خاصة إذا كان لغيري . مع ذلك طلبت سهام مني أن أعيد ما قرأت ُ بتؤدة وثقة أكبر وعلى مهل مع بعض التمثيل الذي يبرع المتنبي فيه . قلت لها فليقرأ المتنبي أبياته هذه وحسبي أني قد أفتتحت الدرب أمامه ... فعلام حذره من قراءة أشعاره في الحب؟ رفض المتنبي مقترحي جملة وتفصيلا ً وإقترح أن أنتقل إلى قراءة المزيد ولكن من قصائدَ أخَرَ . إعتذرت وطلبت منه أن يبادر هو فيقرأ علينا شيئاً من أشعار الحرب . صرخت خولة عالياً : برافو ... فليقرأ متنبينا شيئاً من ملحمات حروبه الطويلة مع أخي سيف الدولة . لانَ شاعرنا الأكبر أخيراً فرضخ لمطلب صاحبته الأميرة خولة التي كان بينه وبينها في حلب الشهباء ود ٌّ لا يخفيه وقد أعرب عنه صراحة ً في قصيدته التي رثاها بها إذ قال :

 

طوى الجزيرة َ حتى جاءني خبر ٌ

فزِعت ُ فيه بآمالي إلى الكذب ِ

 

أرى العراق َ طويل َ الليل ِ مُذ ْ نُعيت ْ

فكيف َ ليل ُ فتى الفتيان ِ في حَلَب ِ؟

...

ولا ذكرت ُ جميلا ً من صنائعها

إلا ّ بكيت ُ [ولا ود ٌّ بلا سبب ِ] .

 

أطرق الشاعر الكوفي قليلاً مفكراً بأية قصيدة يبدأ مشواره كيما يُرضي غرور أميرته خولة الحمدانية التي كانت مغرمة بالحروب وأخبار بطولات أخيها فيها وما كان يجلب لها من أسيرات روميات جواري َ ووصيفات ٍ وما يحمل لها من الذهب والدر وكريم الأحجار من ضمن غنائم حروبه . تنحنح َ الشاعر المتنبي ... نهض ببطء وتثاقل ... مد َّ قامته إلى أعلى ما إستطاع ... لف َّ طرف كوفيته الناصعة البياض حول عنقه ثم أنشد :

 

الرأي ُ قبلَ شجاعةِ الشجعان ِ

هو أول ٌ وهيَ المحلُ الثاني

 

فإذا هما إجتمعا لنفس ٍ حرّة ٍ

بلغت ْ من العلياءِ كل َّ مكانِ

 

وسعى فقصّر َ عن مداهُ في العُلى

أهلُ الزمان ِ وأهل ُ كل ِّ مكانِ

 

ظللنا صامتين خاشعين كأن َّ على رؤوسنا الطير . كان صوته رخيماً قوياً عميقاً أجشّا ً يشق سكون الليل حتى لكأن َّ البحرَ أمامنا يشاركنا خشوعنا ويتحسس هيبة الموقف وسحر إلقاء المتنبي لأشعاره . كان الشاعر يركز ناظريه فينا واحدا ً واحدا ً بعد قراءته لأي ٍّ من أبياته باحثاً عن تأثير ما يقرأ فينا وكيف كنا مسحورين به وبما كان يقرأ . واصل إنشاده بعد أنْ إحتسى جرعة ماء ٍ صغيرة :

 

تخذوا المجالس َ في البيوت ِ وعنده ُ

أن َّ السروج َ مجالس ُ الفتيان ِ

 

قاد َ الجياد َ إلى الطعان ِ ولم يقد ْ

إلا ّ إلى العادات ِ والأوطان ِ

 

في جَحفل ٍ ستر َ العيون َ غبارُه ُ

فكأنما يبصُرن َ بالآذان ِ

 

يرمي بها البلد َ البعيد َ مُظفَّر ٌ

كل ُّ البعيد ِ له ُ قريب ٌ دان ِ

 

فكأن َّ أرجلَها بتربة ِ (مَنبج ٍ)

يطرحن َ أيديها (بحُصن ِ الران ِ)

 

والماء ُ بين عجاجتين ِ مُخلِّص ٌ

تتفرقان ِ به ِ وتلتقيان ِ

 

فتل َ الحبالَ من الغدائر ِ فوقَه ُ

وبنى السفين َ له من الصُلبان ِ

 

خضعت ْ لمُنصَلك َ المناصل ُ عنوة ً

وأذل َّ دينُك َ سائر َ الأديان ِ

 

رفعت ْ بك َ العرّب ُ العِماد َ وصيّرت ْ

قِمم َ الملوك ِ مواقد َ النيران ِ

 

يا مَن يقتِّل ُ مَن أراد َ بسيفه ِ

أصبحت ُ مِن قتلاك َ بالإحسان ِ

 

فإذا رأيتك َ حار َ دونك َ ناظري

وإذا مدحتك َ حار َ فيك َ لساني

تفرَّس المتنبي في وجوهنا يقرأ فيها ما إستقر عليها وفيها من تعبيرات وإنطباعات حول ما قال واصفاً إحدى المعارك الفاصلة التي خاضها مرافقا ً صاحبه أمير حلب سيف الدولة الحمداني . جلس على مهل وهو يبحث عن كأس مائه عسى أن يجد فيه بقية يبلل بها ريقه . صببت له الكثير من عصير البرتقال الخالص والخالي من السكر . عبه بسرعة البرق وطلب المزيد . ثم طالب وبجرأة نادرة بعض الطعام فأتته به الطباخة الشركسية . كانت أميرة حلب سكرى بل ومسحورة بما سمعت من وصف وإطراء على أخيها وبطولاته في تلك المعركة ثم ... فاجأتنا أنها كانت هناك حاضرة تلك المعركة . كانت في خيمة نُصبت لها في الخطوط الخلفية على رابية عالية بحيث كانت ترى بأم عينيها تفاصيل المعارك مع العدو . إنتقلت عدوى فخارها بأخيها وبطولاته لنا ففقدنا التوازن النفسي والحضَري الذي نتحلى به في العادة فيما يخص إحترام الأديان الأخرى فإنجرفنا منحازين لسيف الدولة ولأفكار ومشاعر شاعره الذي شاركه بطولات تلك الحرب مع الروم المسيحيين [وأذل  دينُك َ سائر َ الأديان ِ]. وليس بأقل من ذلك تأثير العنصر العروبي في تعظيم المتنبي لسيده وأميره بالقول [رفعت بك العرب ُ العماد َ وصيّرت ْ // قِممَ الملوك ِ مواقد َ النيران ِ] ...

إقترحت ُ على رفقتي أن نختتم السهرة بأكلة (بيتسا) ممتازة في مطعم رائع هائل مطل على البحر إسمه جزيرة الزمرّد: Isola Smeralda

تتوسطه بركة فيها مياه خرارة صاخبة شديدة الخضرة . وافق الجميع على الفور ما عدا المتنبي فقد أبدى بعض التحفظ قائلا ً : قد أتخمتني السيدة الشركسية قبل قليل بالكثير من اللحوم المشوية على الطريقة القوقازية ... مع ذلك، واصل قوله، سأرافقكم مجاملة ً وسأتلهى بتناول بعض الآيس كريم إذا سمحت الآنسة سهام ... عاشقة وأميرة البيتسا والآيس كريم .

 

كانت تلك ليلتنا الأخيرة في مدينة (لينيانو) الإيطالية حيث أقلعت صباح اليوم التالي طائرة الأميرة خولة الخاصة من مطار مدينة البندقية برفقة صديقتها الدرزية سهام ووصيفتها الرومية والطباخة الشركسية ثم الخادمة الحبشية متجهين صوب بلاد الشام بينما أخذت ورفيقي المتنبي {الرجال الغلابى} القطار المتجه نحو بلاد الجرمان ... قسمة ضيزى !!.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2151الخميس  14/ 06 / 2012)


في المثقف اليوم