قضايا وآراء

قراءة نقدية في نص: (قصيدة غير متفق عليها) / هيام مصطفى قبلان


الغربة المطعونة بالسفر والجرح والألم والترحال، غربة المكان وغربة الروح، وعلى مساحة هذه الرحلة المدوّنة بنزف الحبر يجترّ الشاعر غربته من مكان لآخر وعقارب الساعة تئن معلنة السفر والرحيل، بعد الشاعر عن وطنه الأم العراق، عن بيته، عن طفولته ونخلات أبيه، وصبر أمّه، من هناك تسافر به الروح ويقول :" خذيني اليها قصيدة " هو الراهب العاشق الذي يعاقر صمتها بالصراخ يكتبها قصيدة فتنزف مفاتيحة التي يخالها تدور داخل أقفالها معلنة الفتح الأكيد والرجوع،وغربة الشاعر مقرونة بالحلم والتخيّل :


ألمح في البعيد بقايا اقدامِها
وهي تتركُ أثرها مسجى على وجهِ صحرائي
يا الهَ الشعرِ هل ثمة نبيٌ مثلي
يعاقر قصيدته أنثى تمتهن طعني بخجلِها
هل ثمة رجل يدون مسافاتهِ أمراة طاعنة بالياسمين

يرى ( بغداد) بهيئة أنثى يسمع وقع قدميها بقاياها تاركة أثرها على " وجه صحرائه"، صحراء النفس برمالها وحرها وسرابها ويبابها فيناشد " اله الشعر" وكأنّي به يؤمن بالقصيدة التي من الممكن أن يعاقرها كأنثى تطعنه بخجلها، بالمسافات المدونة بها بياسمينها،!
عامل الزمن يلعب دورا في النص فهو مرتبط بالمكان وعودته طفلا الى وطنه العراق حيث يسابق الزمن بعد ثلاثين عاما :

ثلاثون عاماً مرت
وطفل قلبي مازال يبكي مطركِ
ثلاثون عاماً مرت
وهذا الوجه مخنوق بجهاتكِ
أَلمْ يَئن لدجلة ان تحتضن وجع الفرات
وتمسح عن جبينه سنوات فاجعته
أَلمْ يَئن لكرخكِ ان يحتضن خيبات رصافتي
ستدركين جرح قلبي
وستعلمين يقيناً فاجعة الصراخ في وجه السكون
وستشي بي القصيدة اليكِ
كلما اتتها رعشة العاصفة
كثيراً ما اغازل عيني
فتسقط منها أنثى عارية تشبهكِ

هذا هو الطفل الباكي المطل بوجهه على نهر دجلة وهو يعانق وجع الفرات،يحلم بوطنه فقد آن الأوان للكرخ : وهو" أحد قسمي مدينة بغداد على الجانب الغربي لنهر دجلة والذي يعد من المناطق الحيوية للعاصمة ومنها المنصورة والكاظمية والصالحية وشارع حيفا والعامرية، وهنا شاعرنا بتساؤله يدرك أن الأمل موجود كي يحتضن كرخ بغداد قسمه الآخر الرصافة وقد نعتها بالخيبة، فهي تدرك جرح القلب ولا بد من أن تحسّ بصراخه بقصيدته التي سوف تفضح سره كلما فاض به الحنين اليها،يرى بغداد أنثى عارية تشبهها تسقط من عينيه حين يغازلها .
وطن الشاعر أنثى تؤنسه في غربته، يجسّد من خلالها حلمه المشتهى باللقاء والعناق والعودة الى سواحل الطفولة .

الموت المفتاح الثالث في النص:

أشتهي الموت مطعوناً باطرافِ اناملكِ
ويتهجد قميصي ان لا يقدُ من دبر
كي لا اتهم بفتاويهم وهي تنعتني بمجهولِ رواتي

اشتهاء الموت حين يفقد جذوره وهويته في غربته، دون علم، منكّس الرأس، لكنه الرافض لكل انتهاكات الشعر والعهر فقد أبى تاريخ العراق أن يؤدي به الى الانحراف وهنا يؤكد الشاعر أصالته ووفائه لوطنه بالرغم من الاغراءات والوحدة فيحث بغداد أن تفيق من صمتها، من نومها :

أفيقي فبقايا الروح تلتمس هدنة صحوكِ
يكفيني معلق على بيارقهم منكس ألراس
ووجهكِ هناك مغمور في الزحام
أروض فمي على وداعِ اغانيكِ الثكلى
وهي تمارس اجهاضات سنوات غربتي

هي صرخته التي تقوده لامتشاق وطنه من تحت الركام ولو لهدنة من الصحو، فوجه مدينته الضائع وسط الزحام،يودّع أغانيها الثكلى التي مارست معه اجهاض العمر في غربته، والآن آن الأوان أن يعود ببقايا روحه مشتهيا الموت بأطراف أناملها، هناك في مقهى بارد كان يسرد شاعرنا حكاياته رحلة التشرّد والضياع والألم، والغرباء يمضغون الحكايا باستهزاء،:

هناك في زاوية ذلك المقهى البارد
كنت أسرد عليهم حكايا دمعي وتشردي وضياعي
كانوا يمضغوني يا سيدتي بضحكاتهم الساخرة

انه احساس المغترب في كل مكان يحاول توثيق تاريخ بلاده، وبث مشاعره بحكايات الدمع لكن كل شيء يدعوه ليعود طفلا يركض في ساحة البيت، يلملم ما تناثر من أشلاء أحبته هناك، ويصرخ متى النهاية لهذا الاغتراب و"وحبيبتي بغداد تنزف ظلها في وجه المرايا "....!

الشاعر الرائع فاضل الحلو، نص جارح، كالنصل في خاصرة الزمن المر وهو يمضغ أعوام الغربة والتشرّد والضياع والدمع، ربما تركت لقلمي العنان بتجواله بين ثنايا النص في رحلة دامعة لكن نهايتها من المؤكد أن تتخطى وجه الصحراء واشتهاء الموت ... بغداد بوجهها المضيء ستبقى منارة التاريخ والثقافة والحكايات التي تتردّد على الألسنة في المقاهي وعلى الأرصفة ومع سحابة تحمل مطرا ينبت حدائق ياسمين،ليعود المغتربين الى أوطانهم بكل فخر واعتزاز .
مودتي / هيام

 

 

قصيدة غير متفق عليها /  فاضل الحلو

 


أيتُها الروحُ المسافرةُ
خذيني أليها قصيدة تتمرغ على سجادةِ صلاتِها
فَالراهبُ بداخلي يعشق أنين المتهجدين
من أعماق غفوتي اُعاقرُ صمتها بصراخي
وانزف بقايا مفاتيحي على دورانِ اقفالِها
ألمح في البعيد بقايا اقدامِها
وهي تتركُ أثرها مسجى على وجهِ صحرائي
يا الهَ الشعرِ هل ثمة نبيٌ مثلي
يعاقر قصيدته أنثى تمتهن طعني بخجلِها
هل ثمة رجل يدون مسافاتهِ أمراة طاعنة بالياسمين
ثلاثون عاماً مرت
وطفل قلبي مازال يبكي مطركِ
ثلاثون عاماً مرت
وهذا الوجه مخنوق بجهاتكِ
أَلمْ يَئن لدجلة ان تحتضن وجع الفرات
وتمسح عن جبينه سنوات فاجعته
أَلمْ يَئن لكرخكِ ان يحتضن خيبات رصافتي
ستدركين جرح قلبي
وستعلمين يقيناً فاجعة الصراخ في وجه السكون
وستشي بي القصيدة اليكِ
كلما اتتها رعشة العاصفة
كثيراً ما اغازل عيني
فتسقط منها أنثى عارية تشبهكِ
الاف الوجوه تدعوني ان أمتهن عهر الشعر
وأبى تاريخكِ الرابض على مكتبي انحرافي
أفيقي فبقايا الروح تلتمس هدنة صحوكِ
يكفيني معلق على بيارقهم منكس ألراس
ووجهكِ هناك مغمور في الزحام
أروض فمي على وداعِ اغانيكِ الثكلى
وهي تمارس اجهاضات سنوات غربتي
أشتهي الموت مطعوناً باطرافِ اناملكِ
ويتهجد قميصي ان لا يقدُ من دبر
كي لا اتهم بفتاويهم وهي تنعتني بمجهولِ رواتي
هناك في زاوية ذلك المقهى البارد
كنت أسرد عليهم حكايا دمعي وتشردي وضياعي
كانوا يمضغوني يا سيدتي بضحكاتهم الساخرة
كنت احلم بركض طفولتي حول نخلات ابي التي زرعها بصبرِ امي
وألملم شظايا احبتي المتناثرين في الحقول
واصرخ يارب الارباب متى المنتهى
وحبيبتي بغداد تنزف ظلها في وجه المرايا

فاضل الحلو
9-6-2012
ستوكهولم

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2152 الجمعة 15/ 06 / 2012)

في المثقف اليوم