قضايا وآراء

ما هو الجهاد؟ / صالح الرزوق

وغالبا يقرأ الجهاد على أنه قلب إيديولوجيا الإسلاميين الثوريين المعاصرين (1). وبتطبيق نوع من الكناية يمكن له أن يدل على معنى الجماعات الإسلامية الثورية ذاتها (2).

وبعض الباحثين يربطون الجهاد مع القيم المحلية التي تعارض اتجاهات الذوبان في العولمة (3). وبالنسبة لآخرين، يمثل الجهاد قوة عالمية وكونية مختصة بذاتها: وبين هؤلاء تجد طيفا واسعا من وجهات النظر. وفي نهاية هذا الطيف يقف بعض المفسرين المعادين للإسلام ليدلوا على العنف الضمني الذي ينطوي عليه الدين وعدم قدرته على التعاطي مع الظواهر الحضارية (4). وفي النهاية المقابلة من نفس الطيف يؤكد بعض الكتاب أن الجهاد له علاقة خفيفة أو أنه بلا علاقة مع العنف الذي توجهه الدواعي النفسية. وبالعكس، يعلنون أن الجهاد مبدأ مخصوص بالدفاع (5). ولنكون محايدين ودقيقين، إن المسلم والمعنى الحقيقي للإسلام ، حسب قولهم ، يتبنى في أعماقه الرغبة بالسلام. ولذلك إن الإسلام كما يعبر عنه مبدأ الجهاد إما يتساوى مع العنف والحرب، أو أنه يكون متساويا مع السلم.

بالتأكيد ليس من المستحب، وحتى ليس من الممكن، اختزال عدة مجتمعات وسياسات معقدة، تغطي مثل هذا النطاق العريض من الوقت والمكان، إلى مبدأ وحيد يعمل بمفرده. وفي الواقع، ليس كل المؤرخين المعاصرين ينظرون للمسألة بهذه المصطلحات الواضحة. فعدد منهم يتقاسمون افتراضا ينطوي تقريبا في الدين الإسلامي على التواصل الكامل بين التطبيق والنظرية وبين التاريخ والأطروحة. ولا يزال من غير الشائع النظر للإسلام على أنه جوهر غير متبدل أو علة تاريخية. وبالتالي يقدم الجهاد على نحو مبرر مفتاحا لفهم وتفسير الجوهر أو العلة، وبهذه الطريقة نما لعلمنا أن الإسلام هو أساسا " حول " الحرب، وأنه " مسؤول عن توضيح " النشاط الآخر السري والانتحاري والذي يتبناه أفراد معينون، وأنه أيضا " يبرر " وقوع الحروب في التاريخ، وهلم جرا.

و لكن لم يخبرنا حتى الآن أي تفسير مما سبق ما هي حقيقة " الجهاد"، وماذا يعني وراء حدود البلاغيات الطنانة التي شاعت في الحاضر والماضي. هل هو إيديولوجيا تميل للعنف؟ أم أنه اسلوب لتعبئة الجموع؟ أم ربما هو مبدأ روحاني لتحريض وتحريك الأفراد؟.

و مع أنه ليس من المحبذ المناقشة لغاية الجدل العقيم فقط، لن نستوعب الظاهرة التاريخية وإطارها النظري من غير استيعاب وشرح المفردات بمعناها الدقيق بقدر الإمكان وكما وردت في سياق الجدل المحتدم حول الموضوع.

لا تعني الكلمة العربية  جهاد (الحرب المقدسة) أو (الحرب العادلة). وهي تعني حرفيا " الضنك " (*). وعندما تتبعها العبارة المعدلة " في سبيل الله "، أو عندما ، كما هو الحال غالبا ، تغيب هذه العبارة ولكن نشعر بها بقوة الافتراض، يصبح للجهاد معنى خاص يدل على الحرب في محبة الله (ويمكن أن نحمل على تلك العبارة عدة دلالات ممكنة تصب في توجه واحد). أضف لذلك، توجد مفردات عربية أخرى متعددة قريبة بمعناها ووظيفتها من الجهاد. ومن بينها الرباط، والتي تعني النشاط الإيماني أو الطاعات، وغالبا تشير إلى أدوات الحرب، وفي سياقات متعددة يبدو أنها تتضمن الضد النوعي الدفاعي مقابل معنى النشاط الهجومي للجهاد. وتشير كلمة الرباط أيضا لنوع من المباني حيث يرابط فيه المدافعون ويأخذون أهبتهم : فهو مكان حصين تستوطن فيه جماعات المتطوعين لفترات طويلة من الوقت للتشبث بأرض إسلامية ولمقاومة العدو. ونذكر أيضا الغزو والغزوة . حيث أن غزا لها معنى يدل على الإغارة (ومنها جاءت الكلمة الفرنسية razzia **).

و هناك كذلك قتال أو " العراك " وهي تنقل أحيانا معنى يشبه الجهاد / الرباط، وأحيانا لا تدل على ذلك. والحرب تعني " حرب " أو " معركة "، وبالعادة لها مدلول محايد، وتحمل وزنا إيديولوجيا خفيفا بالمقارنة مع المصطلحات الأخرى. وعلى أية حال كل هذه الكلمات، لها نطاق دلالي واسع وغالبا ما تتقاطع فيما بينها. وهي أيضا ذات معنى متبدل حسب الفترة الزمنية أو الموضع الجغرافي.

و يدل الجهاد بشكل أساسي على جسم الأطروحة الشرعية. وتضم كتب التفسير المتعمقة التي تشرح قانون الإسلام الكلاسيكي بالعادة فصلا يدعى " كتاب الجهاد". وأحيانا هذه الفصول تحمل عناوين مختلفة مثل كتاب السيرة (شرعة الحرب)، أو كتاب الجزية (الضرائب). غير أن مضامينها متشابهة لو أخذنا الموضوع على نحو شامل. وبالمثل، معظم ناقلي التعاليم (الحديث) يتطرقون لكتاب الجهاد، أو شيئا من فصيلته. وقد كتب بعض القضاة الإسلاميين أيضا أعمالا مونوغرافية على الجهاد وعلى شرعة وسنن الحرب. ومن غير المستغرب، أن هؤلاء القضاة أحيانا لم يتفقوا مع بعضهم.

و بعض هذه الاختلافات تعود، ليس بالضرورة كلها، للانقسامات التي لحقت بعالمية وشرعية المسلمين السنة الذين توزعوا على أربع مدارس كلاسيكية (مذاهب)، اختلافات أخرى كان سببها انقسام كيان الإسلام إلى جماعات لها خصوصياتها وهي السنة والشيعة والخوارج وغير ذلك. ومثل كل قوانين الإسلام على وجه العموم، هذه الأطروحة الجهادية لم تكن من حصيلة إنتاج ولا صياغة دولة الإسلام: لقد تطورت بمعزل عن الدولة، أو أنها تطورت على هامشها.

و هذه المقاربات للجهاد في التفاسير وغيرها من كتب الشرع الإسلامي تتضمن ، بالعادة، عدة عناصر .

فالكتاب المثالي عن الجهاد يتضمن الشرائع التي تحكم طريقة السلوك في الحرب، وهذا يغطي معاملة من لم يبدأ الحرب ، وتوزيع الغنائم بين المنتصرين وما شابه. ويناقش أيضا مسألة إعلان ووقف العداوة، وهذا يفتح الباب لأسئلة حول مشكلة القيادة المناسبة. ويتضمن كتاب الجهاد مناقشة كيف ننظر للجهاد بعين النص في الكتاب المقدس (القرآن) وبعين تصرفات أو سلوك الرسول (السنة)، أو بعبارة أخرى كيف أن الجهاد كان أمرا من الله تعالى. وغالبا هناك، لا سيما في مجموعات رواية الحديث، فقرات بلاغية تحض المؤمنين على المشاركة في الحروب ضد أعداء الله. وبالعادة يوجد تعريف لأطروحة الشهادة، والتي هي جزء لا يتجزأ من الجهاد. وإن قائمة الموضوعات المتضمنة أكبر من هذا، ولكن يمكن البداية بما ذكرناه لتقديم فكرة عن ماذا يتضمن الجهاد الشرعي.

و الجهاد فوق ذلك أكثر من سلسلة أطروحات قانونية. ومؤرخو الإسلام غالبا ما يمرون به ويحاولون تفسير معانيه وبالأخص حينما يفكرون حول أشياء مثل التعبئة، والتهييج، والقيادة السياسية. على سبيل الذكر، في أوائل وبواكير الإسلام، لماذا حارب الجيل الأول بهذا القدر من الفاعلية والتفوق؟. وما هي الأسس التي قام عليها تماسكهم؟. وكيف كونوا جيوشهم؟ ولماذا اتخذوا ذلك الموقف من قياداتهم المباشرة وحكامهم؟. بالنسبة للمؤرخين الذين اهتموا بمثل هذه الأسئلة، كان من المستحيل التفكير بالمنحى التاريخي للجهاد بمعزل عن أطروحته الشرعية، وهذا يعود لعدة أسباب.

أولا، بعض السرديات التاريخية، وليس كلها، يبدو أنها توفرت لنا عن بواكير الإسلام من مصادر ذات اهتمامات شرعية، وذلك بلا شك لأنه جزئيا كان معظم المؤرخين للإسلام في أول عصوره من بين الصحابة والفقهاء بالذات (6) . ثانيا، أطروحة الجهاد لها دور خاص بذاته، وهو دور متعاظم مع الزمن. وليس الأطروحة فقط، ولكن أيضا أنصارها وأبطالها : الفقهاء والصحابة الذين كانوا يعرفون باسم عام هو " المتفقهون " أو بالعربية العلماء ، معظمهم هم أبطال لظاهرة دراما الجهاد التي لم تخمد نارها، ويمكن ملاحظة ذلك عند اللحظات الحرجة في : مشاركتهم (رمزيا وماديا) بكل نشاطات الاستعداد والتأهب للحرب.  إن الجهاد برأي المؤرخين: ليس صداما بين الأديان والحضارات والدول، ولكنه أيضا صدام بين جماعات موجودة في نسيج المجتمعات المسلمة. وعلى نفس القدر من الأهمية : لم يتوقف الجهاد عن الانتقال من طور لآخر، من أول لحظة وحتى يومنا هذا. ولو أنه كان يتألف من جوهر أصلي يمكن أن يكون قد تجدد عدة مرات متعاقبة مع كر الأيام والمراحل. 

 

.....................

هوامش :

1 – Kepel ،

 Jihad: The Trail of Political Islam  

2 – Rashid ،

Jihad: The Rise of Militant Islam in Central Asia.

3- Barber ،  Jihad versus McWorld.

4 – Pipes ، “What Is Jihad?”.

5 – تفاصيل دقيقة حول هذه الاتجاهات تراها في

Sachedina ,  “The Development of Jihad in Islamic Revelation and History”

and “Justifications for Just War in Islam”.

6 – Brunscvig : les Arabes" .“Ibn "Abdalhakam et la conqueˆte de l’Afrique du Nord

  

هامش من المترجم :

 *  - بالنسبة للمعنى اللغوي للجهاد فهو مشتق من الأصل الثلاثي لـ " جهد " والذي يعني عموما الطاقة والمشقة وبذل ما بالوسع. انظر ص 114 – مختار الصحاح – مطبوعات دار الكتاب العربي.

** وتعني باللغة العربية الغزوة. ومن النافل للقول أن حرف الراء يلفظ في الفرنسية بما يشبه الغين.

 - من كتاب الجهاد في التاريخ الإسلامي – النظرية والتطبيق. لميشيل بونيه Michael Bonner . الترجمة الإنكليزية من منشورات جامعة برينستون 2006 .

 

ترجمة : صالح الرزوق، 2012

  

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2154الأحد 17/ 06 / 2012)

في المثقف اليوم