قضايا وآراء

النقد الأدبي: قراءة في قصيدة: الحارس للشاعر عبد الستار نور علي / فاطمة الفلاحي

"لم تنظم بعدُ القصيدةُ التي تنغرز في القلب كما ينغرز السيف".2

"على الشاعر في عصرنا هذا، أن يفتح عروق دمه، من أجل الآخرين".3

"لست برجلٍ، ولا بشاعرٍ أو ورقة، بل نبضة مجروحة تسبر الطرف الآخر من الأشياء".4

هكذا وجدت قرين الشاعر والناقد عبد الستار نورعلي بنكهة لوركا .

* * *

انشودة الحارس مبرية بالوجع ، تتهادى بسمفونية حزينة شجية ، قد حفظتها عن ظهر قلب ويخيل إليّ بأني أترنم بها ، بين نفسي ونفسي ...

أوقفني الحارس عند مدخل بيتي المعمور

يسألني مغتاظاً:

ــ من أنت ؟

أجبت بكل براءة عصفور من بلور :

ــ أنا من ضيَّع في الأوهام عمره !

"حينها ما كنتُ يوماً في السياسيينَ، وماكنتُ يوماً في الشيوعيين، كنت في الليل ،أكتب لوركا ... انهضْ ،وأقول : أحبك يا أرنستو، وثمة صورة عصية على الإطار، و ثلجٌ يتساقطُ على الشجرة ، خارج أسوار القفص. تلك الأحلام نداولها بين يدي البحر، كضوء شارد يعلن سِفر الخروج."5

جوُّ رماديٌّ ، وثرثرة غير فارغة.6          

تنهال على روحه طيوفٌ شقية وهموم وطن جريح ، مرتعش، خائف .. تغدو ملامحه شاحبة ، وفي انبلاجة الفجر ، يعدو لاهثا متعثرا بجثث بدون ملامح ،فتطوله عيون الجدران السرية ، ويثقب وشاح مسامعه صريخ المذابح السرية ، وتتشبث راحتاه بــ.

كنتُ العمر الزاهد محفوراً

بين صدوع الصخرة

والزهر البري ألأبيض

يستنشق ريح البر ندياً

يشرب قطرات الفجر الأولى

من أفواه الأرض ........

 كنتُ العمر المطحون

برحى الزمن

ونداء الحرب العلنية

والذبح السري .............

فيبقى مشدودا ، وطيوف الضحايا تتساقط والكلمات فتنسل منهما الحياة ..معلناً:

"لنْ أكتبَ أشعارَ رثاء ،مازلتُ أمارسُ لعبةَ البركان، و اكتمْ على القلبِ الغضب ،و هو الذي لم ير ( رسالة من شاعر لسيدة الكلمة الحية ،         بهاء الجهات الأربعة في البركان البهيج، ولا التنين أو جلجامش والأفعى ،ولا الباحث عن الثورة المقتولة في المقابر) كل شيء ." 7

كنتُ الصوت المخنوق

في حنجرة الصوت

"فسأكونه…

أنا ذاك الصوت الجليّ

أنا رسول حمزاتوف"8

ساعة إعدام الكلمات البيض المسحوقة

برحى الأوراق الصفر

وعيون الجدران السريه ......

 

"أين تكون
الكلمة ، أين تدوّي
هنا في البحر، في الجُزر ، على اليابسة
في ارض المطر، أو ارض الرمل
هنا، لا صمت يكفي أولئك الذين يسيرون
آناء النهار و آناء الليل
الزمن الصحيح غائب و المكان الصحيح غائب"9

وهناك حيث القضبان والفضاءات الضيقة،  تشهد نظراته الظامئة للحرية ، أحلامه الزاحفة من ثقب الأقفال والتي تغصّ بالحرقة والأسى ، وهي تحبو متعلعلة الأعناق، متزاحمة، ومتكسرة الألوان من بين سطور الشعارات .

فتنساق سيمفونيته إلى ألوان أكثر جدية وعنف ، فتسمو بها الصور المحسوسة والمرتشفة من منابع الواقع ، الذي يعيشه الفرد المظلوم على العموم .

في ساحات القضبان

يقف السجانُ بآلاف الأقفال

وألسنة من نار الكلمات المسروقة

من أدراج التاريخ المنهزم أمام النمر الورقي .....

 من بين سطور شعارات الغابات المنتفضة

أيام القطبين

يقف الحارس مذهولاً

من سيل شعارات القطب الهائج

والقطب العائد لبطون البيان الأول

في ساحات هزائمنا .......

" يحْمِلُ الْمَوْتَى أَجْنِحَةً مِنْ طُحْلُب.

وَالنَّهَارُ صَبِيٌّ جَرِيح. "10

 

 يعلن الحارس ، أن كل ضروب الوجود هنا، فلنغمض العيون متذكرين هذا الاختناق الذي لامفر منه ، ونستشعر ما في الماضي كي نأخذ بيد مصائرنا ، فيكون آخر معاقلنا .

الحارسُ

فيلم من أفلام الخمسينات من القرن العشرين

يتراجع نحو الليل الأول من أيام القرن الماضي

قبل الماضي .....

* * *

لعل كل توجعات نور علي قد تآمرت عليه، فلونت حرفه ونبضه بالأحمر القاني .

حاول رسول حمزاتوف

أن يحرس أبواب داغستان بلاده

بقصائد من شاي بلاده

في أحضان العشب الأخضر

تحت ظلال الشجر المثمر

وحكايات الجدات الأسطوريه .......

 

وعلى وقع النشيد الوطني‏ تمنح الأوسمة وأكاليل الغار للقلوب التي لاتنفصم من أجل الوفاء ...‏

"وإذا لم يتبقّ من الرّجال غير ألف

كلّ ينشد ودّك و منشغل بطلبك

فثقي أنّني أنا

رسول حمزاتوف

سأكون بينهم

بين آخر الرّجال الألف."11

"كان بمقدوري التحدث عن "داغستان بلدي" ،  والآن يمكنني التحدث عن وطني روسيا وجورجيا، وعن كوكبي الأرضي. "12

فاصطادوه

في أقفاص الدوما

برصاص من حارس موسكو الكذاب

يلتسين

وغورباتشوف .......

 

" ثقي

أنّه جبليّ ضارب إليك من فجاج الضّباب

وإسمه رسول

وإذا أهملك الكلّ

وهجرك كلّ عاشق

وفاض حزنك الدّاكن مكثّفا كالغسق

فأعلمي

أنّ رسول حمزاتوف

يرقد خامدا بالتأكيد

بقبر بعيد, عند سفح جبل مهجور"13

* * *

"ياأيُّها الحارس المحلِّقُ في المدى

بيغماليون، ليس بالحبِّ وحده

وسرّاج برومثيوس حبيس و موجوع في  مدينة العطور والدماء       

      فقد شُغفْتُ بما تقولُ هوىً مُراقا 

فماذا تقولُ أيها الحارس لنا؟

 قالوا لي : تدلّلَ!     

قلت في سري : اقطعْ لسانك عن فمك!        

إنفجار أول وإنفجار ثان

هنا كانتْ بغداد..!

فتسربلتني الدموع حارقة في مرثية بغداد"14

* * *

أنا أكره ذاك الحارس أسوار الدوله العبرية

وشوارع بغداد المنفلتة

وأكره ذاك الحارس أنفاق أورشليم

وجدار الفصل.......

"البُغاث هناك يتفيأ الظلُّ والشرفة و بأرضنا يَسْتَنْسِرُ

اختلال واحتراق وفوضى في عمق مدينتك

وآخر السقوط في أرض الموت ."15

 

* * *

مع البيرتو مورافيا ، المثل العليا وقوانين والأعراف ينبغي أن تقوم على فرضية ،وأن كل جيل بدوره يصبح الحارس بدلا من المالك المطلق لمواردنا -- ولكل جيل واجب عليه تمرير هذا الإرث في المستقبل." إذن لِمَ حراس الوطن لم يمرروا ذاك الإرث؟ ورغم هذا يقول الشاعر :

لكني بقيت أحب الحارس جيفارا

والحارس هوشي منه

وحارس بغداد المغتال

عبد الكريم قاسم ..........

 كنت أحبُّ الحراسَ

عرفات

وحواتمه

وحكيم الثورة ،

 

"ولكن أيها الحارس،أفتطلب ضريبتك؟" 16

* * *

لكني أعجب كيف تحوَّل حراس الثورة سجَّانين ،

ومسجونين

بين القضبان العمياء

في ذيل الديناصورات ........

 

إن .."البلاد العظيمة ممزقة"

والكذب يملأ الوقت والفضاء...‏

التفاهة منتشية بفضل الفوضى من جديد،‏

وقد ألبست نفسها تاج الرياء.‏

والإدعاء يشحذ منقاره الإمبراطوري،‏

وهو ينظر في مرآة عوجاء...‏17

 

تتوالى سحب الأحداث في الأفق السياسي.. وحرارة إنسانيته ( الشاعر) تشده حائرا إلى ماآلت إليه يد الحارس ، فغدت فكرة الموت ،كمدية حادة النصل بيد كل حراسها ، فتعصفَ بأمن البلاد. وتستبق انغراستها في روحه قبل أن تكون في جسد المدينة .  

 

  سأظل الحائر

بين الحبِّ

وبين الرفضِ

للحارسِ أسوارَ الصين!؟

 لا تسألْني عن حراس البوابة

الشرقية

وحراس الخارطة الوسطى

وحراس البوابة

الغربية

وحارس افريقيةِ طرابلس الغرب ،

فالكلُ على درب الحارس

للخامس

من صولات حزيران

وحارس بوابتنا الشرقية!!!   

 

"هناك مجموعة كبيرة من البشر رُمي بها الى مكان كانت قد استقرت فيه سابقا.

 جيشٌ كبير، شعبٌ يسكن تحت سماء باردة فوق أرض باردة، يسند كل واحد منهم رأسه على ذراعه، ووجهه متجه نحو التراب، يتنفس بهدوء. أما أنت فتبقى يقظا، مهمتك الحراسة، ترى الآخر بعد أن تحرك المشعل في اتجاهه. لماذا الحراسة؟ يقال إن من الضروري أن يكون هناك حارس. يجب أن يكون هناك من يؤدي هذه المهمة.". 18

فقد نجح القدير عبد الستار نور في انتقاد جميع الأوضاع في كافة المجتمعات وتجسيد معاني الحرية والثورة على الطغيان.

_____________________________

1 = من أقوال رسول حمزاتوف

2، 3، 4، = أقوال فيدريكو غارثيا لوركا

5،6،7 = مسميات قصائد الشاعر والناقد عبد الستار نور علي

8= من قصيدة لرسول حمزاتوف

9= قصيدة زمن التواتر للشاعر تي ، أس ، إليوت

10= من قصيدة"غزلية الطفل الميت" لفيدريكو غارثيا لوركا

11= من النشيد الوطني لرسول حمزاتوف

12،13 = من قصائد لرسول حمزاتوف

14،15= مسميات قصائد الشاعر والناقد عبد الستار نور علي

16= رابندراناث طاغور

17= من قصيدة " البلاد العظيمة ممزقة" لرسول حمزاتوف

18 = مقطع من "ليل " فرانز كافكا :

 

للاطلاع

 الحارس / عبد الستار نور علي

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2155 الأثنين 18/ 06 / 2012)


في المثقف اليوم