قضايا وآراء

النخبة السياسية العراقية وضياع بوصلة النخبة (4-7) / ميثم الجنابي

وبدون ذلك تصبح المأساة فعلا لا علاقة له بالعقل والضمير والإبداع. فالمآسي تصبح فضيلة فقط عندما تتحول إلى بلاء عظيم لقلوب أعظم، أي عندما تكون لقلوب الأمم كاللهب للذهب. ودروس التجربة التاريخية للعراق الحديث تكشف عن أن مصدر مأساته تكمن في عدم تكامله الذاتي. ولا يمكن بلوغ هذا التكامل دون تكامل الأحزاب والنخب السياسية في رؤية وطنية واجتماعية واقعية وعقلانية. فالتجزئة القومية الضيقة والعرقية والطائفية الآخذة في الصعود هي الوجه الظاهري للانحطاط الباطني. وكلاهما لا يصنع معاصرة ولا تحديث ولا إجماع شرعي. إذ لا يمكن للنزعات القومية الضيقة والعرقية والطائفية أن تحصل على إجماع وطني. وهي حقيقة جلية الآن على خلفية الصراعات التي لم تحسم لحد الآن بصدد مركزية الدولة ومنظومة الإدارة الحكومية (السلطة)، أي بعد مرور سنوات عديدة على سقوط الدكتاتورية الصدامية.

طبعا أن لهذا الخلل تعقيداته الملازمة لمرحلة الانتقال الصعبة والمرهقة التي ميزت حالة العراق، بفعل الاحتلال ومقدماته ونتائجه. إلا أن ذلك لا يقلل بأي قدر كان من الأقدار دور وأثر ومسئولية النخب السياسية بهذا الصدد. فكما لا يمكن للمرء الطبيعي أن يكون هجينا لقوميات وأديان وطواف وأوطان مختلفة، كذلك لا يمكن لحكومة أن تكون مسخا وجميلة في آن واحد.

وعندما يكون الهمّ السياسي للنخب محصورا في صنع مسخ من هذا النوع وتقديمه على انه نموذج للائتلاف والاتفاق والوحدة وما شابه ذلك، فانه مؤشر على نوعية وكمية التشوه الفعلي في الرؤية السياسية لفكرة الدولة والحكومة والقانون والعمل السياسي. وفي نهاية المطاف لا يمكن لرؤية من هذا القبيل أن تصنع غير الشقاق والخلاف. ومن ثم الهاء الجميع في صراع ثانوي محكوم بهموم الحزبية الضيقة والمصالح الفردية. مما يجعل الجميع بالضرورة ضعيفا من حيث إمكانياتهم الوطنية، ومنهكين في ثباتهم الاجتماعي، وناقصين في حسهم الوطني. وديمومتهم الوحيدة هي المؤقت والتأقلم. لكنها ديمومة لا تصنع ثباتا واستقرارا ديناميكيا للعراق. مما يحرفهم بالضرورة عن فكرة الدولة الشرعية والمجتمع المدني والثقافة العقلانية. مع ما يترتب عليه من استعداد دائم لاقتراف الرذيلة "السياسية" والتقلب فيها بمعايير ومقاييس العابر والمؤقت. أما النتيجة الحتمية لهذا السلوك فهو استعداد الأحزاب والنخب السياسية للخيانة الاجتماعية والسياسية. وهو أمر جلي عندما ننظر إلى ما تقوم به النخب السياسية التي "اشتركت" في "تاريخ مديد" ضد الصدامية.

لقد أفسدت السلطة النخب السياسية الحالية في العراق بسرعة قياسية. وفيه يمكن قياس طبيعة مكونها الفعلي: أزلام سلطة! انه وقت قياسي كشف عن أن النخب السائدة حاليا في العراق من طينة واحدة لا مكون فيها لفكرة الوطنية العامة والدولة الشرعية الموحدة. ويدلل هذا الواقع على أنها لم تتعظ من تاريخ المأساة العراقية، وأنها مازالت تعيش في زمن الانحطاط.

فعندما نتأمل ظروف وحالة العراق بعد سقوط الصدامية، فان كل ما فيه يبدو مأساة بمعايير السياسة والاقتصاد والثقافة والأخلاق والدولة. ويمكن النظر إلى هذه المأساة على أنها الوجه الآخر لزمن الخراب السابق. غير انه لا ينبغي تحميل الماضي جريرة كل ما يجري الآن، انطلاقا من أن لكل مرحلة مصاعبها ومصائبها، ومن ثم لكل مرحلة رجالها. وبالتالي، لكل مرحلة مهماتها كما أن لكل رجال مسئولياتهم. في حين نقف الآن أمام حالة معبرة عن قدر مزري للنخب السياسية في العراق وعجز تاريخي يلازمها عن تنشيط السياسة بالشكل الذي يجعلها قوة اجتماعية واقتصادية وثقافية قادرة على تذليل حالة البؤس الشامل فيه.

بل يمكننا القول، بان ظروف العراق الحالية بعد سقوط الصدامية تكشف عن إمكانية السير في نفس طريق الابتذال الذي ميز زمنه في مجرى النصف الثاني من القرن العشرين. إذ كشف هذا الزمن عن استمرار حالة الابتذال لفكرة الوطنية والحق والعدالة والنزاهة الاجتماعية وأولية المصالح العامة. بل إننا نرى استفحال متوسع لهذا الانتهاك على خلفية الشعارات والإعلانات والدعاوى التي رافقت تاريخ الأحزاب السياسية التي صعدت إلى سدة الحكم بقوة الغزو الأجنبي والاحتلال. وتمثل هذه النتيجة الوجه الآخر لحالة الانحطاط الشامل في العراق، التي جعلت من الاحتلال أسلوبا لبلوغ وتحقيق الديمقراطية!

بعبارة أخرى، إننا نقف أمام حالة من الانحطاط جعلت وما تزال تجعل من المغامرة أسلوب التفكير والممارسة السياسية. ذلك يعني أن النتيجة سوف لن تكون شيئا غير الاستمرار في زمن الخراب والانحطاط. فمن الناحية المجردة، يمكننا القول، بان إدراك حقيقة التاريخ الكلي للعراق الحديث والنتائج التي أدت إليها التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية، كان ينبغي لها أن تصنع في وعي النخب السياسية القدر الضروري، أو الحد الأدنى من تأمل ما يمكن أن تؤدي إليه مغامرة الخروج عن فكرة الدولة الشرعية والوطنية والنظام الديمقراطي والثقافة الحرة. إلا أننا نقف أمام جهل أو تجاهل لتاريخه الحديث.

فقد صدمت التجربة الصدامية كل ما في العراق بصدمة جعلته عرضة للتهشم والاندثار السريع كما لو انه كيان هش. مع أن العراق اعرق حتى من كل ما فيه! وتعكس هذه المفارقة مستوى الخراب والانحطاط الملازم لتقاليد الراديكالية الضيقة كما مثلتها الصدامية بصورة نموذجية! وهي نموذجية قادرة في الواقع على تعليم كل "حيوان عاقل"، بان الخروج عن "الصراط المستقيم" في بناء الدولة لا مخرج له إلا الانزلاق في هاوية الانحطاط والموت. ويرتقي هذا الحكم إلى ما يمكن دعوته بالبديهية السياسية. غير أن أحداث العراق زمن الاحتلال وبعده (حتى الآن) تبرهن على أن البديهية السياسية ليست مفهومة أو معقولة أو سهله بالطريقة التي تبدو في ميدان الرؤية المنطقية والرياضية. والسر غاية في الجلاء! وهو أن تاريخ الانحطاط لا يشبه زمن السلطة! فزمن السلطة عرضة للتغير والتبدل والاندثار السريع، بينما "مآثر" الانحطاط أكثر رسوخا وتغلغلا في بنية الوعي والعلاقات الاجتماعية والسياسية. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن اغلب القوى السياسية الحالية السائدة في العراق ونخبها الخاصة هي من صنف أزلام السلطة وليس رجال الدولة، من هنا تتضح الأبعاد المركبة لآلية الانحطاط فيها. وتعيد هذه الحالة إنتاج المأساة العراقية ومفارقاتها المذهلة للعقل والضمير! إذ أننا نقف أمام نخب سياسية هي الوريث غير الشرعي أيضا لزمن الانحطاط! وفي هذا تكمن مفارقة وجودها التاريخي على هرم السلطة!

***

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2157 الاربعاء 20/ 06 / 2012)

في المثقف اليوم