قضايا وآراء

قراءة في أقدم ملحمة عراقية / زهير صاحب

ومرد ذلك يكمن فيما يراه الفكر المعاصر فيها من سمات شكلية تتفق مع العديد من الأساليب الفنية السائدة في عوالم اليوم. فليس من باب المصادفة، أن تلاقي منحوتات ورسوم دور حَلف، لدى الفكر المعاصر، فهما جمالياً في المقام الأول .

 

وإن مراجعة من هذا (النوع) وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، للإبداعات الفنية من هذه الفترة، بوصفها دلالات هامة في بنية الفكر الحضاري بشكل عام، وإبداعات فنية بصدد التكوين الشكلي للعمل الفني فذلك يَدعونا إلى تجاوزها، بأنتقال الفكر إلى (ما وراء) ما هي كائنة عليه في واقعها المباشر، من حيث هي معطيات، بحثاً عن تعبيرها الذي يتجاوز القيم الجمالية للأشكال بعمقهِ وإمتدادهِ، لتقدم رؤاها المُتسعة بذلك الفيض من حرية التعبير، مما جعلها موضوع جدل وتأمل وفاعلية إدهاش .

 

وهنا يمكننا القول، إن مدلولات هذه الإبداعات التشكيلية، وكما هي فاعلة في بنية الفكر الحضاري بشكل هام، وتركيباتها الشكلية بوصفها إبداعات جمالية . فأنها تقدم مقولتها وتدلّل بعدم وجود الخط الفاصل ما بين خاصيات المنفعة المطلقة أو الجمالية المطلقة، فلا وجود لذلك إلا في مخيلتنا . فالإبداعات التشكيلية من دور حَلف، هي مزيج متناسق ومتضايف من خاصيات فنية ونفعية في نفس الآن، ولكن بدرجات متفاوتة . فلا يمكن تصور أي شيء لا يضم عناصر النفع والفن معاً . ذلك أن بنية الفكر الحضاري لهذه الفترة، لم تفصل الحس الجمالي عن الصنعة أو الخبرة بشكل عام . فلقد كان الإبداع الفني في صميم إهتمامات الحياة، بوصفه نشاطاً فكرياً وروحياً وجمالياً إمتلك ظاهرة قدسية .

 

مثلت أقدم (ملحمة) عراقية على إناء فخاري كبير الحجم أشبه بالطبق، ذو قاعدة دائرية الشكل قطرها 50 سم، وجوانبه مستقيمة أرتفاعها 15 سم . وقد اكتشف في أحد القبور في مستوطن الأربجية قرب الموصل . وهو بهذا مرتبط (كوجود) بالطقوس والشعائر الدينية التي عاشتها الجماعة، ويُبلغ في بنيتهِ الفكرية، عن دلالات كانت بمثابة وسائل إتصال بين الأفراد، بوساطة ضرب من التناغم، وقد وجد صداه بشكل تمثلات ذهنية ثابتة ومتشابهة . فُعِّلَ فيها ما هو (حياتي) بشكل حيوي، بفعل تمرحله نحو ما هو (ما ورائي) في عوالم ما بعد الموت . فهو (الخاص) الذي يُدلّل على مغزى عام، والى دلالة فكرية كلية تقف خلفه . فقد تمَ إبداع مثل هذه الأفكار، بصياغة أدبية وأسلوب سردي، ينتمي (للصورة) التي فهمها بها الوعي الأجتماعي، وأخضعها لسيطرتهِ الفكرية المنظمة والواعية .

 

وإن الإلمام بتفاصيل هذا المشهد الخالد الذي يزين سطوح هذا الإناء (البانورامي) لن يتم بوصفه وحدة منعزلة، بل هو في سياق المحصلة الثقافية لدور حَلف الحضاري ككل، وكحلقة في سلسلة التطور الحضاري لعصر قبل الكتابة على أرض الرافدين . فقد جسّدَ الفنان عِبرَ مادتهِ الطبيعية وبوساطتها فعل فكرتهِ وإرادته، أي مخططهُ الذي إرتسم قبل ذلك في وعيهِ . ذلك إن نظام الإنشاء التصويري في آليات سرد الحدث، وفهم العقد المهيمنة في تحرير النص، وسيناريو توالي الأحداث . أنتظمت كتكوين لما من شأنه ضبط إدراك المشاهد وتوجيه إنتباههِ، فظهر التكوين في كُل موحد، وقد إنصهرت أجزاءه في كل واحد، جاعلة منه جسداً منتظماً، ومجموعة من نظم علائقية داخلية، تخضع لقوانينها الخاصة وتكفي نفسها بنفسها .

 

فعلى سطح قاعدة الإناء، يظهر ما يشبه شكل المذبح Altar وهو شكل ذو خاصية قدسية أعِدَّ لتقديم القرابين في المزارات الدينية وبفعل أهميتهِ الدينية، فقد أحتل مركز المساحة المهيمنة على مركز السطح التصويري، وكأن كل الأحداث تبدأ منه وتنتهي إليه . وهو في نظامهِ الهندسي التجريدي، تعبير عن (جدل) العلاقة بين الظاهرة الطبيعية بخصائصها المعروفة، وعالم الموجودات الروحية، وبتفاعل فكري حيوي، بين (الشيء) وجوهره، والشكل ومضمونهِ .

 

ويؤطر شكل المذبح وعلى السطح الداخلي لجوانب الإناء، مجموعة من الرموز الدينية . إذ قسم السطح التصويري والذي هو بمثابة إفريز، إلى عدد من المستطيلات الصغيرة، يتناوب في الظهور عليها، سلسلة من الرموز القدسية . والتي تبدأ بشكل رأس الثور Bukranum وشكل ما يعرف بالصليب المالطي  Maltes Cross . في حين مُثِلَ في أحد المقاطع مشهد أثنين من الرجال، يؤديان فعالية شعائرية، تتمثل بخلط مزيج من سائل مقدس، داخل إناء فخاري هائل الحجم ولعل هذه المنظومة الرمزية، قد إحتفظت في زمانها ومكانها بقيم دينية ودلالات تعبيرية ذات مفاهيم إجتماعية . لم يهتم الفكر الديني بمظاهرها الطبيعية كمفردات من العوالم المرئية، بل (يُنقّب) فيها عن أفكار كامنة خلف المظاهر . ذلك أن فناني دور حَلف، لم ينسخوا الموضوع كما هو في الواقع، بل يؤولونه نحو الجوهر، فالحقيقة لم تكن في حواسهم، بل في حدوسهم الفكرية . ومن هنا تفرض مادة الموضوع (النص) تقصياً للجواهر الفكرية، وفي الوقت ذاته، تثير الأهتمام بتفعيّل (التقنية) وسمات الأشكال التعبيرية .

 

وتصل آليات السرد إلى الذروة، حيث يظهر على السطح الخارجي لجوانب الإناء، ما يمثل مشهد صراع ملحمي بين رجل وحيوان مفترس . في حين تشارك إثنان من النسوة بدور خاص في هذه الدراما . ويظهر في التكوين العام لهذا المشهد، تنسيقاً لبنية الزمن في ترابط الأحداث والعقد الفكرية، وذلك يرتبط بآليات فهم الأفكار وتحليلها قبلياً، ومن ثم تفسيرها وتركيبها في مشهد متكامل . فقد إنتقى الفنان من الموضوع (الحدث)، منظومة من العلاقات، محاولاً أبرازها في بنية ملحمية . ذلك أن المشهد هنا، يعرض حدثاً كونياً، والشخصيات هنا تؤدي أدواراً درامية، إنها بمثابة (رموز) مثقلة بإشكالات فكرية، كونها جزءاً فاعلاً في الشعائر الطقوسية الناشطة في الوعي الأجتماعي .

 

فعلى يمين المشهد، تقف إثنان من النسوة بوضعية راقصة، وهما يلوحان بقطعة ملونة من القماش، تتميز بصف من الزوائد في أسفلها . وهذه الإثارة العاطفية، أُريد بها أن تشّد من عزيمة البطل وفعله البطولي، وهو يواجه حيوان مفترس إندفع بقوة هجومية هائلة . وفي مثل هذا المناخ (الدرامي) الذي يؤطّر جو الحدث، تعلو الصيحات لتكون إشارة إنتصار. حيث تحوَّل (السرد) إلى علامات إصطلاحية مختزلة مما علق بها من تفاصيل، إنه التحول بالموضوع من حيز الجزئيات إلى دائرة الكليات، ومن الفردية إلى الأعمام .

 

ويبدو من تفحّص البنية التشريحية وسمتها المميزة فسلجياً، والأداء الحركي للحيوان (موضوع) القتل، أنه يشبه شكل الأسد . فمنذ هذه الفترة القبل كتابية والموغلة في قدمها، نشأت معادلة الحياة الأزلية في الفكر الرافديني، والتي إستمرت على طول التاريخ، وتقضي بأن ينبري أحد الأبطال لإبادة هذه القوة الفتاكة التي تعبث في ثروات الإنسان وممتلكاتهِ . وفي ذلك تأكيد لحقيقة تواصل الحضارة على أرض الرافدين ونقائها وأصالتها، في نقلتها النوعية نحو العصور التاريخية . ذلك أن جميع ما يتصل بالنسيج الفكري للأعمال الفنية من تقاليد وأعراف، ما أن تستقر وتختبر وتصل من جيل إلى آخر، حتى تصبح لها طبيعة مترسخة إجتماعياً، ويبقى الناس متشبثين بها، ويغلبهم إزاءها التوقير والأحترام، بفعل إرتباطها بسلسلة متصلة من الأفكار والقيم الأجتماعية .

 

ويُعلن المشهد في بنيتهِ العميقة عن قوتين، هما قوة (الوجود) المتمثلة بالبطل، وقوة الفناء ورمزها الأسد . والتعبير هنا في كليتهِ، هو بمثابة كشف لقانون الحياة برمتهِ، تبثّهُ أشكال فنية ذوات مدلولات رمزية، وقد كانت بمثابة لغة متداولة، مكنّت الفكر الإنساني، أن يوثق ما لديه من خبرات وأحاسيس . فقد أُوّلت الأشكال من مدلولاتها الطبيعية المألوفة، كي تصبح حرة من صيرورتها الطبيعية، لتؤدي فعلها في نسق (التصوير) بدلالات مضافة، للتعبير عن معتقدات الإنسان ومخاوفهِ .

 

حيث يعبّر الوضع الحركي للأمرأتين في المشهد،إلى إنهما تؤديان رقصة طقوسية خاصة . ذلك أن نوع الإيماءات هنا يشير إلى نوع ٍمن الذاتية في التعبير، إزاء مؤثرات لحظة محددة . حيث أستطاع الفنان بفعله الإبداعي، أن يجعل من الظاهر تعبيراً عن الباطن في مدلول فعل الحركة، فالتعبير هنا مجموعة من التأثيرات الأنفعالية التي تضفي على المضمون الجمالي دلالة وجدانية خاصة تتجسد في معاناة الروح . وهما في ذلك يرتبطان بسماتهما الشكلية المميزة، مع أشكال النسوة الراقصات في فخاريات سامراء .

 

وإذا كان (الفنان) في تأويله الواعي لنظام الأشكال، في تفعيّل قوانين الحذف والتبسيط والاختزال . فأن في ذلك نوع من البحث عن الجوهري من خلال الكلي . وكلها تمظهرات فنية تستند إلى عالم الوعي الفكري للجماعة، والذي يُقرر ما وراء هذه التمثلات من صفات روحية تكمن في (قاع) المظاهر . فشكل (البطل) بدلالتهِ الرمزية (كلكامش الأقدم)، يُفصح انه الحاوي على قوة التذكير وربما (الموحد) للجهود البشرية وزعيم الجماعة . وذلك يبرز في قيم الشكل بتمثيل الدائم والعام، والخاضع لقوانين ثابتة، وهو (النظام) الذي لا ينفي ضرورة تفريد العام، ليعبّر عن المفهوم السامي، ويرتفع (بالمادي) إلى حيز مثالي رفيع، بقوة معتقد وقوة نهوض إجتماعي . وبخصوصيتهِ التي تبغي إختزال ما في الواقع إلى رمزه الروحي، بوساطة الجمع بين الصورة الفردية الطبيعية والمنهج الرمزي .

 

إن ملحمة دور حَلف ـ  مجال التحليل ـ هي بمثابة نوع من الأستعاضات الرمزية، وجدت ديمومتها وفاعليتها، في طقوس دورية قائمة على الأعراف الأجتماعية . حيث يَنبري (البطل) كرمز إجتماعي، للدفاع عن الحياة والتجدد والبقاء ضد قوى الموت والفناء . وبغية تفعيّل أسطورية النص، ينساب شريط الأشكال القدسية، فرأس الثور رمز هائل الحيوية في خصوصية الفكر الحَلفي، ويرتبط بمفاهيم الخصب والتكاثر والفحولة والقوة وثورة التناسل . والذي يتضايف مع شكل المربع المالطي، وهو رمز فاعل لهذه المدلولات مجتمعةً . وهي تقابلات (رمزية) تضم معادلة بنية الفهم والتفكير . وحضورها إرتقى بالحدث من طبيعيتهِ نحو بنائه الملحمي الروحي .

 

فمن الصعب حساب الزمن في مثل هذا النص الملحمي، فهو لا يُعلن عن ذاتهِ، إلا في ضوء النتائج والأفعال . فإذا كان الزمن عنصراً مهماً في السرد القصصي، فإن أثر الفعل أهم من ديمومتهِ في السرد الملحمي. وفي أنظمة الصور، نلحظ أيضاً (تَغييب) مقصود للمكان، إنه يبدأ وينتهي في نقطة لا يمكن تحديدها إلا في مخيلة المتلقي . وطالما أن المتلقي هو الفكر الإنساني في كونيتهِ غير المحددة، تبقى الإشكالية هي إشكالية إبداع في بنية مثل هذه النصوص الملحمية . والتي يتحول فيها المُعاش إلى (سرد)، وهكذا فان ما حدث بالأمس كحقيقة، يمكن أن يتحول الآن إلى ملحمة .

 

وهذا (السحر) الكائن في جذور الفكر الإنساني على أرض الرافدين، والذي يوحي بذات الوقت، بإحساس بالعجز ووعي بالقوة، خوفاً من أحداث (الوجود) . هو الجوهر الأصيل لهذا العمل الإبداعي الخالد .

 

وأخيراً فان من الطريف ذكره بصدد (أصل) فخار حَلف، أن بعض الباحثين ذهب، وقبل أن يُثبّت تاريخ فخاريات حَلف على أرض الرافدين، إلى أنه من أصل إغريقي . ويهمنا هنا جداً إعادة مقولة العلامة طه باقر : " ومع أن هذا الرأي أصبح باطلاً الآن، بعد أن تم اكتشاف حضارة دور حَلف في شمال العراق، وتأكيد تأريخها بأواخر الألف السادس وأوائل الألف الخامس ق . م . بيد أن شبه مفردات حضارة دور حَلف، وعلى الأخص في الفخاريات واستخدام أبنية الثولوس Tholos، وشيوع رموز الحمامة والفأس المزدوج ورأس الثور . لها ما يشابهها في بلاد مسينية Mycenae وفي جزيرتي قبرص وكريت والتي ترجع إلى تاريخ متأخر ربما يكون في حدود منتصف الألف الثالث قبل الميلاد أو بعد ذلك " .

 

ونظراً لغزارة انتشار حضارة دور حَلف في شمال أرض الرافدين، وتكامل ونضج بنيتها الحضارية في هذه المنطقة وفي زمن يسبق مشابهاتها (المسينية) بأكثر من ألفي سنة. فان بوسعنا، أن نقلب ذلك الرأي القديم، عن أصل حضارة دور حَلف، وإرجاع تلك التأثيرات الحضارية إلى فعل أرض الرافدين الحضاري وإنتشارها في ذلك الزمن إلى تلك المنطقة . وهذا هو ديدن الدور الإنساني لحضارة أرض الرافدين العظيمة، والتي أنارت بنورها الوهاج بقاع شتى من العالم، بدافع إنساني دون مقابل .

 

أ. د. زهير صاحب

كلية الفنون الجميلة – بغداد

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2157 الاربعاء 20/ 06 / 2012)


في المثقف اليوم