قضايا وآراء

العباقرة بين تقييمهم وأخطائهم (2): الأخطاء / كريم مرزة الاسدي

وأزيد عليك ضعف العينين حتى العجز رسمياً، وفي غربتي لا معين إلا الله، وأحمده كثيراً على منحي الإصرار والتحدي لمواصلة المشوار خدمة ً للصالح العام بما هو مستطاع وهام، يذكرني بعض الأخوة مشكورين جداً على وقوع أخطاء مطبعية نادرة هنا وهناك، وهذا ما استفيد منه عند طبع مؤلفاتي، ولو أنني أراجع ما كتبت مراراً وتكراراً، ولا تفوتني فائتة، ولكن الإنسان مهما يكن مغلوباً على أمره، وهذه سنـّة الله في خلقه،لأن الكمال لله وحده، والإنسان ليس حاله على حال، وشتان بين واقع العالم وخيال الشاعر !!  والحقيقة كبار عباقرة الدنيا يقعون في أخطاءٍ عابرة أو جسيمة في أحيان نادرة، وهذه صفة مستديمة، وخصوصاّ عند عباقرة الشعر والفن والكتابة إذ يرتكبون أخطاء إملائية أو عروضية أو نحوية أو لغوية أبان شورد ذهنهم وسراح خيالهم، وقد يحسون بها فيتراجعون، وقد يحسون ولا يتراجعون . إذ يتركون الأمر لفطنة القارئ اللبيب أو لعقول التجريب، ومن يعرف أسرارهم يصحح مبتمسماً ويعبر وعليك أن تفرق بين العلماء، وعلمهم تراكمي تمشي أواخرهم على هام الأوالي، وعادة العلماء يتمتعون بالدقة والتحري والتواضع وهدوء البال، ولكن إذا حدثت طفرة عير محسوبة في العلم تقلب الطاولة على رؤوسهم، ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ، ولكن يبقون مبجلين خالدين في بطون الكتب، لأن من يأتي بعدهم سيتلافى ما وقعوا فيه، يعيد التجربة أو حل المشكلة بإتقان، وحظه مرهون بتقلبات الزمان أو السير بأمان !!

 أمّا الشعراء والفنانون تبقى أعمالهم خالدة، ولا تمشى أواخراهم على هام الأوالي وهولاء أزهى بني البشر - على حد تعبير غوته - تدخل في عقولهم شياطين عبقر فيهيمون، فلا راحة بال حتى وضع الفريدة المحال، لذلك بقى شكسبير ومالتون وغوته وشِلر وطاغور والشيرازيان والمعري والمتنبي والجواهري وشوقي وفولتير ودافنشي وغيرهم، وإذا أفتخروا بنتاجهم . وزهوا بأنفسهم ما عليك إلا الأستحسان بهم، والتصفيق لهم  وأهل الغرب المتطلعين أدركوا هذا الزلل قبلنا، وعذروا بل أثنوا وذكـّروا وعبروا راكعين ! ففي يوم 28 مارس 1827م كتب غوته إلى صديقه الحميم، وتلميذه النجيب (أكرمان) يقول فيها " إذا اكتشف رجل من جيلنا خطأ وقع فيه أحد عظماء الرجال في العصور السابقة، فإن من العدل والإنصاف ألا يتكلم عن ذلك الخطأ إلا وهو راكع على ركبتيه " (1) و بدون أن أرتكز على رسالة العبقري (غوته) ونصيحته لتلميذه، أدركُ هذا الأمر، وهذا ديدني ومنهجي مع كل من كتبت عنهم وهم بالعشرات، وعندما أنقد نتاجهم أسبقه بأفضالهم ومحاسنهم، وأبرر لهم الخطأ من باب السهو أو النسيان، أو أن زمنهم غير زمننا، لأنه لا يُعقل أن يستهين الإنسان بجهود وأتعاب رجل اجتهد ولم يصب أو زلَّ بهفوة عابرة، وأن تحاسب جبلاً شامخاً على حبة رمل شهواء، ومعظم الأمور نسبية، ينسب للإمام الصادق (ع) (ت 148هـ /765م) : " التعصب حتى للحق خطيئة "، أما الإمام الشافعي (ت 204 هـ /819 م) فقوله مشهور : " رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب " ويعتبر فولتير الفرنشي (ت 1778م) رائد التسامح في عصره وبعبر عن ذلك بجملته الشهيرة : " قد لا أتفق معك، ولكني سوف أدفع دمي ثمناً لحقك في الكلام " لذلك التسامح والتفهم مطلوبان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم .

ابتعدنا إلى التسامح في الرأي، وهو أبعد مدى بكثير عن الأخطاء العابرة، والهفوات البسيطة، مررت بك بالصعب العسير لتقبل بالسهل اليسير، سأسير معك إلى الأساتذة الكبار وعباقرة العرب والغرب العظام لتزداد يقيناً، وتقـتنع أكيداً، هكذا جبلت النفس البشرية على أن قول العظيم عظيم، وكلام الشهير منير، يقول الأستاذ المازني في (حصاد هشيمه) :" ولست بواجدٍ في عظماء الأدب وفحولهم تلك العناية التي يتحراها العلماء لاجتناب الأخطاء وتصفية الألفاظ " (2).

 الأخطاء في عيوب الشعر وقع فيه الشعراء منذ العصر الجاهلي، ولم يصححها أصحابها رغم تنبيههم عليها، تجاوزوا الأمر رغم السهو أو التعمد أحيانا، وسنأتي على التعمد في موضوع القافية، فمثلاً النابغة أرتكب عيب (الأقواء) سهواً، وهو المخالفة في حركات الروي، كأن تكون حركات الروي مجرورة ومرفوعة في القصيدة أو المقطوعة الواحدة، إقرأ :

أمن آل مية رائـــــحٌ أو مغتدِ    عجلان ذا زادٍ وغيــر مزودِ

رغمِ البوارحَ أنّ رحلتنا غداً    وبذاكَ خبّرنا الغرابُ الأسودُ

وصاحبنا صححها من بعد بقوله " وبذاك تنعاب الغرابِ الأسودِ " (3)

 ويروي أبو علي القالي في (أماليه) : صعد ثابت بن قطنة المعروف يالجرأة والشجاعة منبر سجستان، فقال الحمد لله ثم أرتج عليه، فنزل وهو يقول :

فإنْ لم أكن فيهم خطيباً فإنني    بسيفي إذا جدَّ الوغى لخطيبُ

فقيل له: لو قلتها فوق المنبر لكنت أخطب الناس.

 " وكان بشاريضيق بمن يفهمون الشعرحرفياً ’لأنه يحشر شعره إذا أعوزته القافية والمعنى بأشياءٍ لا حقيقة لها، ومثال على ذلك (بأبي محاز وابن قنان) في شعره وهذا خطأ " (4)، كتبنا من قبل عن الجواهري بمخالفة قواعد النحو واللغة، ولا نكرر(5)، وقديماً كتب (الصاحب بن عباد) رسالة (الكشف عن مساوئ المتنبي)، والسبب أنّ المتنبي أبى أن يمدحه بقصيدة، واستصغر شأنه، ثم جاء(علي بن عبد العزيز الجرجاني) وألـّف (الوساطة بين المتنبي وخصومه)، ويذكر الأستاذ جعفر الخليلي في كتابه (هكذا عرفتهم) "يقع علي الشرقي في بعض الأحيان في السهو من حيث اللغة والصرف والنحو والأملاء، فأشير له بذلك وعلى رغم إشارتي لذلك السهو ليست بذات أهمية، كان الشرقي يبالغ بأهميتها " (6)، ولا تتخيل أن هؤلاء العباقرة لا يعرفون ما يقعون به من السهو البسيط، ما لم تكن عدة أوجه للإعراب، يفهمها من يفهم، أو يرجعون لشذوذ لغوي، لا يمكن لغيرهم الأعتماد عليه، معتمدين على قوة عبقريتهم، وسعة شهرتهم، وكثرة مريدهم، الجواهري لا يبالي كثيرا لمنتقديه، فهو الجواهري، رضيت أم أبيت، ومثله المتنبي، أما الشرقي لمركزه السياسي والرسمي، هنالك من يرغب بترصد أخطائه، والإيقاع به، الخطأ يقع لشرود الذهن، ربما أبان إبداعه لا يدري بمن يجالسه فجأة . وعلى المستوى الغربي لاأطيل معك، فعبقري واحد كبير يغنيك، وأنا أكتب بتصرف كبير، وبإضافات وتغيير معتمداً على كتابي (للعبقرسة أسرارها ....).

 المهم أن مارسيل بروست (1871 - 1922م)، وكان روائياً ومترجماً واجتماعياً وناقداً، ومن أكبر عباقرة فرنسا، في روايته (البحث عن الزمن الضائع)، نشرت، فمثلا ( 1913 م، ثم 1927 م)، وقع في أخطاء عابرة، فمثلاً (أخت الجدة) في الرواية التي هي والدة (ليوفي) لم تعد تتميز عن (ليوني) (7)، وإحدى أخوات الجدة وتدعى (فلورا)، بدل اسمها فعلاً في مقطع واحد وأصبح (فكتورا) (8)، مع ذلك استهدفت هذه التغييرات أشخاصاً ثانويين أو أحداثاً محدودة جداً، وهي لم تشوه أبداً صفة الأشخاص والمعنى المعطى لحياتهم أو دورهم في مصير الرواية (9)

ومن الضروري بمكان أن نسلط الضوء على كلمة للأستاذ الكبير العقاد حول كتابة الشعراء والأدباء فيقول : " لقد وجدت فوارق البواكير والنهايات في أعمال كلّ شاعر وكاتب من الأقدمين والمحدثين إلا أن المؤلف قد تلازمه الفوارق الضرورية في القيقة الواحدة وفي موصع بعد موضعمن العمل الواحد، تلك هي الفوارق بين حالات الإجادة والإلهام وحالات الإهمال والركود، أو هي الفوارق بين المؤلف على أحسنه وأجوده، والمؤلف نفسه على أردأ حالاته وأبعدها عن الإجادة والإتقان " (10)، انتقلت بك من السهو والشرود في أخطاء بسيطة عابرة، يلقفها القارئ العادي وهي طائرة في سماء البساطة والإبتداء، من العيب الكلام بها والحديث عنها إلى الفوارق في المعاني والإجتهادات بتغيير اللحظات، وربما يقع العبقري في مساحة عدم وضوح الرؤية، وإن زعم كل الآفاق مكشوفة لدية، ولا يضع في ذهنه القفزات التطورية للزمن العجيب الذي يفلت من قمقمه ويقلب المقاييس، فهذا ابن النفيس (1210 - 1288م) كان يعتقد أنّ الزمن يسير على وتيرة واحدة، فيقول عن مؤلفاته " لو لم أكن واثقاً من أنّ كتبي ستعيش بعدي مدة عشرة آلاف سنة لما كتبتها " !! والطب الآن يتطور لحظة لحظة، وما تكا د دورته الدموية الضغرى تدرس لطلاب الثانوية وتنسب لوليم هارقي (ت 1657م)، وكذلك أنّ (مالتوس) (1766 - 1834م)هو عالم اقتصاد وقسيس انكليزي أثار ضجة كبيرة بمؤلفه (محاولة دراسة السكان)(1798م)، فقد وضح في هذا الكتاب أن عدد السكان يتزايد اسرع مما تتزايد الموارد الغذائية، إذ أن السكان يتزايدون وفق متوالية هندسية (ا،2،4، 8، 16 ...)، والموارد الغذائية تسير وفق متوالية عددية (ا، 2، 3،4،5،6 ...)، وبالتالي يجب تأخير سن الزواج، وتحديد النسل، وإلا تتدخل الطبيعة للموازنة فتحدث الزلازل والطواعين والحروب ...، وإذا بالثورة الصناعية تقلب المعادلة تماما، فأصبحت المواد الغذائية ترمى للبحار أو تحرق، وأصبحت الحيوانات التي يتغذى عليها الإنسان من بيض ومنتجات الحليب تغطي العالم، والمشكلة تعود لأنانية الإنسان وهيمنته على الإنسان الآخر، وتنطبق الآن على البلدان التي تستثمر مواردها بالطرق البدائية  فعلى القارئ اللبيب يجب أن يتأمل بتعمق وتعقل حين يقرأ للعباقرة، ويحسب الحساب بعد أخذ ورد لكلّ سؤال وجواب، وإلا يضيع جهده في السراب، ولا صواب إلا للمطلق في الصواب . شكراً لكم، إنّ الله يحب الشاكرين .  

 

........................

(1) (للعبقرية أسرارها....) : كريم مرزة الاسدي ص 137 مصدر سابق.

(2) حصاد الهشيم : إبراهيم عبد القادر المازني المقدمة دار المعارف بمصر بلا .

(3) (النقد) : الدكتور شوقي ضيف ص 19 - دار المعارف بمصر - الطبعة الثانية

(4) الأغاني : الأصفهاني ج3 ص 156 - 157 باب بشار بن برد

(5) راجع كتابي (نشأة النحو العربي ومسيرته الكوفية - مقارنة بين النحو الكوفي والنحو البصري) ص71،73 ...دار الحصاد 2003 دمشق، أو (الجواهري ديوان العصر) : حسن العلوي ص 271 سنة 1986 دمشق

 (6) هكذا عرفتهم : جعفر الخليلي ص 73 الجزء الثاني .

Leonie (7)  

 Victoire(8)

(9) بروست : مقال جيلبر سيفو س 49 ترجمة لطيفة ديب - دمشق.

(10)التعريف بشكسبير : عباس مخمود العقاد ص 100 - 191 مصدر سابق          

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2158 الخميس 21/ 06 / 2012)

في المثقف اليوم