قضايا وآراء

تأثيرات هندو– بوذية في الفلسفة الصوفية (4) / خالد جواد شبيل

ذلك أنها خضعت للزمان والمكان، ولعوامل موضوعية وأعتبارات ذاتية- فردية حسب طبيعة معتنقيها-، ولمؤثرات فلسفية أيضا،، فبالرغم من أن هناك مراحلَ تاريخية في تطورها، فإن هناك أيضا مباديء معينة، وقيما روحية شكلت ملامحَ أساسية للفلسفة الصوفية بشتى اتجاهاتها.

الصوفية والتصوف: نشأت الملامح الأولية للصوفية في البصرة لدى الفقيه الزاهد الحسن البصري (ت110ه)، ثم ظهرت بشكل أوضح مع رابعة العدوية البصرية(ت 135ه) التي عرفت بالزهادة والتقوى وبفكرة العشق الإلهي، فحُبها لله حبا خالصا مجردا لا طمعا بالجنة ولا خوفا من النار " ما عبدتك خوفا من نارك، ولا طمعا في جنتك، وإنما عبدتك لذاتك" (هذه هي الصوفية لعبد الرحمن الوكيل 150، والبحث415). وهذا أساس من أسس الصوفية سنلمسه لدى مجموعة من المتصوفة خاصة الشعراء كالحلاج وابن الفارض و فريد الدين عطار وتلميذه جلال الدين الرومي... فقد عرفت البصرة بالعبادة بل المبالغة بالعبادة والزهادة بما ليس له نظير في بقية المدن الإسلامية في حين عرفت نظيرتها الكوفة بالفقه " وقد روى أبو اشيخ الأصبهاني بإسناده عن محمد بن سيرين أنه بلغه أن قوما يفضلون لباس الصوف، فقال: إن قوما يتخيرون الصوف يقولون أنهم متشبهون بالمسيح بن مريم، وهدي نبينا أحب إلينا وكان النبي ص يلبس القطن وغيره أو كلاما نحوا من هذا" (ابن تيمية، الفتاوى 11ص6)، أقدم هذا المقتطف الى الدكتور الباحث عبد الله مصطفى نومسوك ليؤكد أصل التسمية وعلا قتها بلبس الصوف دلالة على الزهد وتميزا عن باقي الناس تماما كما فعل الرهبان البوذيون (بهيكشو) في تلفعهم بالخرقة البرتقالية، وقد أكد نسبة ذلك الدكتور الراحل مصطفى كامل الشيبي (لا الشبيبي كما ذكره الباحث في عدة مواضع) في كتابه القيم (الصلة بين التصوف والتشيع).

لا أود الإطالة في الإفتراضات الإخرى للتسمية والتي صرف الباحث فيها جهدا لعدم أهميتها، ولكنني أتوقف معه على أهل الصفّة، وهم نفر من الصحابة المعدمين كان الرسول الأكرم يعطف عليهم ويجالسهم ويدعوهم الى الطعام والشراب، كان منهم أبو هريرة المحدّث المعروف الذي ذكر أخبارهم، ويبدو أن التوافق اللفظي هو الذي استهوى الباحث وقد تحير في معنى الصفّة وهي في الحقيقة سقيفة من جذوع النخل على ثلاثة جدران بما يسمى في العراق الطارمة، كانت مأوى لهؤلاء الفقراء في ركن من مسجد الرسول (راجع مدارات هادي العلوي الصوفية). ليست حياتهم زهدا إذن وإنما فقرا مدقعا، وحتى لو كانت زهدا فليس بالزهد وحده يصبح المرء صوفيا وإلا لاعتبرنا إمام المتقين علي بن أبي طالب رائد الصوفية. فالزهد من شروط الصوفية وغالبا ما كان سببه الفقر، ولعل في القول المشهور للجنيد (ت 297ه) ما يؤيد مذهبنا :" ما أخذنا التصوف عن القيل والقال لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات" (الفهرست 264 لابن النديم، طبقات الصوفية 10/255 للسلمي، عن كتاب الباحث ف2 ص377). يشذ عن ذلك بعض الأغنياء الذين انخرطوا بسلك الصوفية مثل إبراهيم بن أدهم وسنقارن قصته مع قصة بوذا لاحقا.

الزهد لدى الصوفية ليس مجرد فقر فحسب بل له أساسه الفلسفي، ذلك أن الله أحب الفقراء ورفع عنهم فريضتين هما الحج، والزكاة في العبادة، والبعد الأهم أن المتصوف لا يملِك لكي لا يُملَك، حتى لا ينشغل بلذات الدنيا الزائلة، لا بل لا يتزوج لكي لا ينشغل بالزوجة والأولاد، بل عليه التفرغ للرياضة الروحية، وهذه هي مباديء بوذا مع أختلاف الغاية، فالراهب البوذي لا يتمتع بأي متعة من متع الحياة وينقطع عن اللذات كلها لأن اللذه هي سبب تعاسة الإنسان، والطعام الذي يطلبه هو لبقائه على قيد الحياة، بل أن الرعيل الأول من الرهبان البوذيين كان يصب الماء على الطعام لكي لايشعر باللذة، والطعام يمتنع الراهب عن تناوله بعد الظهر حتى طلوع الشمس في اليوم الثاني، يسمح بتناول الموائع من ماء أو عصير أو أية مادة لا تقضم بالأسنان! بل حتى الجلوس لاينبغي على فراش وثير بل على بساط لا يتعدى سمكه سنتمترا واحدا ويستمر طيلة ساعات من التأمل! مبدا اللذه أو الشهوة ينقسم عند بوذا الى ثلاثة: شهوة تحقيق الرغبات الجنسية، شهوة الرغبة في الخلود (التشبث بالحياة)، ورغبة الشهوة بالثراء والمال والجاه، وكلها زائلة. واعتبر أن اللذة رديف للشهوة ورديف للحب ورديف للالم، وأكد أنها كلها شر، وقد ركزها بوذا بمبدأ هام جدا في البوذيه هو مبدأ الحقائق الأربعة:1- الإقرار بوجود الألم 2- أن كل شيء له سبب، أي للالم سبب هو الشهوة بعناصرها الثلاثة.3-إمكان إعدام الألم .4-الوسيلة لإعدام الألم عن طريق الشُعب الثماني(أنظر القسم الثاني). وعندما سأل أحدُ تلاميذه ساري بوترا استاذَه بوذا، كيف يكون الحب هو الالم؟ أجاب بوذا: بالأمس وجدتك حزينا لأن جارك مات لماذا حزنت؟ أجاب ساري بوترا: لأنني أحبه!! (من كتاب تراي بيتكا، عن بحث الدكتور نومسوك ص116 وما بعدها)... نرى ومضات من هذا المباديء مثيلا لها لدى الصوفية سنشير إليها في سياقها.

روي أن أول رجل لقِّب بالصوفي هو أبو هاشم الكوفي (ت150ه) وأنه أول من بنى خانقاه (بيت للصوفية) في الرملة من بلاد الشام (أنظر: الصلة بين التصوف والتشيع ص269 للدكتور كامل مصطفى الشيبي).، ثم تلته جمهرة من أقطاب الصوفية أهمهم وأشهرهم إبراهيم بن أدهم الصوفي (ت160ه)، ومعروف الكرخي(ت200) الذي نقل التصوف من الزهادة والعبادة الى تعريف جديد:" الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق"(الرسالة القشيرية 2/552) والنقلة هنا هي الحقيقة أي معرفة الله والإتحاد به، والياس مما في يد الخلائق هو هجر الحياة ولذائذها، وهذا إقتراب من الفهم البوذي الذي مرّ بنا آنفا... والتي تفتح الباب الى فكرة جديدة تتعدى الزهد والرياضة والمجاهدة الى غاية اسمى هي: "فناء الإنسان عن نفسه واتحاده بربه وحصوله على المعرفة العليا التي تتجلى فيها الحقائق عن طريق الكشف والشهود"(كتاب البحث387 عن التصوف الإسلامي وتاريخه ص70-74). لنأتِ على كشف مهم جدا لأقطاب الصوفية الآخرين وإضافاتهم على عُجالة: أبو سلمان الداراني ت215ه – التقشف، بشر الحافي ت277ه-المجاهدة، أبو بكر الشبلي الخراساني ت234ه- الإشارات، أبو تراب ت 245- السياحة، الحارث المحاسبي ت243- صاحب أول مؤلَف في الصوفية "أصول التصوف" السرِي السقطي الفارسي ت257ه- أول من تكلم في بغداد وفق الهجويري، أبو يزيد البسطامي ت261- أدخل في التصوف فكرة الفناء وسبق ابن عربي في وحدة الوجود، الجنيد ت297ه – لقب سيد الطائفة، الحلاج ت309ه- فكرة الحلول..والسؤال: هل من قبيل الصدفة أن يكون كل هؤلاء أعاجم من غير العرب؟ ولنتوقف مع قضية مهمة جدا تفتح الطريق للجواب.

بين بوذا وإبراهيم بن أدهم البلخي: كلاهما ابن ملك، وكل كان وحده ووصل الى حالة التخلي عن الإمارة، ألاول أدرك الإستنارة والثاني انخرط في الصوفية وأصبح أحد أقطابها المشهورين وفي القصة تشابه كبير..عندما بلغ بوذا التاسعة والعشرين، وبعد تاملات ومعاناة مريرة ملّ الحياة الرغيدة في القصر،التقى براهب متسول بهيكشو فأقتنع أكثر بحياة الزهادة، ورجع البيت فبُشر بمولود فقال"هذا قيد جديد لي" فأطلق على ابنه اسم "راهولا ومعناه القيد" فخرج مع رفيقه شانا وبعد مسافة ترجل وقص شعره واستبدل ثوبه الملكي بثوب أصفر وخلع عنه كل حلية وسلم شانا كل شيء وخرج لا يلوي على شيء( البحث 97)...أما إبراهيم بن أدهم البلخي ت161ه حيث جاء في الرسالة القشيرية: أن إبراهيم بن أدهم كان من أبناء الملوكن فخرج يوما للصيد فأثار ثعلبا أو أرنبا، فهتف به هاتف: ياإبراهيم ألهذا خلقت أم لهذا أمرت؟...فنزل عن دابته، وصادف راعيا لابيه، فأخذ جبة الراعي من صوف ولبسها، وأعطاه فرسه وما بعده ثم أنه دخل البادية..." ومن الملفت أن ابراهيم بن أدهم أيضا ترك ابنه الوليد، وهام على وجهه في البلاد ذات الطول والعرض لا يلوي على شيء!! لقد لفت هذا التشابه بين قصتي بوذا وإبراهيم بن أدهم كثيرا من الدارسين والمستشرقين مثل غولدزيهر الذي قال " أن قصته حيكت على مثال قصة بوذا" (العقيدة والشريعة161)، مما يشير بشكل أكيد على التأثير البوذي في الصوفية، وسنأتي على ذلك في لاحقا.

السمنية والوبوذية: جاء في بحث الدكتور نومسوك وفي ص396 تحت العنوان:البوذية مصدر من مصادر الصوفية، وهو أن السمنية التي جاء ذكرها في الفهرست (لابن النديم484) وكذلك تحقيق ما للهند (للبيروني15) هي البوذية!! )وهذا في الحقيقة خطأ فاضح، ليست البوذية هي السمنية أو الشامنية shamanism)، ، وهي عقيدة وهي عقيدة دينية بدائية قديمة جدا مختلطة بالسحر والقوى الخفية ترجع جذورها الى سيبريا وهي ديانة منتشرة حاليا ايضا في كوريا الجنوبية، تعتقد أن لكل شيء روحا، مثلما اعتقد إنسان العصر الحجىي أن للإنسان روحا لاتموت، هذه الديانة تاثرت بالكونفوشيوسية والبوذية لكنها منفصلة تماما عن الديانتين ولها أتباعها، ويسمى الكاهن في الشامانية"مودانغ" وهو يعد وسيطا بين عالم الأحياء والأرواح في عالم الأموات، وله قدرة في شفاء المرضى ونقل الخير الى أرواح الأموات...ومن يريد الإستزادة عن هذه العقيدة فليراجع:

www.thinkbox.maktooblog.com

www.koreabeast.com

www.wikepedia.org/wiki/shamanism

-للموضوع صلة- 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2159 الجمعة 22/ 06 / 2012)


في المثقف اليوم