قضايا وآراء

النخبة السياسية العراقية وضياع بوصلة النخبة (5-7) / ميثم الجنابي

عادة ما يرتبط زمن الانقلابات الحادة والتحولات العاصفة بالنخبة السياسية. وهو ارتباط له أسسه الموضوعية في طبيعة التلازم الضروري بين الدولة والسلطة من جهة، وبين الإرادة السياسية ونوعية الفكرة المتحكمة بها من جهة أخرى. ومن مفارقات هذا الارتباط في واقع العراق المعاصر هو أن النخب السياسية السائدة فيه الآن لم يكن صعودها إلى السلطة نتاجا لصراع سياسي وطني (داخلي)، كما أن رؤيتها السياسية ليست محكومة بفكرة الدولة. الأمر الذي جعل من فكرة الدولة والسلطة إشكالية عصية في إرادتها وفكرتها. من هنا تناقض السلطة والدولة في ممارساتها العملية في مجرى سنوات من "استلام" الحكم، بحيث تحولت الدولة إلى كائن هش هو اقرب ما يكون إلى بنية مزيفة منها إلى مؤسسة لها مقوماتها الذاتية. وهي ظاهرة تبرز بجلائها التام في نوعية وكمية الاحتراب والمعارك الجانبية والثانوية والتافهة لحد ما من اجل تشكيل "الحكومة" فيما مضى وسحب الثقة منها الآن!! إذ يكشف هذا الصراع عن نوعيتها السياسية الهشة، وضعفها الأخلاقي، وفقدانها شبه التام للفكرة الوطنية وقيمة الدولة. كما يكشف بدوره عن أن إشكالية العراق الكبرى لم تكن في "الاحتلال"، بل في النخبة السياسية التي احتلت غير مكانها الفعلي. إذ نقف أمام نخب سياسية لا تتعدى همومها في الواقع غير متطلبات الجسد المتهرئ ونزوات تناسبه! بمعنى خلوها من حقيقة الهموم الكبرى للدولة والمجتمع. مما يشير بدوره إلى أن مأساة العراق الحديثة والمعاصرة تكمن في نخبه السياسية الخربة، التي تمثلت من حيث الجوهر نفسية وذهنية الصدامية في الموقف من الدولة والمجتمع والمصلحة العامة.

ان استقراء تاريخ الخراب العراقي و"منظومة" الانحطاط الشامل فيه تبرهن على أن احد أسبابها الجوهرية يقوم في فساد النخبة السياسية. وإذا كان من الصعب حصر أشكال فسادها، فان مضمونها العام يصب في صنع آلية الزمن. بمعنى اجترار الزمن وتخريب تجارب الأجيال. وتشير هذه النتيجة إلى عدم إدراك حقيقة الدولة، باعتبارها منظومة المؤسسات الشرعية. وانعدام هذا الإدراك هو الذي يشكل السبب الجوهري في انحطاط النخبة السياسية. وفي هذا أيضا يكمن سر بقاء الواقع المتخلف في كافة نواحي الحياة مع التغير المستمر "للقيادات" و"الزعامات" و"الرؤساء". ومن ثم ليس بقاءها الدائم سوى الوجه الآخر لاستمرار زمن الاستبداد والمغامرات الصغيرة. وليست مظاهر الوفاق والاتفاق والائتلاف والاتحاد وغيرها التي جرى تشكيلها من اجل "تشكيل الحكومة" على مدار سنوات الاحتلال وما بعده والتفريط بها عبر مختلف المؤامرات الصغيرة سوى الصيغة النموذجية لهذه الحالة. وقد تكون المعركة الحالية من اجل "سحب الثقة" عن المالكي الصيغة النموذجية لسحب الثقة بالدولة والمستقبل. وذلك لان القضية من حيث الجوهر لا علاقة لها بالمالكي بقدر ما لها علاقة في الموقف من الدولة والمستقبل. فالصراع الحالي هو صراع من اجل السلطة وليس من اجل الدولة،كما انه وصراع محكوم بهموم شخصية ونفسية الماضي، وليس بهموم المجتمع والفكرة المستقبلية. لاسيما وان فكرة ومعنى "سحب الثقة" من شخص ما تفترض كحد أدنى أن يتمتع المرء والجهة بالثقة فمن جانب المجتمع تجاه مواقفه وغاياته. بينما لا يمكن العثور عليها في الشخصيات التي تطالب بها بتاتا.

إننا نقف هنا أمام نفسية وذهنية محكومة بهموم الجسد والمصالح الضيقة. كما تعكس هامشية النخب وفراغها الروحي والمعنوي والأخلاقي. من هنا تشابه سلوكها بما في ذلك في المظاهر. وهو أيضا مظهر من مظاهر انحطاطها المعنوي، وذلك لان حقيقة النخبة اختصاص وشخصية.

وعندما نأخذ بتحليل مقدمات ونتائج الحصيلة العامة تجاه ابسط مظاهر النخبة الأصيلة، والمقصود بذلك ظهورها الطبيعي من بين المجتمع وتمثل مصالحه والاقتراب من مشاكله ووضع كل ذلك في مشاريع تخدم فكرة الدولة ومنظومة الحياة الاجتماعية، فإننا نقف أمام حالة مزرية لعل أكثر ما فيها من إثارة هو ليس فقط انغلاقها واستعادة البنية التقليدية من عشائرية وعائلية وجهوية وعرقية وطائفية وما شابه ذلك، بل واختباؤها في "منطقة خضراء" هي عين "الحصن الصدامي" السابق!! بينما كان ينبغي "للانقلاب الديمقراطي" العاصف والتأييد الجماهيري الحاسم للقضاء على الدكتاتورية الصدامية لحاله فقط أن يكون ستارا فولاذيا للنخبة السياسية الجديدة. ومن ثم كان يفترض منها أن تكون محصنة به للخروج إلى "الشارع العراقي" من اجل مواجهة إشكالاته ومشاكله الفعلية. بينما لا يعني اختباءها في "المنطقة الخضراء" وعيشها المتنقل بين الأردن وبريطانيا وسويسرا وفرنسا واسبانيا سوى الاستعادة الفجة للصدامية واستمرار تقاليد الخوف الذاتي.

إن خوفها الظاهري هو النتاج الملازم لخوفها الباطني. ولا يعني ذلك بالنسبة للآفاق السياسية في العراق سوى فقدانها للجرأة على منازلة الصعوبات التي يواجهها العراق في كافة نواحي الحياة. وتشير هذه الحالة بدورها إلى أن أغلب النخب السياسية الحالية هي مجرد تركيبات هشة، أي مكونات لا هوية واضحة فيها ولا شخصية. وفي هذا يكمن سر المراوحة والانحطاط المتزايد في مختلف نواحي الحياة. بينما تبرهن التجارب التاريخية للأمم جميعا على أن رجل الدولة هو المنحدر من النخبة السياسية الرفيعة فقط، أي من يتمتع برؤية إستراتيجية في إرساء أو تطوير أسس الدولة والمجتمع والثقافة والعلم والتكنولوجيا.

ولعل أحداث ما قبل وبعد خروج قوات الاحتلال احد الأدلة النموذجية بهذا الصدد. والمقصود بذلك الإجماع على الفرقة في ظل أوضاع درامية وخطيرة بالنسبة لمصالح الدولة والمجتمع، أو ما ندعوه أيضا بمصيرهما التاريخي. وهو "إجماع" يعكس طبيعة النخبة السياسية الحالية بوصفها أزلام بمعايير الفكرة الدولتية، وأقزام بمعايير المصالح الوطنية العليا. إذ تفترض فكرة الدولة جوهرية الاتفاق وقت الشدائد حول مبادئ عليا ملزمة للجميع، بينما تفترض المصالح الوطنية العليا الاستعداد العقلاني للمساومة السياسية. بينما يدور الصراع المختبئ وراء كواليس المصالح الحزبية الضيقة حول "أفراد" وليس حول مبادئ. فالخلاف "الجوهري" بين القوى يدور حول شخصية رئيس الوزراء (سابقا الجعفري، والآن المالكي)!! الأمر الذي يشير إلى أن حقيقة وبواعث وغايات الصراع مرتبطة بمساعي القوى المتصارعة للحصول على "امتيازات" أو "مصالح" خاصة.

إن شكل ومضمون الصراع حول تشكيل الحكومة و"سحب الثقة" منها عبر ربطه بشخصية ما معينة هو بحد ذاته دليل قاطع على أن اغلب النخب السياسية الحالية لا تحترم الدستور ولا تعتبره شيئا، لان أي منها لا يعيش ولا يعمل حسب مواده. من هنا انهماك الجميع بالبحث عن "بدائل" سياسية حزبية. بحيث تحولت قواعد اللعبة الديمقراطية إلى قواعد اللعبة الحزبية، وتجري الاستعاضة عن فكرة "الاستحقاق الانتخابي" بفكرة "المشاركة". وهي أمور تكشف عن طبيعة التقاليد العريقة لنفسية المؤامرة والمغامرة المميزة للأحزاب والنخب السياسية في العراق بشكل عام وعند الأقليات بشكل خاص. 

وفي هذا الواقع الخرب تكمن أكثر مصادر الخلل الفعلي لمصير الدولة والمجتمع والتطور اللاحق. فالنخب السياسية "العراقية" في اغلبها هي سبب المشكلة وليس أداة حلها. وفي هذا تكمن خصوصية المأساة التاريخية المعاصرة للعراق في محاولاته المرهقة لتذليل مرحلة الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية.

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2159 الجمعة 22/ 06 / 2012)

في المثقف اليوم