قضايا وآراء

قراءة في مجموعة قصص: أجساد وقبرة / صبيحة شبر

 

ضمن سلسلة الإصدارات التي تولي اهتماما كبيرا بفن القصة القصيرة والقصيرة ج، في بلاد المغرب،صدرت مجموعة قصصية تتضمن النوعين من هذا الفن الجميل المثير للإعجاب والاندهاش معا، ففي مجموعة القاص الشاب (رشيد البوشاري) والصادرة عن الديوان للطباعة والنشر والتوزيع، والتي تحمل عنوانا يثير التأمل ويحمل الكثير من الدلالات (أجساد وقبرة)

المجموعة القصصية في اثنتين وخمسين صفحة من الحجم المتوسط تحتوي على ثماني عشرة قصة، سبع منها قصص قصيرة، والباقيات وهن إحدى عشرة من القصص القصيرة جدا، لان طولها يقل عن صفحة واحدة، كما يذكر نقاد فن القص، في محاولتهم التفريق بين النوعين من جنس الحكي

يطل الإهداء من صفحة البداية، ويليه تقديم جميل لقصص المجموعة كتبه القاص والروائي المغربي (جمال بوطيب)

نالت المجموعة حظها من العناية والدراسة، من قبل ورش الإبداع التي يقوم بها القاصون، لتشجيع كتابات المبدعين الشباب، ودراسة ما تقدمه الأقلام الموهوبة من قصص، تستحق العناية والاهتمام، سيما إن كانت محاولة جادة، للتعبير عن ألم الواقع المعيش، وتحليل السلبيات المحبطة وتقديمها للقراء بصورة فنية،تشجع فيهم الإقبال على محاربتها، والعمل من اجل تغيير الواقع، فالكلمة موقف، والقدرة على انتقاء المفردة، و المهارة في تكوين الجمل الموحية، والصياغة الفنية، تكسب العمل قدرة،على رؤية ما يحيط بالحياة من خيوط متينة، وتدفعنا الى مضاعفة الجهود من اجل التخفيف من المعاناة، تتراءى لنا القصص بأسلوبها المسرحي الممتع، وكأننا نشهد مناظر حقيقية على خشبة المسرح،من حياتنا، يتجاور فيها الفرح والألم، بشكل غريب، استطاع الكاتب ان يجسد المشاهد القصصية بما أوتي من قدرة مسرحية..

في قصة (البحث عن فكرة) يحاول البطل ان يجد فكرة،يمكن له إن يجسدها في قصة، يشترك فيها في إحدى المسابقات، لينال الجائزة، ويمعن التفكير فيما عساه يكتب، تظل الورقة بيضاء، مدة طويلة من الزمن، ووقائع الحياة تمور من حوله، بشكل يدعو الى الاغتراف منه، فقر مدقع، وموت يصاحب الحياة، وتسول وجوع وكفاح خائب،من اجل تحسين ظروف الحياة، يتوصل بطل القصة أخيرا، ان كتابة قصة جديدة، بفكرة لم يسبقه فيها احد، في متناول يده، إن هو تمعن النظر، في أحداث تمر أمامه سريعا، وتحب من يقتنص الاستفادة منها، بالقبض عليها .

(تذكرت صورة الجسد النحيل، جسد السي إبراهيم،وهو ينهار أمام عيني،مستسلما لأزمة قلبية حادة، تجرعها في كوب الحياة المر، وصورة الشحاذة وهي تلد، وكأنها رفضت أن ينقص من حينا شخص،فأبت إلا أن تعوضه بإنسان،لا مستقبل ينتظره، سوى التيه في دروب الحياة الموصدة، أو كما قال والده' العربي'

- جاب الله اللي يعاونا في السعاية.

توهج ذهني، واستعجلت الى مكتبي، لأكتب قصة ألم دفين، عنونتها: (التأرجح على حبل الحياة والموت)..

يتجاور الموت مع الحياة في قصص (البوشاري)، وتتعايش المتناقضات وتتآلف السلبيات (صاح احد المارة بحزن :

سبحانك يا الله تحيي وتميت)

في قصة (ويبقى الدم احمر) يشتد اليأس ببطل القصة، من انحدار الفشل، وخيبة المحاولات، لوضع حد لنزيف الآلام، فيقرر وضع حد لحياته البائسة،بالانتحار، يختار مكانا عاليا ليهوي بنفسه، وليقارن بين علياء من يمتلك الوسائل لحياة جميلة، وأسافل من عاش على الهامش، محروما من كل شيء

(فتح ذراعيه لمعانقة الرياح، عناقا أخيرا، تحسرا على سنين الحضيض:

لم يكن هواء ما استنشقتاه بأمس الألم، ولم يبق من العمر متسع لنستنشق أكثر)..

يتردد البطل بين رغبته في إنهاء حياة، مترعة بالألم، وبين حبه أن يتذوق معيشة، من كان في العالم العلوي، ولكن لم التردد؟ وبطل القصة غير قادر على إنهاض بعض الاهتمام بموته المستمر، ومعاناته الباردة، فالتجاهل مصيره، من يمكن أن يهتم بشخص، قد قرر أخيرا، أن يهدر دمه بيده،ويترك صغارا بأفواه جائعة، تخلى عنهم من يعيلهم، في وقت يحتاجونه، ومضى رقما من الأرقام المبهمة، العاجزة عن فعل شيء..

ولعل السؤل ينطلق من القارئ،بعد ان ينتهي من قراءة هذه القصة، هل كان الانتحار جسديا؟ أم كان مجازيا، وهو موت الأحلام، والفشل المتواصل، في إيجاد أسباب مقنعة للعيش، وهل أراد الكاتب أن يعبر عن يأس كبير، من تغيير طبيعة الحياة، في ميلها إلى جانب من يتصف بالاقتحام وعدم التردد، أم إن القاص أحب أن يعبر،عن شعور مهيمن على الكثير من المهمشين، الذين ينتقلون من فشل إلى آخر اشد مرارة، ويجدون غيرهم يحصد النجاح بلا عناء، في وقت تفترسهم المرارة،لان جهودهم الكبيرة لم تثمر، ولم يتح لها ان تؤتي أكلها،ببعض ثمرات العرق المسفوح..

ما الذي يجعل الإنسان، والمرهف الشعور على وجه الخصوص، يتجرع الغصات، ولا يعثر على الماء الزلال، هل لطيبته المفرطة؟، أم عدم إدراكه لطبيعة الحياة، التي تحمل صفات الانقضاض، على الفريسة الضعيفة،وتجريدها من عوامل الرغبة في الحرص على البقاء؟

في القصة القصيرة الثالثة، و عنوانها (شرفة الانتظار) تتراءى لنا أحلام العاجزين، في تحقيق بعض الطموحات، إنسان مقعد، يحب فتاة جميلة، يروم الاقتران بها،ككل قصص الحب في مجتمعنا، ولأنه مقعد وفقير، ترتبط فتاته بمن يستطيع،ان يحقق لها ما تصبو له الفتيات،من حياة آمنة وعيش رغيد، يحلم العاجز المقعد،أن يتمكن من التعبير عن حالته، بكلمات جميلة ونص فني، قد يجد فيه تعويضا، عن فقدانه الحب و حياة الصحة والشباب، فالعجز يقعده، والفقر يربطه، وجلوسه الطويل في الشرفة، منتظرا ان يطل عليه ' شيطان الكتابة' فينقذه مما يعانيه من بؤس وجفاف، لكن محاولاته البائسة، سرعان ما يجهضها الفشل، فتتكوم كرات من الورق في سلة المهملات، وتتعب العمة في حمل قناني القهوة، ابتغاء التخفيف من معاناة الشاب المقعد.

ما الذي يحمل الى المرء بذور الإبداع؟ هل إدمان المعاناة، والفشل في وضع حد لها؟ هل هو المرض؟ فقدان الحب؟ هل السبب يكمن في الفقر أبو المصائب كلها؟، أم ان المعاناة تنقلب إلى ضدها، ككل أمر ان زاد عن الحد..

لماذا ينجح بطل القصة في التعبير عن أحزانه الكبيرة، حين تبدأ قصته مع الحب تعرج إلى نهايتها؟

(انطلق قلمه يطوي سطور الورقة، وضاع الوقت في الكتابة وتمزيق الأوراق ..... وفي الجهة الأخرى، كان الجواهري يحشد ثروته لإغراء أسرة المحبوبة، من خارج بيت سعيدة،تعالت زغاريد النساء، وقرعت طبول الفرح، إيذانا بإحياء عرس الجواهري وسعيدة، وسجن وحيد في دخيلة عاشق في صدريته رقم 48 رفقة ياسر، ليتوغل في رطوبة صمت ابدي، مقعدا لا يقوى على شيء، سوى الانتظار، وشرب فناجين العمة المتذمرة، ليعيش اليومي بأسى، منتظرا الأمل رفقة صديقته الجديدة، وهي تغني من شرفة الانتظار :

' قديش كان في ناس عالمفرق تنطر ناس

وتشتي الدني، ويحملوا شمسية

وأنا في الصحو ما حدى نطرني)

في (موت الكتابة) تنعدم عناصر القص، ويغدو النص تسجيلا،لحرب طويلة بين اليأس والفراغ،المستمدين من الواقع،وبين محاولات تبذل، للتخلص من براثن واقع مظلم، شديد البؤس

(استندت إلى حافة السرير، للنهوض من فراش احتضاري المؤجل، اتجهت نحو نافذة الغرفة،المغلقة طيلة سنوات الخصام بيني وبينها، ترددت قليلا في فتحها،ولكنني بدافع قوي استسلمت لرغبة الصلح، تطلعت بلهفة الى الطرقات المذهبة،التي رسمتها الشمس في لوحة السماء الزرقاء، بعد ان زالت كل الغيوم عن سمائي، استدرت بشكل آلي،لا يخلو من الأسى، الى ذلك الركن البعيد في الغرفة، حيث كان يقبع آخر ما يربطني بها، أتذكر أنني لم أبارحه يوما،الا في ذلك اليوم المظلم، عندما كتبت كلمات موتي، عندما وضعت النهاية لقصة احتضاري، أجل لقد كنت أحتضر، وكانت هي إلى جانبي، لكم كانت جميلة، وكانت ابتسامتها الحزينة وصوتها الطفولي، يجعلاني أؤجل موتي قليلا، للغوص في أعماق عينيها البريئتين، وهما ترويان بالدموع ورود نعشي)

لماذا هذا الإصرار الكبير، على وضع حد لحياة بشعة؟، تنكل بإنساننا المعاصر، وتسلب منه الحق في محاولة التغيير؟، هل فقدنا القدرة على الابتسام؟ومواصلة الحياة بتجرع مرارتها،غير القابلة للاحتمال، وماذا دهانا كي نطلب الموت؟ وهل نحن أحياء حقا؟، في وقت يتفاقم فيه الألم، وتشتد الخسارات،ويغدو الإنسان مجابها عداوة مخلوقات غير مرئية، أشدهم فتكا هي نفسه؟

هل تعبر القصص عن موقف متشائم، من حياة تعسة لا خير فيها؟، وهل يمكن ان يواصل المرء الكذب،على نفسه ان حياتنا يمكن تبديلها، الى أفضل وأكثر مدعاة الى الاعتزاز؟، وهل هذا الموقف سلبي فردي؟ ام انه يمثل الغالبية من الجماهير العربية، التي تفقد يوميا، كل ما أحرزته في نضالاتها الطويلة، في العقود الماضية من حقوق؟ ما الذي جعل الإنسان بمثل هذه الهشاشة،وهو يصارع أعداء، لا قبل له بمواجهتهم،وفي كل الميادين؟

في قصة (أجساد وقبرة): يستخدم الكاتب (القبرة) ليرمز الى الوفاء، باعتباره قيمة مفقودة، انعدمت من مجتمعاتنا،وبقي الحيوان الضعيف متصفا بها

والقصة هذه، كقصص المجموعة كلها، تعبر عن هموم ضحايا الفقر المدقع، و انهيار الأحلام في واقع بائس، الجميع فيه يجري خلف سراب، تتبدد القدرة، وتستبد حالات اليأس والقنوط،من إمكانية للتغيير..

(داخل عباءة الليل، في قعر أجسادنا ننزوي، برد قارص، يتسلل عبر شقوق الزمن، يترصد شعلة أعيننا المتوقدة فزعا) الكل ناقم على هذا الجو، ترتفع الأصوات، ولا تشبع حاجة، يتواصل نقر القبرة،عبر الزجاج، طالبة للدفء، فيعجز البشر في هذا الجو المثير للغضب،عن تلبية حاجة القبرة، فكيف يمكن ان يلبي المحروم من الدفء، طلب القبرة الملتاعة،

وفاقد الشيء لا يعطيه؟

والأجساد تتلاحم، ليس رغبه في الصداقة، لان المشاعر الدافئة، تنعدم في مثل تلك الأجواء، ويضحى كل أمريء عدوا (تستفزه فكرة الرفس) ويبدد الجميع الصمت، المهيمن وصوت البرد العالي، المتسلل إليهم عبر شقوق الحياة ذاتها، بحوار ساخن، يتساءلون فيه عن الحب، الحياة، المرأة، الخيانة، الحلم الذي ضل طريق العودة، لقلوب أفسدها طول الحرمان

تبكي (القبرة) عجز الإنسان وخيباته المتواصلة، واحتضاره كل لحظة، واستمرار موته، وحين تعجز القبرة من تحقيق الدفء المفقود، تتوقف عن نقرها،ويختفي أبطال القصة في بياض النهار، يتيهون وسط الزحام، يغادرون الخواء، لئلا تسيطر عليهم فكرة العجز، عن إغاثة القبرة، فكل مخلوق وحيد، يواجه قشعريرة الحياة، مفردا عاجزا..

في ومضات المجموعة،(شظايا) وهي قصص ق ج، نجد التكثيف واللغة الشعرية، والقدرة على التأثير في المتلقي، وجعل النهايات مفتوحة، لمشاركة القارئ

ففي قصة (سعادة مؤقتة) نجح الكاتب في اختيار العنوان، الذي يدل على ذكاء ودقة، فالذين يستعينون بالعرافة، لتساعدهم على متاعب الحياة، قد يحصدون فرحا وقتيا، لا يلبث أن يزول :

(وجدت نفسي أزاحم في طابور لأعرض ألمي على عرافة ..

كلهم كانوا هناك . من يدخل، يخرج مبتسما

أجهضت فكرة البوح

غادرت الصف، محتفظا بألمي.

أدركت ان سعادة العالم توزعها عرافة

القصص القصيرة وجدتها أكثر مهارة من القصص القصيرة جدا، لان الكثافة الواجبة والمفارقة والإدهاش، تخلو منها بعض القصص القصيرة جدا، فتفقد فنيتها وجمالها، ففي قصة (ليس في السراب ماء) يتطرق الكاتب إلى فكرة مستهلكة من كثرة التطرق إليها :

(بسذاجة من يعشق الان سألها :

- أفي القلب متسع لي؟

بوقاحة من يخون دائما صفعته بالجواب

- بالطبع شريطة أن تدفع ثمن التذكرة فكل المقاعد قد تحجز

بخيبة من يدعي الكرامة قال :

- أكرهك

بلا مبالاة من فقد الإحساس بصقت نتانة دخيلتها في وجهه

- اترك مقعدك إذن لمن معه ثمن التذكرة

غادر جسدها مكتشفا انه إذا أحب يوما لن يحب......

كان يمكن للقصة ان تكون أجمل لو خلت من التفسيرات الكثيرة، التي أحدثها الكاتب، فهذه التفسيرات أخلت بشرط أساسي من شروط القصة القصيرة جدا

 

صبيحة شبر 

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2161 الأحد 24/ 06 / 2012)

في المثقف اليوم