قضايا وآراء

النخبة السياسية العراقية وضياع بوصلة النخبة (6-7) / ميثم الجنابي

فالنتائج دوما محكومة بأسبابها. إذ يرتقي هذا التلازم إلى مصاف الحتمية. وفيه تظهر ليس فقط حقيقة القدر بل وإمكانية البدائل للخروج من ربقته. فالقدر هو الوجه الآخر للقدرة. وعلى قدرها تتراكم حقيقة ما ندعوه بالمصير في عقل وضمير النخب الاجتماعية والفكرية والسياسية. كما انه يتراكم في مواقف المجتمعات والأمم بأشكال ومستويات شتى من الخنوع لكل ما يجري حتى المواجهة والتحدي والاستعداد للتضحية بالنفس من اجل ما يرتقي في عقلها وضميرها إلى مصاف المقدس، أي كل ما يرتقي في وعيها وضميرها إلى مستوى المجرد عن الابتذال. وفيما بين هاتين الحالتين، أي الخنوع حد العبودية السافرة والتوكل الزائف على قيم أكثر زيفا، والاستعداد الدائم للمواجهة والتحدي مهما كانت الظروف والقوى الخارجية، تكمن أيضا قيمة النخب والأمم على السواء. وهي حقيقة سبق وان سجلها الفكر الإسلامي في عبارة مأثورة تقول "الناس على دين ملوكها"، والتي يمكن تأويلها في ظروفنا المعاصرة على أن الأمم على دين نخبها بشكل عام والسياسية بشكل خاص. وذلك للدور الذي تلعبه النخب السياسية الآن في حياة المجتمع.

وتدفع هذه الحقيقة مهمة صياغة ما يمكن دعوته بفلسفة النخبة السياسية، باعتبارها إحدى أهم القضايا الجوهرية في ميدان الفكر والممارسة السياسية العراقية. وذلك لما للنخبة السياسية من دور حاسم في حسم الإشكاليات التي تواجهها الدولة والأمة. فعندما ترفع الجماهير شعارا بائسا، فإن ذلك مؤشر على بؤسها المادي والروحي، وعندما تكشف الجماهير عن بؤسها المادي والروحي فان ذلك دليل على بؤس النخبة بشكل عام والسياسية بشكل خاص. ولعل احد المصادر الكبرى لبؤس النخبة في ظروف العراق ما بعد التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية يقوم في آلية الحزبية الصلدة و"الحية" في رؤية النخب وسلوكها العملي. وهي آلية لا يمكنها إبداع رؤية وطنية عامة. بينما تشكل الرؤية الوطنية العامة صلب المضمون الفعلي للنخبة السياسية زمن الانقلابات الحادة والإشكاليات الكبرى التي تواجه الدولة والأمة. وذلك لما في هذه الرؤية العامة من استجابة لمستوى ونوعية وحجم التحديات.

فالقضايا الكبرى التي تواجهها الدولة والأمة زمن الانقلابات الكبرى هي قضايا الجميع. بمعنى أن المشاكل القائمة مهما تبدو في الظاهر منفردة أو معزولة أو جزئية، فأنها في الواقع مجرد عينة لمشاكل عامة ومترابطة وكلية. وتعكس هذه الحالة الطبيعية ترابط الأشياء والظواهر، إلا أن خصوصيتها زمن الانقلابات الكبرى تقوم في قدرتها على إثارة سلسلة من التداعيات لا يمكن ترتيب الأوليات فيها. وذلك لان الانقلابات الكبرى والعاصفة تجعل من الممكن صعود مختلف الظواهر الراديكالية واللاعقلانية. وذلك بسبب الخلخلة الهائلة في بنية العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، مع ما يترتب عليه من "ضياع أيديولوجي" وقلق روحي ومعنوي. وهي مكونات متناقضة من حيث تأثيرها على السلوك السياسي. فبالقدر الذي يمكنها أن تكون مقدمة لبدائل عقلانية من خلال شحذ فكرة الحرية والحقوق، فإنها تحتوي بالقدر نفسه على مختلف الاحتمالات غير العقلانية والدموية. وهما احتمالان يحددهما وجود أو غياب الرؤية الوطنية العامة في فكر وممارسة النخب السياسية.

وعندما نطبق هذا المدخل العام على واقع العراق الحالي الذي يمثل نموذجا كلاسيكيا لحالة الانتقال الحادة والعاصفة في تاريخ الدولة والأمة، فإننا نقف أمام الاحتمالين الأساسيين المذكورين أعلاه. واقصد بذلك إمكانية بناء أسس الدولة الشرعية والحقوق المدنية أو الانكفاء صوب مختلف أشكال الصراع غير العقلاني (حرب أو حروب قومية وطائفية وجهوية وغيرها). وعندما نفحص العينات المتناثرة لمختلف أشكال ومظاهر الصراع الحالي فإننا نتوصل إلى وجود براعم جميع هذه الأشكال المتخلفة من الصراع. مما يبرهن بدوره على أن النخب السياسية الجديدة لم ترتق بعد إلى مصاف الرؤية الوطنية بعد مرور سنوات على سقوط التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. بمعنى أن اغلبها مازال محكوما برؤيته وسلوكه العملي بآلية النفسية الحزبية. وهي آلية ليست عقلانية، كما أنها لم ترتق بعد إلى مصاف الرؤية الوطنية العامة. وهو أمر جلي أيضا عندما نحلل نوعية ومستوى خطابها والمطالب المتناثرة في برامجها الانتخابية عل امتداد سنوات الاحتلال وما بعده حتى الآن، وبالأخص ما يتعلق منه بالموقف من النظام السياسي وشكل الحكم، أي بالسلطة. فقد كانت هذه السنوات وما تزال محكومة بالصراع من اجل السلطة فقط. من هنا تخبطها المزري حول تشكيل الحكومة وكيفية إخضاعها للمصالح الحزبية والشخصية الضيقة. مما يشير بدوره إلى ضعف أو انعدام الرؤية الاجتماعية والوطنية والمستقبلية. وقد تكن مساعيها الحثيثة للمؤامرات السرية والعلنية(!)، واستعادا اغلبها للمتاجرة والخضوع للقوى الأجنبية الخبيثة، والاتفاقات "السياسية" خارج الدستور والالتفاف عليه وما شابه ذلك مجرد مجوعة مظاهر لآلية تقسيم الغنيمة (المحاصصة والوفاق والشراكة وما شابه ذلك من صيغ عقيمة كشفت عن حدودها الضيقة وتخريبها للدولة والنظام السياسي والمستقبل).

فعندما نتأمل تجارب التاريخ والأمم، فإننا نقف أمام مجموعة من الحقائق تبدو في ظاهرها وباطنها اقرب إلى البديهة والحدس منها إلى "حقيقة صعبة"، أي حقائق لا تثير الجدل العقلي، لكنها يمكن أن تستثير مغالطات أنصاف المتعلمين وأشباه المثقفين من بين الساسة والمتسيسين. وهي مغالطات لا علاقة لها بالعقل والمنطق، بقدر ما أنها تختنق في دخان المغالطات المميزة للضمائر الخربة والقلوب الخائرة لتخرج في أنفاس المؤامرات الصغيرة والمغامرات الخطرة بالنسبة للدولة والمجتمع.

إذ يقف العراق الآن أمام هذه الحالة، بعد معارك الجدل والمغامرات العديدة التي سبقت "كتابة" "الدستور الدائم" و"الاستفتاء" والانتخابات المتكررة والاتفاق على شراكة السلطة قبل سنوات قليلة، ومحاولة سحب الثقة منها الآن. فمن الناحية المنطقية كان ينبغي لهذه الحلقات الثلاثة المتراكمة في صنع الديمقراطية والنظام الشرعي أن تشكل بحد ذاتها مقدمة للاشتراك الفعال من جانب الأحزاب والنخب السياسية في إيجاد الصيغة الواقعية والعقلانية المشتركة لإخراج العراق من أزمته البنيوية. لكننا نقف أمام مفارقة مخزية، وهي أن الأسماء المعلنة للتيارات الكبرى من "الائتلاف" و"الاتفاق" و"الاتحاد" وما شابه ذلك تتعارض مع سلوكها تعارضا تاما. إذ لا يمكن للمرء أن يرى اتفاقا ولا ائتلافا ولا اتحادا، بل هيجانا اقرب ما يكون إلى صراع الثيران!! وهو وصف لا رمزية فيه. فالجميع تتمتع بتاريخ "ثوري"، جذره من الثور، وحامله لا يمكنه التحرر من "ثورة" التلذذ حالما تتحرك أمام عينيه ألوان الدماء المتطايرة في شوارع المدن والساحات وغيرها من الأماكن، بوصفها الاستعاضة العصرية عن نفسية التلذذ بالقتل والاقتتال والمصارعة حتى الموت، كما كانت تجري سابقا على مسارح الوغى الإمبراطورية.

تكشف هذه الحالة النموذجية عن عمق الخلل الجوهري في النخب والأحزاب السياسية في ظروف العراق الحالية. وذلك لان مرور سنوات على خلفية إقرار الدستور الدائم (والمهلهل أيضا) يكشف زيف وخلل الأحزاب والنخب السياسية أكثر مما يشير إلى "لعبة المحتل" و"خلل الديمقراطية". وتستعيد هذه الظاهرة في اغلب مكوناتها ومقوماتها ما يمكن دعوته بالصدامية الجديدة المتلبسة بلباس النزعة العرقية الضيقة (للقوى القومية الكردية) والطائفية السياسية (للأحزاب العربية الدينية منها والدنيوية).

***

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2162 الاثنين 25/ 06 / 2012)


في المثقف اليوم