قضايا وآراء

الصداقة في القصيدة العربية / صبيحة شبر

و يفضل بعضهم أن يعيش وحيدا، لأنه جرب ويلات الصداقة، وذاق طعنات الصديق،لهذا ينكر هؤلاء وجود معنى الصداقة في الحياة التي يقوم أغلب الناس فيها بالغدر..

والأصدقاء بشر يخطئون مرة، ويصيبون أخرى والمرء بقيم معهم العلاقات الاجتماعية والتي نطلق عليها لفظة الصداقة، ولان الإنسان مخلوق اجتماعي يحب أن يعيش في مجموعة من البشر، يتبادل معهم الأفكار والعواطف ويتعاون معهم في أوقات السرور ولحظات الحزن والخيبات

والإنسان كي يكون بين الناس، وينقذ نفسه من براثن الوحدة وأنياب الغربة، فانه يلجا إلى تكوين الصداقات، ومع يقينه انه لا وجود لمخلوق كامل، وان العيوب من طبيعة البشر، فان بعض الناس يرحبون بوجود الصديق ويتعايشون مع مساوئه ظنا منهم انها مساوئ قليلة وان الإنسان الفاضل من يمكن أن تعد عيوبه، وهناك آخرون يرون انه من العسير ان يتعايشوا مع نذالة بني الإنسان وخيانتهم، فهم يؤثرون ان يعيشوا وحدهم

والشعراء العرب لتميزهم برقة الإحساس ورهافة الشعور فقد وجدنا تمايزا في المواقف وتعارضا في وجهات النظر تجاه علاقة الإنسان بأخيه ومدى حاجته الى تلك العلاقة، وتقبله لعيوب الآخرين واحترامه لهم واتصافه بالإنصاف ورؤية الآخر على حقيقته، دون تجريده من الصفات الحسنة التي منحه الله إياها، فريق ثان من الشعراء قد خبر الحياة وجرب لسعاتها وأيقن بعد مروره بأيام عسيرة انه من الأنسب له وضمانا لسلامته النفسة ان يعيش بعيدا عن الناس ليسلم من شرورهم..

 

صداقة المتنبي

ابو الطيب المتنبي الذي عرف عنه انه عاش حياة الوحدة، وتنقل بين البلدان مادحا من اجل الحصول على العطايا والهبات وهاجيا حين لا يجد من الممدوح ما كان يرتجيه من جزيل الكرم، يرى المتنبي ان بلاد لا صديق فيها شر البلدان، فهل وجد المتنبي صديقه ؟ أم ان كل البدان كانت شريرة بنظره ؟ وهل كان يقيم مع الصديق علاقة متكافئة،ليس فيها استغلال، أم انه كان يريد من الصديق كرم العطاء لقاء ما يقوم من إضفاء هالات المديح والثناء وجواهر الشعر، ولآليء القصيدة الخالدات

شر البلاد بلاد لا صديق بها

وشرما يكسب الإنسان مايصم

نصائح عامة

قال بشار بن برد في الصبر على الصديق :

إذا أنتَ لم تشرب مرارا على القذى

ظمئتَ وأيُ الناس تصفو مشاربه

فعشْ واحدا أو صلْ أخاكَ فانّه

مقارفُ ذنب مرة ومجانبه

ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها؟

كفى المرءَ نبلا أن تعدَ معايبه

إذا كنتَ في كل الأمور معاتبا

صديقكَ لم تلق الذي لاتعاتبه

أبيات بشار رغم جمالها، إلا إنها لم تنطلق عن تجربة شخصية لأن الفكرة تطغى على العاطفة،فيأتي بالنصائح والحكم، وليس في أبياته خصوصية التجربة، ويقول كلاما عاما، يستطيع أي إنسان ان يردده، باختلاف الزمان والمكان، وبشار لم يتذوق مرارة الخيانة، وصعوبة أن تأتيك الطعنات من أناس قد وهبتهم ثقتك، وبحتَ لهم بأسرارك، وكنت تتخذهم إخوة لك وأشقاء، ترحبُ بحضورهم، وتدافع عنهم، وكان بشار ينطلق من رغبة في إسداء النصيحة لسامع شعره ومتلقيه، بأنهم ان أرادوا شرب الماء صافيا فإنهم سوف يظلون عطاشي يرهقهم الظمأ، كذلك من يبحث عن الصديق الخالي من العيوب، فلابد أن يفشل في مسعاه، لان الطبيعة البشرية ليست خيرا خالصا او شرا محضا، إنما هي خليط بين الأمرين، وهناك أسباب عديدة تجعل احدي الصفتين تتغلب على الأخرى، لهذا لا نجد عند بشار بن برد حرارة العاطفة ولا صدق الإحساس اللذين نلمسهما عند من خبر الناس واجتهد كي يجد الصديق الحق، وكان مطلبه بعيد المنال، ففشل في الوصول إليه، ووجد بعد التجربة انه من الخير أن يتقبل الصديق رغم عيوبه، وانه مهما حاول ان يقوّم تلك العيوب فان الفشل الذريع سيكون مآله، لان الناس عادة لا ترى عيوب نفسها، في الوقت الذي تبدو لهم فيه عيوب الآخرين واضحة بينة، وقد قال الشريف الرضي في تعذر الحصول على الصديق الصدوق :

 

 وكم صاحب كالرمح زاغتْ كعوبُه

أبى بعد طول الغمز أن يتقوّما

تقبلتُ منه ظاهرا متبلجا

وأدمج دوني باطنا متجهما

ولو أنني كاشفته عن ضميره

أقمتُ على ما بيننا اليومَ مأتما

كعضو رمتْ فيه الليالي بفادح

ومنْ حمل العضوَ الأليم تألما

دع المرءَ مطويا على ما ذممته

ولا تنشر الداءَ العضال فتندما

نلمسُ في أبيات الشريف الرضي مرارة كبيرة، حاول مرارا أن يقوم من اعوجاج صديقه، فلم يوفق، وكم من مرة عامله الشاعر بصراحة، فقابله بباطن مخفي، ونفس دساسة، ولو إن الشاعر صارحه بخبيئة نفسه، لقضى على تلك العلاقة، وأصاب منها مقتلا، فاضطر الشاعر إلى تقبل ذلك الصديق، كما يتقبل المرء العيش مع عضو مريض،يسبب له الأذى، صدق التجربة نجده واضحا في أبيات الشريف الرضي، فلم يقل نصيحة عامة،إنما عبر عن موقفه الخاص نحو الصداقة،التي لا يمكن العيش بدونها،مهما كانت صفات الصديق تدعو إلى الأسف والقهر على تحمل الصبر..

تفضيل الوحدة

وان كان الشريف الرضي يرى إن الصداقة ضرورية للإنسان، وأفضل من حياة الوحدة والعزلة، فان الشاعر ( ابن حمديس الصقلي) له وجهة نظر تتعارض مع ما أبداه الشريف الرضي

قال ابن حمديس مبينا استحالة نسيان الإساءة

أتحسبني أنسى وما زلتُ ذاكرا

خيانة دهري أو خيانة صاحبي

تغذّى بأخلاقي صغيرا ولم تكنْ

ضرائبُهُ إلا خلاف ضرائبي

ويا رُبّ نبت تعتريه مرارةٌ

وقد كان يسقى عذب ماء السحائب

 علمت بتجريبي أمورا جهلتها

وقد تُجهلُ الأشياءُ قبل التجارب

ومَنْ ظنّ أمواء الخضارم عذبة

قضى بخلاف الظن عند المشارب

 ولما رأيتُ الناسَ يُرهب شرهم

تجنبتهم واخترتُ وحدة راهب

يبدأ ابن حمديس أبياته باستفهام استنكاري، كيف يمكن أن ينسى خيانة صديقه وزمانه، وقد كانت أخلاق ذلك الصديق ومنذ البداية متعارضة مع أخلاقه،رغم ان نشأتهما كانت واحدة، فقد يسقى النبت بالماء العذب، ويكون طعمه مر المذاق علقما، وكل أمريء يتعلم من تجاربه، اذ كيف نعرف إن ماء البحر أجاج،وماء النهر فرات عذب، أليس بالتجربة، التي تثبت انه من الخير للإنسان ان يختار حياة الوحدة،بدلا من تعريض نفسه للخيانات التي لا قبل له بنسيانها،

لماذا اختار ابن حمديس حياة الوحدة، وفضل الشرف الرضي أن يتقبل الصديق رغم العيوب الكثيرة،والواضحة في شخصيته وتصرفاته ؟ لابد إن الاختلاف يعود إلى تباين الصفات الشخصية عند الشاعرين، وطبيعة الخيانة التي تعرض كل منهما من الصديق، فأنواع الخيانات متعددة وتقبل الناس لها يختلف، وان كان الشاعران يعبران عن تجربة، نحس بها بدفء الاحساس، وجمال الشعور، وأنهما حقا قد وجدا من الصديق ما لم يكونا يتوقعان، فآثر الشريف الرضي الصبر على الصديق وتقبل عيوبه، ينما اختار ابن حمديس ان يكون وحيدا..

طوع أمر الخلان

 ويرى أبو فراس الحمداني انه من الخير التحلي بالأخلاق الفاضلة، والاستجابة للصديق إن دعانا لأي أمر، ففي تلبية النداء كرم للإنسان ومروءة، وانه كان دائما غافرا للصديق زلاته مبينا له إحسانه وعفوه، وحين يسيء الصديق يسارع شاعرنا أبو فراس الحمداني بالإحسان، فيبقى طوع امر خلانه، لأن عتباهم ومؤاخذتهم على الأخطاء ليست من صفاته:

ما كنتُ مذ كنتُ إلا طوع خلاني

ليست مؤاخذةُ الإخوان من شاني

يجني الخليل فأستحلي جنايته

حتى أدل على عفوي وإحساني

إذا خليلي لم تكثر إساءته

فأين موضع إحساني وغفراني

يجني عليَّ وأحنو صافحاً أبداً

لاشيء أحسن من حان على جانِ

 ولعل ما عرف به الشاعر الجميل ابو فراس الحمداني،من طيب الأخلاق ولطف الخلال وصدق المشاعر يدعوه الى عدم مؤاخذة الصديق

ورغم مرارة التجربة، وقساوة التضحيات التي يقدمها الإنسان أحيانا، كي يحفظ صداقاته من الانهيار، فان المجربين ذوي الحكمة والمعرفة، لم يجعلوا الصداقة تتكون بعيدا عن إرادة الإنسان، وحسن اختياره، وصواب تفكيره بعواقب الأمور، فالصداقة من العلاقات التي يجب ان تقوم على التكافؤ والندية وإلا استحالت ندما وحزنا دائما، فيرى الشاعر ( عدي بن زيد)، ان خيار الناس يستحقون صداقتنا، واننا ينبغي ان نتصف بالشجاعة فنمدح في مواضع المدح، ونذم في مواقع الذم

إذا كنتَ في قومٍ فصاحب خيارهم
ولا تصحب الأردى فتردى من الردي
وبالعدل فانطق إن نطقت ولا تلم
وذا الذم فأذممه وذا الحمد فاحمد
ولا تلحُ إلا من ألام ولا تلم
وبالبذل من شكوى صديقك فامدد

ونلمح تعارضا كبيرا بين موقف أبي فراس الحمداني وتسامحه اللامحدود مع أخطاء الأصدقاء، فان عدي بن زيد له وجهة نظر متباينة كثيرا

ولا ننتظر أن يتفق الناس في موقفهم تجاه قضية من القضايا المهمة التي تواجه الإنسان، فان اختلافهم أمر طبيعي، تحتمه استحالة أن يكون الناس متشابهين، في الأفكار والعواطف وفي ردود الفعل تجاه الأحداث المختلفة

 

صبيحة شبر

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2165 الخميس 28/ 06 / 2012)

في المثقف اليوم