قضايا وآراء

ايام كارتون والنص الجامع .. محاولة لقراءة مجموعة الشاعر علي الاسكندري / سلام كاظم فرج

التي تمتد منذ بداية تسعينات القرن الماضي الى يومنا هذا.. فالإسكندري شاعر تسعيني.. له بصمته الخاصة..وتجربته تذكرنا بعبق ايام النشر عن طريق الاستنساخ اليدوي المحدود

لكننا نطمح بعجالة ان نقدم مجموعته الشعرية الجديدة (ايام كارتون).. محاولين جهد الامكان التنويه بمنجزه في التجريب بأعلى سقوفه.. ومدى امكانية ان نطلق على بعض نصوصه بالنص الجامع كناية عن النص المفتوح غير المسبوق. او المكتوب خارج سياقات الكتابة المتداولة المعروفة..

ما عادت النصوص المنغلقة على نسيج ثابت تغري القارئ بالتواصل او الاندماج معها.. والاسكندري احد رواد تمزيق شرنقة ذلك النسيج المتعارف عليه في النصوص الشعرية ألمعاصرة

ربما هو يحاول ان يكون مخلصا لأطروحة دريدا حول النص المفتوح الجامع المنفلت من عقال التكرار

يقول جاك دريدا (ان اي نص لم يعد كيانا منجزا للكتابة.. لم يعد مجرد محتوى مسيج في كتاب.. لكنه شبكة خلافية معقدة.. نسيج من الآثار تشير بطريقة لانهائية الى شيء ما غير نفسها.. اي الى آثار خلافية أخرى.. وهكذا فان النص يتخطى او يجتاح كل الحدود المخصصة له..).

هكذا وجدت نص الاسكندري الاخير ايام كارتون..والنصوص الاخرى التي اشتركت في تكوين مجموعته الاخيرة..

وجدت فيها ما يشبه توريط قارئها في نشاط خطر يشترك مع كاتبها في إعادة خلق عالم شعري خاص غير متوقع..ثوري.. وغير مسبوق..

رغم اخلاصه الذي يقترب من التبني العقائدي لقصيدة النثر وجدت حنينا طاغيا لقصيدة التفعيلة في نصه ( تفاحة الدهشة)..لكنه هنا يمنحها غموض النص المعاصر الذي ميز قصيدة النثر العراقية التسعينية..

(وتخطى دهشة الفجر على برعم ثغري

وامتطى شقشقة الدمع وخلاني وحيد، مالذي صيره قاسيا كالعمر

وقورا كالقصيدة؟؟؟)..

لكنه في ايام كارتون.. يمزق كل شرنقات النصوص القديمة ويدخل من باب الطلاسم لينثر نصا جامعا مفتوحا.. فيه عبق السرد القصصي.. وفيه إعادة قراءة التاريخ.. تاريخ العالم وتاريخ المسلمين.. وفيه محاكمة لمرحلة عراقية صميمة. مرحلة( 58 الى 63) ونهاياتها المأساوية..وعمق الجروح الغائرة في روح  الطفل  الشاعر.. وطلاسم النص تنفلت تنتقل ما بين الشعري والمسرحي ..في المقدمة يراودك شعور انك ستكون امام نص مسرحي.. لكنه يدخلك بنص تسجيلي من خلال تقرير للأمم المتحدة عن تجارة اطفال الرقيق ..لينقلك بشكل مباغت الى دائرة الشعر

لكن الانبياء ما صحوا من رقدتهم

وطفولتي مرعوبة من هيلمان ابي وعصا المعلم وصاحب الشرطة

وعذاب الله وانا اصرخ

يا عبد الكلام....

ومن غرائب الاضداد تلك المماهاة بين جثة عبد الكريم قاسم وجثة جون كيندي وجثة نوري السعيد..

ومابين كل فاصل توضيحي للتأريخ وللسياسة.. هناك نص شعري مواز..لكنك هنا لا  تستطيع أن تميز بين النص وعتبته او بالاحرى عتباته.. فالهوامش والبيانات.. تكاد تكون (حافلة) صالحة لنقل جوهر النص الشعري الملتبس. لكنها حافلة غريبة الشكل !!. ... اتحدث هنا عن النص الرئيس ايام كارتون.......

(ومن اي عيب من عيوب النص تسلل مسيلمة الكذاب مثل تيس هائم لينفخ في ايامي الكارتونية..)

تجاوزته وتواريت خلف غبار العبارة..!!)

يضعك مع اكثر من عتبة.. واكثر من هامش.. ويساعدك على تلمس مفاتيح نصه الصعب المثقل بعشرات الرموز .. وعشرات الجمل الشعرية المتناصة مع السرديات الكبرى المقدسة وغير المقدسة..ليقدم نصا مفتوحا غرائبيا.. عصيا.. لكنه في الوقت نفسه يمنحك (يعطيك) .. (يوصل اليك.)

كل المفاتيح المؤدية لفهمه والتلذذ بفك تشفيراته العميقة.. وبذلك وجدت الشاعر علي الاسكندري احد ممثلي النص المفتوح الكبار..فقد روادتني وانا اتلمس دربي في فهم نصه البديع هذا.. كل التنظيرات النقدية المعاصرة.. لكبار نقاد الحداثة.. وعرفت اي مثقف كبير هو الشاعر.. وتلمست الجهد الكبير الذي يبذله في كتابة نصوصه التي تكتنز الصنعة العالية تمتزج فيها شعرية باذخة مكتسبة ومطبوعة..

في قصيدته مأزق وردة الخشخاش... .. يؤنسن وردة الخشخاش... فهي قد تعبت من الوقوف... وهي تتألم من ثرثرة زوار الحديقة.. وهي تحزن لأهمال الناس لها رغم انهم يعرفون كم هي رائعة ورقيقة لكنهم مشغولون عنها بهمومهم اللاشعرية.. والغير عابئة بالورد وحديث الورد.. كأني هنا بالاسكندري يتحدث عن قصيدة النثر الحقيقية لا المدعاة... او ربما عن كل شيء جميل ورائع لكنه مهمل... علي الاسكندري يبلغ هنا ذروة الابداع الشعري .. سيما حين يقرر.. او حين يتذكر انها مطرودة من....... ومحظورة من قواميس الحدائق والبساتين.... الوردةُ التي توّرمَ ساقـُها من الوقوفِ في الحديقة

طيلةَ حياةٍ تامة

وانشغلَ المتنزهونَ عنها بالثرثرةِ والنسيان

لمْ تقلْ للعاشق حين جزّها لخليلتهِ

لــِــمَ أدمـيـتـنـي ...؟

بلْ سارعتْ للذبول

لتنفق جمالها...

المجموعة ضمت اكثر من عشرين قصيدة كتبها الشاعر خلال العقدين الاخيرين.. وكما قلت من الصعوبة بمكان تناول كل النصوص التي تضمنتها المجموعة.. فكل نص من نصوص الشاعر يحتاج الى وقفات متأنية طويلة.. لكني اقتصرت على النص الأثير الذي يمثل روح المجموعة والنص المختلف عنه تماما والذي شكل حنينا لنص التفعيلة بروح معاصرة حداثوية. اقصد تفاحة الدهشة...

وتبقى النصوص الأخرى مثل (حياة مثقوبة، وانوثة معتقة، وسماء مضادة..  وشعرة اوروك.). تشكل علامات مضيئة في فن قصيدة النثر العراقية المعاصرة.وهي بمجملها تنتمي للشعر عالي النبرة المحتج .. الذي يعكس آثار ما مر به العراق سياسيا واجتماعيا.. وما تركه الاحتلال من ندوب. وما يتركه الجهل والتخلف والامية من دمار ..

لكن سومر واسد بابل.. واوروك.. تظل كعبة الشاعر يرنو اليها.. يتهجد تارة .. ويتألم تارة.. وما بين اليأس والامل. والشك واليقين.. ثمة قصائد هي الشعر باعلى تجلياته.. واغنى ترميزاته..

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2165 الخميس 28/ 06 / 2012)


في المثقف اليوم