قضايا وآراء

النخبة السياسية العراقية وضياع بوصلة النخبة (7-7) / ميثم الجنابي

وقد تبدو هذه الرؤية "خسارة" بمعايير الدعاية الفجة والمصالح الآنية بسبب مستوى التجزئة الفعلية في العراق وخراب النسيج الاجتماعي والوطني وتدني الثقافة بشكل عام والسياسية بشكل خاص، إلا أنها "مربحة" بمعايير المستقبل والتاريخ.

فالنخبة السياسية الحقيقية هي التي تعمل وتفكر بمعايير المستقبل والبدائل العقلانية وليس الانجرار وراء الرؤية الحزبية الضيقة ولا عقلانية الشعارات السياسية المحكومة بتدني المستوى الثقافي. ذلك يعني أن وجود وفاعلية النخبة السياسية الوطنية تفترض في ظروف العراق الحالية الارتقاء في مواقفها النظرية والعملية، أي في مشاريعها وسلوكها السياسي إلى مصاف التحقيق الفعلي للنسبة الضرورية بين الواقعية والعقلانية في رؤية المصالح الخاصة والعامة، أي الحزبية والوطنية. وهو ارتقاء ممكن وعملي فقط في حال تمثل وتمثيل مجموعة من المبادئ العامة التي تشكل بمجموعها منظومة المرجعيات الوطنية الكبرى. وهي مرجعيات لا يمكن تجزئتها، كما لا يمكن إرسائها دون توحيد الهموم الوطنية في الوسائل والغايات. وهذا بدوره يستحيل تحقيقه دون تأسيس فكرة الهوية الوطنية العامة.

إن توحيد الهموم الوطنية تصبح غاية زمن الانقلابات الحادة، لكنها مرجعية بالنسبة للبدائل. وفي هذا تكمن قدرتها على أن تكون وسيلة سياسية حالما يجري وضعها في منظومة الرؤية الوطنية تجاه المشاكل التي يعاني منها المجتمع والدولة. وإذا كان بلوغها يبدو أمرا غاية في التعقيد زمن الانقلابات الحادة واشتداد الصراع، فلأن النخب السياسية تعمل بمعايير الرؤية الحزبية وليس الوطنية. ومن ثم فان الرؤية الواقعية تفترض في هذه الحالة إدراك الحدود الذاتية للقوى المتصارعة والمختلفة. بمعنى البحث عن مساومة بمعايير الرؤية الوطنية. إذ يجبر الصراع الحامي والدامي الجميع إلى الوصول إليها في حالة عدم إدراكها العقلاني استنادا إلى تأمل تجارب الأمم جميعا. ذلك يعني أن وحدة الرؤية الواقعية والعقلانية هي الملجأ الضروري لتوحيد الهموم الوطنية. ومهمة النخبة الحقيقة تقوم في استباق الصراع باسم الاستشراف العقلاني للمستقبل. مما يفترض بدوره البحث عن توازن واعتدال تجاه الإشكاليات الكبرى التي تواجهها الدولة والأمة. ومن المكن بلوغها في العلم والعمل، أو النظرية والتطبيق حالما تصبح المرجعية الوطنية المعيار النهائي للأحزاب والنخب السياسية.

غير أن المرجعية الوطنية، شأن كل مرجعية روحية كبرى تفترض وجود منظومة من المبادئ المتسامية والملموسة، أي منظومة من المبادئ القادرة على تنشيط الرؤية الواقعية والعقلانية عند الأحزاب والنخب السياسية. ففي ظروف العراق الحالية من الصعب تقديم رؤية واحدية أو إيديولوجية جامعة أو عقيدة مهما كانت عملية، تستطيع صنع إجماع في الرؤية ومن ثم توحيد الهموم المختلفة في مشاريع وطنية. وذلك بسبب طبيعة وعمق التجزئة القومية والعرقية والطائفية والجهوية والاجتماعية والاقتصادية المختلطة بقدر يصعب رسم حدوده من التخلف الثقافي والانحطاط المعنوي، مع استشراء فضيع للبنية التقليدية في كافة ميادين ومستويات الحياة الفردية والاجتماعية. الأمر الذي يجعل حتى الماضي والحاضر والأديان والعقائد والقومية والطوائف مصدر الخلاف والشقاق. ومن الصعب إلغاء كافة هذه المصادر انطلاقا من أن وجود قومية واحدة أفضل من قوميات متعددة، ووجود دين واحد أفضل من تعدد أديان، ومذهب واحد أفضل من مذاهب.

فالتجربة التاريخية للعراق، وبالأخص في مجرى عقود التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية قد كشف عن أن محاولة توحيد الجميع وصنع الكل بالقوة قد أدت إلى تخريب الكلّ. إضافة لذلك ليس التنوع في العراق هو مصدر الخلاف والشقاق، بل عدم توظيفه الواقعي والعقلاني. فالتنوع هو تاريخ العراق وفيه احد مكونات صيرورته التاريخية وكينونته الثقافية. والارتقاء إلى إدراكهما وتوظيفهما بما يخدم مشاريع النهضة الوطنية ينبغي أن يكون مضمون الفلسفة الوطنية للنخبة السياسية البديلة. بمعنى العمل من اجل إلغاء التنوع التقليدي والمغلق من خلال إلغاء زمن التوتاليتارية عبر بناء الوحدة الوطنية الثقافية.

ومن الممكن بلوغ هذه الوحدة على أساس ما ادعوه بفلسفة الاستعراق، أو فلسفة الهوية الوطنية العراقية. وهي فلسفة مبنية على عشرة مبادئ كبرى وهي: أن العراق ليس تجمع أعراق، وانه هوية ثقافية سياسية، وأن العراق غير معقول ولا مقبول خارج وحدة مكوناته الرافيدينية العربية الإسلامية، وأن العربية الإسلامية هي جوهر ثقافي، وأن الهوية الثقافية المفترضة للعراق والعراقية هي الاستعراق، وأن الاستعراق ينبغي أن يكون الحد الأقصى للقومية فيه، وهو البيت الذي تتعايش فيه جميع مكونات العراق بصورة متساوية ومنسجمة، كما انه ضمانة البقاء ضمن الهوية التاريخية الثقافية للعراق والاحتفاظ بالأصول الذاتية لمكوناته، وأن الخروج على الاستعراق هو رجوع إلى مختلف أشكال البنية التقليدية المتخلفة ومن ثم لا يعني من وجهة النظر الوطنية والمستقبلية سوى الخروج على منطق الهوية الثقافية للعراق والعراقية وعلى مكونات وجودهما الجوهرية، أما الخروج على الاستعراق فهو خروج على الحكمة الثقافية والسياسية لتاريخ العراق وبالتالي فهو خروج على القانون أيضا.

إن ارتقاء النخبة السياسية إلى مصاف الإدراك الفعلي لمنظومة المبادئ المكونة لفكرة المرجعية الوطنية العراقية هو الوحيد الذي يكفل لها المستقبل. وذلك لان هوية العراق الفعلية والواجبة هي هوية المستقبل فقط. وفكرة الاستعراق المذكورة أعلاه تهدف أساسا إلى بناء هوية المستقبل بوصفها منظومة عملية للمعاصرة. كما أنها تتمثل مضمون ومبادئ الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني، أي الأضلاع الوحيدة القادرة على إخراج العراق من مأزقه التاريخي. ويستحيل بلوغ هذه الغاية دون وجود نخبة ترتقي إلى مستواها. بعبارة موجزة، إن العراق بحاجة إلى نخبة وطنية عقلانية ومستقبلية قادرة على رسم وتنفيذ إستراتيجية التنمية الشاملة، لكي لا تكون مثل ذلك السلطان الذي اعترض مرة احد الزهاد طريقه، فاقتاده حراسه إليه مربوط اليدين:

- لماذا تقطع الطريق علي؟ ألا تعرفني؟! سأله السلطان

- بلى أعرفك!

- ومن أنا؟!

- أنت أولك نطفة تافهة وآخرك جيفة نتنة! وما بينهما كيس يحمل الخراء!!

***

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2165 الخميس 28/ 06 / 2012)

في المثقف اليوم