قضايا وآراء

يحيى السماوي .. البساطة المربكة (1) / حسين سرمك حسن

وهذه هي تسميته الدقيقة كما وردت في المجلد الثاني من "العهد العتيق" من الكتاب المقدّس وليس "نشيد الإنشاد"، أو على غراره، أو تحمل روحه، فإنك سوف تتساءل عن التاثيرات التي خضع لها يحيى في كتابته لهذه النصوص ؛ فهو ليس يهوديا، ولم يترعرع في بيئة تقرأ الكتاب المقدس أو السفر المعني، ولا تحتفظ مكتبتهم العائلية بنسخة منه في حدود علمنا . فهو مسلم من مدينة السماوة وأبوه الحاج عبّاس، ونشأ وترعرع في بيئة دينية محافظة على تقاليدها وموروثها الديني الإسلامي . ولا توفر ثقافة أبيه الإسلامية والمحيط الذي نما فيه وتمسك بطقوسه اي فرصة لقراءة الكتاب المقدس لأبنائه فما بالك بالعهد العتيق . والأكثر تمأزقا ما بالك بسفر نشيد الأناشيد بلغته المعقدة وإيحاءاته الجنسية والغزلية. فهذا النص لا يُمكن أن يُعد نصّا دينيا أبداً، وقد فشلت كل محاولات المرجعيات الدينية اليهودية والمسيحية في تبرير وجوده في العهد العتيق وترقيع دلالاته الروحية والدينية . فهو نص حسّي ملفّق ولا علاقة له بالآلهة ولا بالأنبياء ولا بالعبادات ولا بالطقوس التوراتية، بل هو ضدها في بعض المواقف والإستعارات المأخوذة من شعوب يسخط عليها "يهوه" ويذمها ويدعو أبناءه إلى الإنعزال عنها ونبذها .

ولكن قد يعترض قارىء مقتدر بالقول إن الكثير من الشعراء يقرأون مصادر معينة ويتاثرون بها . ثم هناك مخزون لاشعور الشاعر الجمعي الذي يتجاوز حدود الجغرافيا المحلية ويستند إلى رموز ومكونات وتجارب مشتركة بين جميع أبناء البشر . وأقول هذا صحيح .. ولكن أليس الأولى بشاعر عراقي من أهل السماوة وهي تقع في دائرة حضارة سومر أن يحتفظ لاشعوره الجمعي بمخزون الحضارة التي نشأ وترعرع على أرضها، وأحاطت بنشأته مؤثراتها وتفتحت ذائقته الثقافية على منجزاتها ؟.

وهل سنصدم هذا القارىء المحق في تساؤله إذا قلنا إن نشيد الأناشيد – بشهادة الكثير من الباحثين – مأخوذ – أو "مسروق" – من تراث سومر وتحديدا من أناشيد الحب السومرية وخصوصا أناشيد الزواج الإلهي على الرغم من أنني لأ أميل إلى تسميتها بتسمية "أناشيد" المتأخرة  المأخوذة من التوراة وأفضّل تسميتها الأصلية : قصائد أو نصوص أو غنائيات سومرية . إن محاولات مستميتة – بعضها له أسس - تجري الآن ويضطلع بها باحثون عرب - لإثبات أن نصوص وثقافة سومر هي أصل التوراة والنصوص اليهودية وصولا إلى هدف سياسي لا مجال هنا لطرحه على الرغم من بداهته ومن عدم انجرار الباحثين إليه بوعيهم ولكن في المآل النهائي لجهدهم في هذه المرحلة الحساسة، ولا مجال لإنكار حقيقة أن العهد العتيق كُتب بتوظيف تراث شعوب المنطقة الأصلية .

المهم أن نشيد الأناشيد الذي لا يزيد على ثمانية فصول قصيرة و177 فقرة (الفقرة تشبه الآية في السورة القرآنية) يسمّيه أصحابه "كتاب" وهو مكون من سبع صفحات من القطع الصغير قد حظى بتلال من الكتب والبحوث والدراسات لم يحظ بمثلها أي نص "ديني" قصير آخر.

وفوق هذا الإعتراض التمهيدي : ما هو رأي القارىء إذا قلنا أن لا صلة لنصوص يحيى عباس السماوي بسفر نشيد الأناشيد، لا من الناحية اللغوية ولا التصويرية ولا المضمونية ولا الجمالية ؟ . أنظر يا سيدي القارىء أولا إلى تركيبة الجملة التوراتية وهي مميزة جدا واللعب على الضمائر في هذا المقطع المُقتبس من الفصل الأول من السفر :

(ليُقبلّني بقبل فيهِ فإن حبّك أطيب من الخمر – أدهانك طيبة العُرف واسمكَ دهن مهراق ولهذا أحبتكَ العذارى – إجذبني وراءك فنجري . قد أدخلني الملك أخاديره فنبتهج بك ونفرح ذاكرين حبّك الذي هو أطيب من الخمر، إن المستقيمين يحبّونك – أنا سوداء لكنّي جميلة يا بنات أورشليم كأخبية قيدار كسرادق سليمان – لا تلتفتن إلى كوني سوداء فإن الشمس قد لوحتني . قد غضب عليّ بنو أمّي فجعلوني ناطورة للكروم والكرم الذي لم أنطره – إخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى وأين تربض عند الطهيرة . لماذا أكون كمن يُغشى عليه في أثر قطعان أصحابك – الكتاب المقدس – سفر نشيد الأناشيد – الفصل الأول - ص 227) .

وهذا هو أول نص من نصوص يحيى السماوي "مناديل من حرير الكلمات" :

(أيتّها الرشيقة كرمح أنكيدو

الفرعاء كنخلة

المنتصبة كمئذنة

الناعمة كالندى

الهادئة كالنعاس

الصاخبة كشغفي :

إذا لم يكتبْ في دفتركِ

فما فائدته قلمي؟

وأضلاعي

ما حاجتي بها

إذا لم تكن

أوتاد خيمتك؟) .

وهذا مقطع من الفصل الثاني من نشيد الأناشيد " :

(أنا وردة الشارون وسوسنة الأودية – كالسوسنة بين الشوك كذلك خليلتي بين البنات – كالتفاحة في اشجار الغابة كذلك حبيبي بين البنين . قد اشتهيتُ فجلستُ في ظلّه وثمره حلو في حلقي – أدخلني في بيت خمره ورايته عليّ المحبة – أسندوني باقراص من الزبيب . قوّوني بالتفّاح فقد أسقمني الحب – شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني – أستحلفكنّ يا بنات أورشليم بظباء وأيائل الصحراء أن لا تُنهضن ولا تنبّهن الحبيبة حتى تشاء- الفصل الثاني- ص 228).  

وهذا هو المقطع الثاني من نصوص يحيى :

(منشغلٌ عنكِ بكِ

أبإزميل من الضوء

نحت الله الماء

فكان جسدكِ؟

كلّ امرأة وردة

إلا أنتِ :

حديقة !

صحرائي الشاسعة تستنجدُ بنهركِ

فالسواقي الصغيرة لا قدرة لها

على

نسج ثوب العشب

لجسدي الممتد من خدركِ

حتى سريري)

ولاحظ أن بنية الصوتين المتحاورين ؛ الحبيب والحبيبة في نشيد الأناشيد غير موجودة في نصوص يحيى مطلقا، فالنصوص كلّها قائمة على الصوت الواحد ؛ ضمير المتكلم، وهذا حال الأغلبية المطلقة لقصائد يحيى عبر حياته الشعرية المديدة وقد تكون نرجسيته الشعرية واحدا من أهم العوامل وراء هذه السمة الأسلوبية . والخطاب يسير في إتجاه واحد من "أنا" يحيى إلى "أنتِ" الحبيبة. وهذا مقطع من الفصل الثالث من السفر :

( في الليالي على مضجعي التمستُ من تحبه نفسي التمسته فما وجدته – أنهض وأطوف في المدينة في الشوارع وفي الساحات ألتمس من تحبه نفسي . إني ألتمسه فما وجدته – صادفني الحرّاس الطائفون ... – أستحلفكنّ يا بنات اورشليم بظباء وأيائل الصحراء .. – هوذا سرير سليمان حوله ستون جبّارا من جبابرة إسرائيل – جميعهم قابضون على السيوف .. – أخرجن يا بنات صهيون وانظرن الملك سليمان .. – الفصل الثالث – ص 229).

أما المقطع الثالث من نصوص يحيى فهو :

(سفينة ثغري

لا ترسو

إلّا

في مرفأ شفتيكِ

أيّاً كان ظلام السواحل

فأنا سأهتدي إليكِ

كما يهتدي الفم إلى الفم

في قبلات اللقاء

مُهتدياً

بقنديل عطرك) .

أما الفصل الرابع من السفر فيقول:

(جميلة أنت يا خليلتي جميلة أنت وعيناكِ كحمامتين من وراء نقابك وشعرك كقطيع معز يبدو من جبل جلعاد – أسنانكِ كقطيع مجزوز قد طلع من الإغتسال كل واحد منه متمٌ وما فيه عاقر – شفتاك كسمطٍ من القرمز ونطقك عذبٌ . خداك كفلقة رمّانة من وراء نقابك – عنقكِ كبرج داود المبني للسلاح .. – ثدياك كخشفي ظبية توأمين يرعيان بين السوسن .. – الفصل الرابع – ص 229 و230) .

وهذا هو المقطع الرابع من نصوص يحيى :

(لو لم تكوني شهرزادي

أكنتُ سأعرف أنني

شهريارك ؟

تمدّدي على عرش سريركِ

لأقصّ عليك باللثم

حكايات

ألف قبلة وقبلة

لا تخافي نهمي

فأنا

ساقضمك بهدوء

عواصفي

لا أنياب لها) .

وعندما أقدّم مقطعا من أناشيد سليمان ثم نصا من نصوص يحيى فغايتي هي توجيه عقل القارىء نحو عقد مقارنات مباشرة أو غير مباشرة بين سمات النصّين . فعلى سبيل المثال يمكن للقارىء ملاحظة اللغة "الرعوية" في النصوص كلها وخصوصا في الفصل الرابع . فوصف ثديي – ومن المستحيل أن يستخدم يحيى مفردة "ثدي" لحبيبته بمعانيها الإطعامية والغذائية "الخشنة" – الحبيبة بأنهما خشفي ظبية (والخشف ولد الظبي أول ما يولد) هو وصف "ثقيل" بل مغثي أحيانا لكنه لا يتعارض مع ما كانت تميل إليه الحضارات القديمة من تفضيل وتصوير لنهدي الأنثى كبيرين تسيل منهما أنهار اللبن (لاحظ تماثيل عشتار). أما لغة يحيى في نصوصه فهي "متمدينة" إذا جاز الوصف .. رائقة وأنيقة، ناعمة وشعرية .   

ولو راجعت كل نصوص يحيى هذه : "مناديل من حرير الكلمات" بهدوء وتأمل عميق فسوف تجد أن الشاعر لم يوظّف أو "يضمّن" أي فصل أو فقرة أو صورة من فقرات نشيد الأناشيد في قصيدته الطويلة هذه لأنه وببساطة لا يهمه شعريا وليس ضمن مرتكزات ثقافته . لقد كان التضمين الطاغي والجارف بصورتيه الصريحة الإقتباسية النصّية أو الإشارية الغير مباشرة هو من الموروث الإسلامي : القرآني أولا والأحاديث النبوية ثانيا ورموز ومقولات شخصيات إسلامية أخرى ثالثا . وقد ذكر الناقد المجيد الدكتور "عبد الرضا علي" عددا وافيا من الشواهد على ذلك في مقالته "نشيد الإنشاد الذي ليحيى السماوي" .

لكن الكثير من النقاد ممن تصدوا لدراسة منجز يحيى أغفلوا الناحية الأكثر جوهرية في سمة "التضمين" لديه والتي ترتبط بالناحية النفسية والتي تتمثل في السمة "التحرّشية" التي مازال يحيى مثابرا عليها بإصرار عزوم وبلا هوادة منذ نصوصه الأولى وأنضجها عبر ممارسته الإبداعية الطويلة في نصوصه العمودية والتفعيلية والنثرية . ويعجب المرء لمن يحاولون أن ينيطوا بالشعراء دور الانبياء أو فعل النبوة في بناء الحياة والتعامل مع معضلات الوجود ناسين أن الله نفسه قد حذّر من الشعراء (راجع خاتمة سورة الشعراء) أولا، وأن العملية الشعرية – ثانيا - هي عملية "شيطانية" في روحها ؛ وفي التعامل مع اللغة وإنشاء الصور وقلب العلاقات الرتيبة بل تخريبها. والبشرية ليست في حاجة إلى أنبياء في هذا العالم الجائر الآن خصوصا وأن النبوة قد خُتمت وأقفلت أبوابها .

.. وإلى الحلقة المقبلة سيدي القارىء .

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2165 الخميس 28/ 06 / 2012)


في المثقف اليوم