قضايا وآراء

تأثيرات هندو- بوذية في الفلسفة الصوفية (5) / خالد جواد شبيل

وأفرد له الصدارة في الكتاب المقدس في البوذية " تراي بيتكا" أي السلال الثلاث، حيث خصصت السلة الإولى له، ولأن هناك تشابه بين هذا النظام ونظام الصوفية فلا بد من الوقوف على ذلك بإيجاز. Vinaya

بارباشاBarphasha بين الرهبنة البوذية والمسيحية والصوفية: يطلق على الرهبنة في البوذية وفي البالية تعني الزهد أو الإعتزال التام عن البيوت والمساكن والاسواق والسكن في صوامع تابعة للمعابد، أو منتشرة في الغابات والوهاد، وتعريف الرهبنة هو الإمتناع عن جميع الرذائل والإعتزال عن الحياة المدنية والعيش بتقشف وتبتل(انقطاع عن الزواج أو اية معاشرة جنسية) وترك أي عمل آخر. إن الغرض الحقيقي للرهبنة هو الوصول الى نرفانا الفناء المطلق والخروج من دورة:الحياة- الموت... جدير بنا أن نسمع بوذا لنرى ماذا يقول نفسُه عن الرهبنة: أسلوب جليل من أساليب الحياة، لما فيها من تضحية شاقة، لايصلح لها كل إنسان، ولا يصل غايتها كل من سلك سبيلها، وسماها أسمى وظيفة للبشر، وأن أصحابها أسمى مراتب الناس.(راجع ترابيتكا-فينايا138عن بحث الدكتور نومسوك281). وهذا الفهم نفسه عند الصوفية الذين يصفون أنفسهم بالعارفين، أصحاب الحق، المنعزلين عن عامة الناس مع تشديدنا على اختلاف الغاية في كل مرة.

لم ترافق الرهبنة النصرانيةُ الديانةَ المسيحيةَ منذ النشئة، بل هي إضافة جديدة لها، ومن المرجح أنها جاءتها من البوذية التي سبقتها منذ نحو من خمسة قرون وحسنا فعل الباحث نومسوك عندما اهتم بهذا الجانب المعرفي القيم من بحثه (ص286). إذ نشأت الرهبنة النصرانية في مصر أولا في القرن الثالث الميلادي في الإسكندرية (راجع د. محمد جلال شرف ود.عبد الرحمن عيسوي336 سيكولوجية الحياة الروحية في المسيحية والإسلام، وأنور الجندي212 الأسلام والفلسفات القديمة، عن المبحث الثاني من بحث د. عبد الله مصطفى نومسوك286 وما يليها: البوذية وعقائدها وعلاقة الصوفية بها). وعن طريق الرهبان الأقباط تم نقلها الى إيطاليا وفرنسا. وأن أولى الأديرة في المسيحية بنيت في مصر (زكي شنودة214 تاريخ الأقباط، وسعيد عاشور130 تاريخ أوربا في العصور الوسطى). وقد مر الباحث نومسوك على حدث أظنه الأهم، لم يتوقف عنده كثيرا، وله دلالته في تأثيره في الصوفية، مما يدل على قدم هذا التأثير لا في الثقافة الشرق أوسطية بل وحتى اليونانية، فالبوذية انتشرت في القرن الثالث قبل الميلادي وشملت أصقاعا واسعة من فارس وما وراء النهر في امبراطورية آشوكا- مرّ ذكرها في أكثر من موضع- والتجارة كانت متواصلة مع مصر واليونان ولعل وجود تماثيل بوذا في باميان منذ القرن الرابع الميلادي (التي قصفتها حكومة طالبان) يثبت ما نقول، وهذا النوع من مادة الحجر الرملي التي ما كانت تعرفها اليونان بل انتقل اليها وملامح التأثير البوذي واضحة في في عام1842م جاءت إرسالية تبشيرية الى عاصمة التبت لهاساLhasaالفن اليوناني القديم. وعودة الى المهم: الواقعة على الهملايا، وقد دهشت البعثة عندما زارت بعض الأديرة البوذية ووجدت تشابها كبيرا في المراسيم البوذية وطقوسها المسيحية الكاثوليكية، لأنها شاهدت أيضا صولجان الأسقف وتاجه ورداء الكاهن على نفس الطريقة الكاثوليكية اللاتينية، كذلك وجدت صورة مماثلة في جوقتين للمنشدين في المكان المقدس والمبخرة المربوطة بخمس سلاسل، وحتى منح البركة للمصلين على جبينهم باليد اليمنى للكاهن. ومن يتصفح أقوال بوذا سيجد منها تشابها كبيرا من أقوال المسيح، وأن نصوصا من تراي بيتكا تشبه الى حد كبير نصوصا من الأناجيل...الخ. ولا شك أن الثقافة الأسلامية هي الأقرب جغرافيا وتاريخيا للثقافة الهندو بوذية، فهل سلمت ثقافتنا من هذه التأثيرات؟ أليس المباخر والمسبحات والتجسيدات والعطور والمآكل والمشاراب والتوابل حتى الأزياء والعمائم والترب والخواتم وحلى النساء بما في ذلك أقراط الأنف(الخزامة) والشموع وإطلاق اللوحات الحاملة للشموع في الأنهر ليلا(في تايلند) وسكب الماء وراء المسافر، ناهيك عن العمارة(من يدخل بيتا هنديا سيعجب للتشابه الكبير مع البيوت البغدادية حيث الشناشيل والدلكات والمحجرات والشبابيك والابواب ذات المسامير والبلاط والأقواس والسلالم الخ) والآلات الموسيقية والغناء، أليس هذا من الثقافة الآسيوية؟! نعم، هناك تأثيرات كبيرة بين الأديان من أقدمها الى الذي يليها، والمشترك بينها كبير بلا شك أيا كانت "سماوية أو أرضية وثنية أو توحيدية" إن هذه الحقيقة تفتح أفاقا للتفاهم والحوار السلمي والفهم الأفضل للآخر بدون تعصب ديني أو عرقي بل تنبذ بالضرورة العنف الطائفي- الديني الميقت.

الرهبان والمتصوفة أصحاب المرقعات : البهيكشو (سانسكريتية لا بالية كما زعم الباحث، البالية بيككو): وتطلق على المنخرطين في سلك الرهبنة "وفي التايلندية الحديثة يسمى ( فرا)" والملتزمين بقوانين فينايا ومنظومة الدهما التي تنظم حياتهم وطقوسهم وعلاقتهم الإجتماعية المنعزلة، وكذلك علاقتهم بالناس العاديين، ينخرط بالسلك من أتم العشرين ودون ذالك هم مبتدئون في طور الإعداد(نوفيس)، ومعنى بهيكشو أو بيككو هو المستجدي أو الشحاذ الذي يعتاش على الصدقات.والغرض من الرهبنة أن يخضع المنخرط الى نظام الدهما في التدرج حتي يبلغ الدرجة الأعلى هي الفناء كما مر آنفا. يلبس المنخرط الخرقة(كاسايا) ذات اللون البرتقالي في تايلند وكمبوديا ولاوس واللون الأحمر السماقي في كشمير والتبت والأرمادي أو الأسود في فيتنام وهي أرخص الملابس، ويحلق الرأس والحاجبان والشوارب واللحى... أما المتصوفة فقد كان الجيل الأول يلبس الملابس الصوفية وقد قال الهجويري:"إعلم إن لباس المرقعة شعار المتصوف"(كشف المحجوب1/254والبحث487) ويفضل اللون الأزرق لأنها أرفق للفقي كما فال السهرردي. وكلما يحدث فيها خرق يرتق برقع وهكذا تستمر الرقع وقد يظل المتصوف يلبس المرقعة سنين عددا ولا ينزعها الا عند الإغتسال، ويروي الهجويري عن شيخه" أنه لبس ثوبا واحدا لمدة ستة وخمسين عاما، وكان يضع عليه رقعا بدون تكلف"(الكشف1/56) ولا شك أن في الأمر مبالغة، وهذا يشبه الى حد كبير الرهبان البوذيين الذين يلبوس الخرق البالية التي يتركها لهم الناس على الاشجار حتى تبلي ليلبسوها، ويعمد قسم منهم على غمر جسدة بالأطيان!وتجد هذا النوع من الرهبان أكثر إحتراما ويتبرك بهم الناس تماما كما أخبرنا عبد الرؤوف المناوي أن ابا يزيد البسطامي كان إذا رآه الناس يتمسحون بمرقعته فليم على ذلك فقال"هم لا يتبركون بي وإنما خلعة ربي التي خلعها عليّ"(الكواكب الدرية1/ 245 البحث491) وكم يذكرني هذا القول بقول الخليفة الثالث عندما انتفض عليه أهل مصر مطالبينه بالتنازل فقال: كيف أخلع رداء سربلينه الله؟! مع الفارق بين رداء البسطامي المرقع ورداء الخليفة لكن كليهماء(الردائين) نسبا لله!!! كان الصوفية ترى في زهد المظهر غنى يقربهم من الله: يحكي أن رجلا صادف إبراهيم بن أدهم فرق له وهو في ملبس الصوف المرقعة فسأله: خذ جبتي هذه فلدي وأحدة أخرى، فأجابه إبراهيم سائلا: هل أنت غني؟ قال الرجل: نعم أم لك ألف درهم، فسألل أبراهيم: أتود أن يصبح الألف الفين؟ فأجاب الرجل ملهوفا: نعم، فرد إبراهيم: أنت فقير إذن خذ جبتك!! وبالجملة أن لبس الخرقة عند البوذية أو الصوفية لسببين للتميز ودلالة على الزهد والسمو...

والتسول عند البهيكشو هو المصدر الوحيد للعيش حيث يخرج الراهب كل صباح يحمل خابيته وقد يستعين بمعين متطوع لحمل سطل يحمل ما يفيض من حجم الخابية، يدور بخابيته حافي القدمين متلفعا بردائه صامتا يمشي خطى متزنة يقف في مكان مرئي للناس ينظر الى الأرض يتقدم منه المانحُ يحمل بيديه شيئا من الطعام أو مبلغا في مظروف فيمد الراهبُ الخابية قليلا دلالة على الموافقة يتقدم المانحُ يخلع حذائه ويحيه بصلاة بوذا ويضع الشيء في الخابية ويتراجع منحنيا ويقف فيتلو الراهب دعاء قصيرا ثم يحيي المانحُ الراهبُ ومضي الى شأنه. عملية التسول نفسها لكن الصوفي يطلب وذل نفسه ويعتبر الإذال يرفع منزلته عند الله، قال السهروردي:" أن بعضهم رأى النوري* يمد يده ويسأل الناس، قال فاستعظمت ذلك منه، واستقبحته له فأتيت الجنيد وأخبرته، فقال لي: لايعظم هذا عليك، فإن النوري لم يسأل الناس إلا ليعطيَهم سؤلهم في الآخرة"(عوارف المعارف 102 عن الباحث511 وما بعدها) ، والمبدأ في فلسفة التسول واحد ففي البوذية يعين المعطيعلى نيل الثواب وينسحب هذا على تعزيز مبدأ الرحمة حتى على الحيوان الذي يحظى بإطعام المشفقين له من الناس، ويرى أن التسول رياضة نفسية تسمو بصاحبها،وكل هذا مباديء مشتركة.

 

.....................

*هو أبو الحسن أحمد بن محمد النوري، والمعروف بابن البغوي، ولد ونشأ في بغداد وأصله كمعظم الصوفية من خراسان، من أقران الجنيد ت295.(الرسالة القشيرية1/123، وكشف المحجوب1/242).

-للموضوع صلة-

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2166 الجمعة 29/ 06 / 2012)

في المثقف اليوم