قضايا وآراء

يحيى السماوي .. البساطة المُربكة (2) / حسين سرمك حسن

(يراد من الشاعر حسن الكلام والصدق يراد من الأنبياء)

(أحد الفلاسفة)

 

سيّدي القارىء:

يهمني أن أقول أن الكثير من النقاد ممن تصدّوا لدراسة منجز يحيى السماوي أغفلوا الناحية الأكثر جوهرية في سمة "التضمين"/ الإقتباس لديه، والتي ترتبط بالناحية النفسية، والتي تتمثل في السمة "التحرّشية" التي مازال يحيى مثابرا عليها بإصرار عزوم وبلا هوادة منذ نصوصه الأولى، وأنضجها عبر ممارسته الإبداعية الطويلة في نصوصه العمودية والتفعيلية والنثرية . ويعجب المرء لمن يحاولون أن ينيطوا بالشعراء دور الانبياء أو فعل النبوة في بناء الحياة والتعامل مع معضلات الوجود ناسين أن الله نفسه قد حذّر من الشعراء (راجع خاتمة سورة الشعراء) أولا، وأن العملية الشعرية – ثانيا - هي عملية "شيطانية" في روحها ؛ وفي التعامل مع اللغة وإنشاء الصور وقلب العلاقات الرتيبة بل تخريبها. والبشرية ليست في حاجة إلى أنبياء في هذا العالم الجائر الآن خصوصا وأن النبوة قد خُتمت وأقفلت أبوابها .

إن كل آية قرآنية أو حديث نبوي وكل موقف ديني يقتبسه يحيى يقوم بـ "قلبه على بطانته" كما يذكر التعبير العامي .

ولو كان يحيى يستعير الفكرة أو الصورة أو الموعظة الدينية ويوظّفها كما هي فسوف تنتهي العملية الشعرية لديه أولا، ويتحوّل النص الشعري إلى نص ديني مسخ ملحق بالنص الأصلي ولن يكون أفضل منه باي حال من الأحوال ثانيا . ثم أن الشاعر ليس معنيّا بالخير والصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . هذا شغل رجال الدين الذين لا يريد يحيى – ولن يستطيع مهما حاول – منافستهم في شغلهم . كما أنه يدرك أن هذا خارج محيط دائرة انهماماته الشعرية، وليست من واجبات الشعر اصلا . وقد تساءل الدكتور "طه حسين" ذات مرة قائلا:

"هل يستطيع الفن أن يتخذ الشر موضوعا ويستخلص منه صورا فنية جميلة؟ وبعبارة أدق وأوضح: هل في الشر جمال يصلح موضوعا للفن؟ "               

وأعتقد أن "طه" يتوسم في ذلك خطى "الأصمعي" في مقولته الأصل هائلة الخطورة التي طرحها قبل قرون وهي:

"الشعر نكد، بابه الشر، فإذا دخل في الخير ضعف"، وفي رواية أخرى  "لان".

ولنبدأ الآن بالإقتباسات "البسيطة" . ولابد أن نشير أولا إلى الطريقة التي يمزّق بها بعض النقّاد النصوص فيربكون معناها ويقلبونه ويشوهونه من خلال الإجتزاء وتقطيع جسد المعنى الكلي وتجعلنا نقف في موضع "ولا تقربوا الصلاة" ولكن من مقترب مغاير . يقول يحيى في المقطع العاشر:

(....

أين أولّي أحداقي

فثمة وجهك

......)

وهو تعبير مقتبس من الآية 115 من سورة البقرة:

(ولله المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه الله إن الله واسع عليم)

وهو – بهذه الطريقة التقطيعية الجائرة – اقتباس "برىء" جدا يرى فيه الشاعر وجه حبيبته أينما ولّى أحداقه . لكن من الواضح أن يحيى قد جعل وجه حبيبته في منزلة وجه "إله" من ناحية سمات حضوره الساحقة وامتداده من المشرق إلى المغرب ومحاصرة هذا الحضور الملذ لحركة أحداقه العطشى المغمورة حتى الإختناق المنعش بهذا الحضور .

لكن كيف وصل الشاعر إلى هذا الموقف "البسيط" القائم على هذا الإقتباس القرآني "البسيط" أيضا؟

لقد وصله عبر طريق أكثر "بساطة" يتمثل في مدخل هذا المفتتح الإستهلالي للنص الذي قال فيه:

(أنتِ لست ِ "روما"

فلماذا طرقي كلّها

تؤدي إليك ِ؟)

وهو تساؤل يقوم على أساس المثل الروماني المعروف "كل الطرق تؤدي إلى روما" . وما تلاعب به الشاعر هو أنه سمى بموقع محبوبته لتصبح مركزا أعظم اهمية من "روما" . فإذا كان الروم قد فتحوا الطرق بعملهم وإرادتهم ليجعلوا مدينتهم عاصمة للعالم هي المحاطة بالأراضي الوعرة والصخرية (وهذا هو أصل المثل)، فإن يحيى مدوّخ في معرفة لماذا تقوده كل الطرق إلى حبيبته . هو تمهيد يوصله ويوصلنا إلى نتيجة لا مفر منها وهي أنه أينما ولّى أحداقه فثمة وجهها . ولكن قيمة التساؤل ومبعث دهشته تكمن في طبيعته المحيّرة التي تشي باسباب ملغزة اعظم من اسباب وصول الطرق إلى روما .

ولكن كيف ختم الشاعر – وهذا هو بيت القصيد الأهم –  مسيرة الطرق المغلقة هذه؟ وإلى أي محطة انتقل من محطة الإقتباس القرآني "البسيطة" هذه؟

يختم يحيى نصّه هذا بهذه الوقفة "التفسيرية" التي سنقدمها على مرحلتين لأهميتها الدلالية:

(ياسمين رجولتي لا يضوع شبقا

           إلّا

لفراشات أنوثتك ِ ..)

الآن فهمنا ولو جزئيا سرّ هذا "الإنجذاب" القدري إلى وجه الحبيبة وحضورها المتحكّم . إنه الرغبة الجنسية العارمة ممثلة برمز الذكورة المستعار من حقل تعبيري أنثوي اصلا: الياسمين وهو أمر ليس غريبا كما سنرى في مجال معالجة السمة الرمزية لهذه النصوص، ورمز الأنوثة: الفراشات . وللواقع فهي رموز "جزئية" كي يكون التعبير أكثر دقّة، لأن يحيى فضح شرط "المضمر" الذي لا يكون الرمز من دونه رمزا وخرقه، فقد أسند مفردة "الرجولة" إلى الياسمين ولفظة "الأنوثة" إلى الفراشات، فأجهض بذلك اللعبة الرمزية الأخاذة . إذن هي طرق "الجسد" الملتهب رغبة وجموحا .. ياسمين الرجولة الباحث بلهفة عن الإلتحام بفراشاته توقا للإشباع . الجسد وليس وجه الآلهة – وبهذا تكتمل السمة التحرّشية - هو الذي يجذب كل طرق يحيى، ويشد أحداقه نحو مركز واحد أحد هو "روماه" دون أن يكون روما .. هو اعظم من روما وأجلّ بالنسبة إليه .. هو قدس اقداسه ونشيد أناشيده .

لكن هل نسى يحيى كيف بدأ؟

يحيى يدرك – وقد أخذ الكتاب الشعري بقوة – أن على الشاعر أن لا ينسى، وأن عليه أن يوفر "وحدة" لنصّه مهما كان قصيرا . وهذه مهمة المرحلة الثانية من الوقفة الختامية لهذا المقطع:

(الحبّ ليس أعمى

فهو الذي دلّني

عليك) .

وهنا اتضح سرّ (أنتِ لستِ روما ..) ولغز (أين أولّي أحداقي فثمة وجهك) . إنه قدر الحب الذي خطأ – كما يرى يحيى - تصفه الحكمة الشعبية – وبقصدية عالية – أنه أعمى في مثلها الدارج "الحب أعمى" . إنه وقد غيّبت التقاطة بصيرته ووعيه الظاهر شحنات غريزته وشوقه العارمة إلى جسد محبوبته لم يكن يدرك – ليوهمنا بشيطنة دور الشاعر – في البداية أي حفزة هي التي تجعله يصل إلى وجه حبيبته/ جسدها أينما ولّى وجه طرقه وسبل أحداقه ودروب وروحه . إن طرق الفراشات تنجذب بقوة فيزيائية لا ترد إلى الياسمين .. فهناك حضن نمائها وازدهارها وإشباعها الوحيد . ولا أعلم – بعد هذه الوقفة مع هذا النص والوقفات المستقبلية مع النصوص الأخرى - عن أي "صوفية" مزعومة تحدث بعض النقاد وهم يدرسون نصوص يحيى هذه؟! (سنطرق على هذا الزعم السريع والسطحي أكثر من مرة) .

 

وقفة:

.. وارتباطا بسمة "القصدية" لدى يحيى وهي من سماته الأسلوبية المركزية، ولا "حداثة" في الرؤية الشعرية من دونها نقول أن السماوي قد اعتاد – متعمدا وقاصدا بصورة مسبقة ومخططة – على أن يعالج الموضوعة الواحدة ؛ فكرة أو صورة أو رمزا وحتى مفردة – أكثر من مرة . ففوق انه يقلّبها على وجوهها المختلفة معتصرا ثمالتها الدلالية والجمالية، فإنه يعبّر عن سعي حاد لتعزيز وحدة نصوصه في زمن صارت النصوص النثرية صورا منضدة بعضها فوق بعض فصار يُعاب عليها ما كانت تعيبه على القصيدة العمودية من أنها عبارة عن أبيات منضدة الواحد فوق الآخر ! .

لقد استثمر يحيى موضوعة "روما" والطرق التي تؤدي إليها في هذا المقطع العاشر، وها هو يعود إلى روما في المقطع السابع عشر حيث يقول:

(أنتِ لستِ "نيرون"

وأنا لستُ "روما"

فهل من وسيلةٍ غير إحراقي

لإذابة جليد ظنونك؟) .

إنها طبيعة التجاذب "القدرية" والحتمية نفسها التي تسم علاقته بحبيبته المتجبّرة . فكل طرق مصيره أو مصائره تنتهي عند يديها . وقد صار "طريق" إحراقه حبّاً أمرا مفروغا منه يحاول عبثا الخلاص منه . وما يزيد الأمر مأساوية هو هذه "الرهافة" التي صارت تسم وجوده وتجعل أمر حرقه دافعا إلى الرثاء المحبب:

(طاعنٌ بالشوق ِ

وأنا في مقتبل العشق ِ

أما تقرئين َ دموع قلبي؟

قلمي عيني الثالثة !) .

وستجد - سيّدي القارىء - أن هذه الأزواج المتقابلة المتضادة التي تصعّد جمال الصورة الشعرية الباذخ مثل " طاعن" و "مقتبل" في هذا المقطع، هي ليست من خصائص هذه النصوص "مناديل من حرير الكلمات" حسب، بل من سمات يحيى الأسلوبية في منجزه الشعري بأكمله (وكاد أقول إن حتى حياته العملية والنفسية محكومة بهذا التضاد الخلاق والحارق لولا أننا سنبتعد عن مجالنا التحليلي النقدي) .

كما ستجد أن هذا اللعب الأخّاذ على الحواس في "تراسلها" وتبادل أدوارها الخلّاق سمة اسلوبية أخرى . فالعين "تكتب" والدموع خطوط كتابة والقلم يصوّر .. وهكذا .

وما يميّز موقف يحيى في علاقته بموضوعات حبّه عموما هو هذه المراوحة السادومازوخية التي تُضفي على العلاقة المتقلبة "طعما" ومذاقا صراعيا له رائحة دخان الإحتراق المتطاول والمتكرر:

(أنا ثابت كالرصيف

فلا تكوني متحركة

كخطى السابلة) .

 

عودة إلى السمة التحرّشية:

.. أمّا المقطع التاسع والعشرين، ومازلنا نقف على عتبة الإقتباسات "البسيطة"، فيستهله يحيى بالقول:

(الساعةُ آتية لا ريب فيها)

فهي اقتباس إشاري وليس صريحا من الآية السابعة من سورة الحج:

(وإنّ الساعةَ آتيةُ لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور)

وأعتقد أننا هنا أمام اقتباس صريح وليس إشاريا ..

أو من الآية التاسعة والخمسين من سورة غافر:

(إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)

وقرآنيا فإن الدلالة المقصودة بالساعة هي ساعة الحساب الرهيبة التي تجعل زلزلتها العظيمة كل مُرضعة تُذهل عمّا أرضعت وتضع كل ذات حملٍ حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى كما تقول الآيتان الأولى والثانية من السورة نفسها . ولكن ما هي ساعة يحيى حتمية المجىء؟:

(الساعة آتية لاريب فيها

ساعةَ أحدو بقوافل سحبك ِ

نحو صحاراي ..)

ومن دون الفهم العميق والإمساك الجسور بالمعاني الجنسية للاستخدامات الرمزية من وجهة نظر الأسطورة والتحليل النفسي على حدّ سواء – والأولى هي التي وفّرت المدخل الصحيح لتفسيرات الثاني - لن نستطيع الإحاطة الوافية والشافية بمقدار وطبيعة الروح التحرّشية لدى الشاعر . هذا ما سنراه قريبا ولنتفق على البقاء عند مهمة الإقتباس بنوعه "البسيط" في الوقت الحاضر .       

هذه الساعة التي لا ريب فيها هي ساعة إرتواء صحارى الروح المُجدبة بفعل دفق سحب الأنوثة المُخصب (وليس عبثا أن تسبق الآية المقصودة إشارات إلى قدرة الله جلّ وعلا على إحياء الأرض يعد موتها) . هي في الواقع ساعة "إلتحام" بين مكونات ذكورية وأنثوية تُفضي إلى الخضرة والنماء والتفتّح . هي لحظة ارتعاشة تٌربك يقظة الشاعر النقدية في رسم تجانس الأدوات المستعملة فتصبح عصا الربيع الخضراء الرخوة والهشة الوسيلة التي ينشّ بها ذئاب الخريف:

(بعصا ربيعك ِ

أنشّ عن حقولي

ذئاب الخريف) .

وهذه الساعة هي الساعة التي أبحرت فيها سفينة نوح المباركة تحمل من كل زوجين إثنين . ولا يتردّد يحيى في التلعب بمعنى "الزوجين" فيحيلهما إلى وجه المعشوقة:

(أسفينة نوح وجهك ِ؟

فيه زوجانِ

من كلّ ميسمٍ وتويجة !) .

لكن هناك اقتباساتٍ أكثر عمقاً وتحرّشية ..

.. فإلى الحلقة المقبلة سيّدي القارىء .   

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2169 الأثنين 02/ 07 / 2012)

في المثقف اليوم