قضايا وآراء

يحيى السماوي .. البساطة المُربكة (3) / حسين سرمك حسن

(فأنا شُعيْبُك

إذن فاجعليني كليمك ِ

لأؤجرك ِ العمرَ كلّه)

وهو اقتباس إشاري من القرآن الكريم ، من الآية 26 من سورة القصص:

(قالت إحداهما يا أبت ِ استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين)

لكن هذا الرأي هو جزء من سياسة "التقطيع" التي تشوّه النص وتمسخه . فهذا القول في القصة القرآنية هو لإحدى الأختين اللتين ساعدهما موسى "عليه السلام" في الحصول على الماء وسط صخب وزحام الرعاء ، وهو "مقترح" منها قدمته لأبيها الشيخ الكبير كي يجزي موسى على موقفه المشرف . لكن أين معنى التضمين ، وما هي وظيفة هذا الإقتباس في النص ؟

إذا اكتفينا بهذه الإشارة فقط سنقع في ربكة وتشوش تفسيري ، إذ ما علاقة "شعيبكِ" بـ "كليمكِ" ؟

لنمشي – سيّدي القارىء - مع يحيى خطوة خطوة . لكن ليس على الطريقة "الكيسنجرية" المقيتة، فنقول ابتداءً أن يحيى استهلّ هذا المقطع بالقول:

(التفّاحة المحرمة

طردت "آدم" من جنّته)

وهو تقرير حال معروف حيث أن جدّنا آدم طُرد من الفردوس بسبب تناوله التفّاحة التي حرّمها الله عليه . لكن الشيطنة الشعرية تكمن في المستتر اللائب، فليست التفاحة هي جهة الطرد بل الإرادة الإلهية .. إن التفاحة هي جهة "التوريط" وأداته . أمّا الإغواء والإستدراج فقد تم على يدي حواء المباركتين . حوّاء هي التفّاحة والتّفاحة هي حوّاء . وهنا ينهض شيطان الشعر بكماله البهي ليقلب الأمور المسلم بها عاليها سافلها حين يخاطب يحيى حبيبته/ تفّاحته قائلا:

(أنتِ أدخلتني آلاف الجنّات ِ

أأنا "آدم" الجديدُ

يا تفّاحتي ؟)

حوّاء يحيى / تفّاحته ليست سببا للعنة الشقاء التي حلّت بأبينا وبنا من بعده، ولا هي مفتاح الخطيئة التي نعاني من أعبائها اللذيذة حتى يومنا هذا . هي النقيض تماما . فإذا كانت حواء التفاحة القديمة قد تسببت في طرد "آدم القديم" من جنة وحيدة، فإن التفاحة الجديدة أدخلت "آدم الجديد" آلاف الجنّات . وما آدم الجديد سوى يحيى السماوي .

إن الشعر – بروحه التعرضي الجسور – يقلب أسطورة الخطيئة على بطانتها، ويرسم لها مسارات مضادة للمسارات التي رسمتها الآلهة . إن التفاحة القديمة كانت مغوية ومورّطة ومدمّرة سابقا من ناحية النتائج التي ترتبت على الإشباع الغريزي الذي تم بخلاف ما اقتضته الإرادة الإلهية . لكن التفاحة الجديدة، تفّاحة يحيى، صارت أداة إشباع مسرّ أوصل إلى أعظم النتائج متمثلة في الظفر بآلاف الفراديس . لكن التفاحة الجديدة هي نفسها القديمة: الأنثى المباركة حيث سرّ الحياة والنماء والتجدد ومعنى الألوهة الاصل الكامن . ولهذا لم يُسمَ يحيى التفاحة بقديمة أو جديدة . التفاحة هي نفسها، لكن الذي تغير من "قديم" إلى "جديد" هو آدم الرجل الذي طُرد من الفردوس لأنه قام بالفعل المتوقع والمشروع لكن المنهي عنه إلهيا . إن الرجل الأول، رجل الخطيئة، وحسب تأويلنا لرؤيا يحيى هذه، هو كائن سلبي اقتنع فورا بأنه إنما ارتكب – بمواقعته امرأته تحت عيني الآلهة الراصدتين – إثما لا يُغتفر فغادر مدحورا مذموما . أما رجل يحيى فهو يقوم بالفعل بكل بساطة وتلقائية آلاف المرات لينعم بآلاف الجنّات . والفضل في ذلك لحواء . الىلهة تخاف من الأنثى لأنها خالقة . هي أنموذج الآلهة الأول، وليس عبثا ان أول إله عبد في أرض الحضارة الأولى سومر كان امرأة وكان أنموذج العبادة في المعابد هو تمثال لفرجها الكريم . وأعظم ما في هذه الأنثى الآن هو أنها مازالت تقوم بدورها الكوني المبارك مع سبق الإصرار والترصّد على الرغم من كل المحظورات والتحذيرات السماوية منعمة على الرجل البكّاء بالنعيم المفقود ولكن بصورة دائمة ومتكرّرة الآن . وهذا الرجل – وهذه علامة على سلبيته – مازال يلوذ بظلال الآلهة الساخطة فيشبّه نفسه الآن بـ "شعيب" النبي:

("شُعيبٌ" أعمى عينيه البكاء شوقا لله

حبّك أعمى قلبي فما عاد يرى إلّاك)

ولاحظ جسامة المقارنة التحرّشية عبر طرفي الصورة .

ولأنّ الحب بالنسبة ليحيى ليس أعمى كما أعلن في المقطع العاشر الذي حللناه سابقا، فإنه يعرف طريقا واحدا وحيدا لا يوصل إلا إلى الحبيبة، وهذا نوع من "العمى النفسي – psychological blindness"، وهذا ما تقصده الحكمة الشعبية الباهرة حين تقول "الحب أعمى" .

والآن تتضح جوانب من معاني هذا الإقتباس المربكة المتمثلة في فعل "العمى حبّا" بالمعشوقة الذي اسّسه يحيى على غرار أنموذج "العمى إيمانا" بالله .

ولم يحاول بعض النقاد الغوص عميقا في تحليل نص يحيى القصير والمركّب هذا لضعف في ثقافتهم الدينية أو لتسرّعهم – وهو التسرّع نفسه الذي جعلهم يفترضون سفر نشيد أناشيد سليمان مرجعا لنصوص يحيى – والتسرّع من امراض الثقافة العراقية عموما والنقد العراقي خصوصا، ليكتشفوا ببساطة إقتباسا آخر إشاريا من حديث نبوي شريف لرسول الله عن شعيب وذلك حين قال:

(عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: بكى شعيب عليه السلام من حب الله عزوجل حتى عمي، فرد الله عزو جل عليه بصره، ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره، فلما كانت الرابعة أوحى الله إليه: ياشعيب إلى متى يكون هذا ؟ أبدا منك ؟ إن يكن هذا خوفا من النار فقد آجرتك، وإن يكن شوقا إلى الجنة فقد أبحتك ; فقال: إلهي وسيدي أنت تعلم أنى مابكيت خوفا من نارك، ولا شوقا إلى جنتك، ولكن عقد حبك على قلبي فلست أصبر أو أراك، فأوحى الله جل جلاله إليه: أما إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا ساخدمك كليمي موسى بن عمران) .

وهكذا يحلّ يحيى السماوي وببراعة ساحرة سرّ هذه النقلة الغريبة نسبيا للقارىء العادي من "شعيبك ِ" إلى "كليمك ِ" ويكشف البعد الشاسع لدلالة كونه "كليما" لمحبوبته يؤجرها عمره كلّه. لقد قلب الأدوار بمكر مدوّخ وعقّد سلسلة العلاقات بروح شيطاني لعوب:

(فأنا شُعيبكِ

إذن، فاجعليني كليمك ِ

لأؤجرك ِ العمر َ كلّه)

وقد تكون هناك وشيجة لاشعورية أخرى قد انسربت من مخزون ذاكرة يحيى الدينية الثرة بين شعيب والكليم لأن الأول كان يُلقّب في المصادر الدينية بأنه "خطيب الأنبياء" لفصاحته وحلاوة عبارته وبلاغته بخلاف نبي الله موسى الكليم المصاب بداء "التأتأة" .

 

وقفة:

قبل هذا المقطع الثاني والستين كان يحيى قد عالج موضوعة "التفّاحة المحرمة" في المقطع السادس والعشرين:

(سأرضى

من زهور ياسمين صدرك ِ:

برائحة القميص ..

من شفتيكِ:

بالهديل ..

من فضّة جيدكِ:

بالندى ..

من ساقيكِ:

بعزفهما على الرصيف ..

من عينيكِ:

بفضلة كُحل الأجفان ..

من خصرك ِ:

بشمّ وردة السرّة

ومن جنّتك ِ:

بعطر التفّاحة المحرّمة)

حيث تلاحظ تنامي الجسارة في "القطف" التي تتصاعد من رائحة القميص رمزا لزهور الصدر إلى عطر تفّاحة الجنة المحرّمة تعبيرا عن قضم تفاحة الجسد الأنثوي بأكملها . ثم يتحدثون عن النزوع المتأبّد لدى يحيى "المسكين" إلى الحب الصوفي والروحاني ! .

 

عودة:

.. وفي المقطع الخامس والستين يقتبس يحيى إشاريا من الآية 180 من سورة الأعراف:

(ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يُلحدون في اسمائه سيُجزون ما كانوا يعلمون)

أو من الآية 110 من سورة الإسراء مادام التعبير المقتبس هو "الأسماء الحسنى" فقط:

(قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً)

حيث يختتم الشاعر هذا المقطع بالقول:

(أنت ِ أسمائي الحسنى

بعشبك ِ

سترتُ عورة صحاراي)

تصبح المعشوقة هنا أسماء يحيى الحسنى التي يُعرف بها وتُحدد من خلالها خصائصه وصفاته الخارقة والمتعالية . وطبعا هذا الإحساس يتم بالتداعي وبالارتباط الشرطي في الوقت ذاته الذي ينبثق في أذهاننا وفق ما نختزنه في ذاكرتنا ووجداننا من معان ترتبط بتعبير "الأسماء الحسنى" . لكن سيتضح بعد قليل أن في الأمر "لعبة" مخاتلة وأن الأسماء الحسنى لا تعود إلى الشاعر .

ولكن كيف وصل الشاعر إلى هذه "النتيجة" النهائية التي يعتبر فيها حبيبته أسماءه الحسنى وأن عشبها ستر عورة صحاراه ؟

لقد وصل إليها عبر خطوة سنعود إليها بطريقة "تراجعية" وليس وفق الطريقة "التقدمية" التي اتبعناها مع النصوص السابقة:

(أكانت أشجاري ستُثقل بالعناقيد

لولا عبوديتها لنهرك ؟) .

أي أن دور القوة المحيية أو "الإسم" المحيي يتصل بالحبيبة الأنثى في فعلها الخصبي الإنقاذي – هذا يعيدنا إلى الخطأ الذي وقع فيه الباحثون الإسطوريون بعدّهم دوموزي الإله البكّاء هو إله الخصب والمنقذ – فهي قوة الخصب والإنبعاث التي جعلت اشجار عمر الشاعر اليابسة الجرداء تثقل بالعناقيد والثمر . وهذا "ثواب" يكافىء إيمانه بنهرها وعبوديته لها .

ووصل إلى هذه الحقيقة من خلال خطوة "تمهيدية" أفصح فيها بلا تردد عن إيمانه بقوة اسمها وفعله المُعجز:

(إسمك مُعجز

كيفَ محا جميع الأسماء

من "سبّورة" ذاكرتي)

وقد جاء إقحام مفردة "سبّورة" مُضعفا لحدّة الصورة وتماسكها، صورة خُطط لها كي تكون تعبيرا متعاليا وساميا لا تشوبه مصطلحات أرضية، ومؤثرا على موضوعة "الأسماء الحسنى" اللاحقة . لقد استولى اسم المعشوقة على ساحة الأسماء في ذاكرته وتسيّد، ولم يبق إلا هو . وفقدان القدرة على التسمية يعني فقدان الوجود وضياعه، فالإنسان "إسم"، ولم يكن ممكنا أن تبدأ عملية الخلق من الله سبحانه وتعالى إلا بالتسمية . والإسم الذي يمحو كل الأسماء هو الإسم الخالق والماحق، هو سيّد الأسماء الحُسنى . وها هو اسم الحبيبة، وبعد أن تربّع على عرش الأسماء يجعل حنجرة الشاعر وهي إداة إصدار تلك الاسماء – أداة فقط لأن الإسم يُصاغ في ظلمات اللاشعور و"يُخرج" في الشعور و"تُصوّت" خصائصه في الحنجرة -، عارية مستباحة له حسب فقد جرّدها من أعظم مصادر قوّتها وهو تصويت "التسمية"، ومن دون التسمية يكون الإنسان حيوانا أبكم، فالإنسان ليس حيوانا ناطقا بهذا المعنى العام كما يقول الأخ أرسطو حسب، فهناك حيوانات تم تعليمها نطق الكلمات ولو بحدود، ولكنه حيوان لغوي "غائي" اي أنه "يُسمّي":

(حنجرتي عارية

إلّا

من ملاءته) .

وعليه فتعبير الأسماء الحسنى ينطوي على التباس في الظاهر قد يربك صاحب القراءة السريعة . فهو ليس ليحيى . الحبيبة هي "الأسماء الحسنى" المحيية المصوّرة الرافعة الخافضة المانحة القابضة .. وما الشاعر إلا "عبدها" الذي يتنعم بعطاياها الوارفة المنعمة .

ومن سمات يحيى السماوي الأسلوبية هو أنه لا يألوا جهدا في توفير "وصلات" ربط بين أجزاء جسد نصوصه ليجعل القارىء في حالة من الإحالات الدائمة ذهابا وإيابا إلى إشارات لغوية تترابط جناسيا أو طباقيا أو صوريا .. إلخ وهي الخاصية اليت تحفظ نصوصه من التفكك وهو الداء الأكبر الذي يقع فيه شعراء قصيدة النثر من الشباب خصوصا . وفي هذا المقطع القصير – مثلما هو الحال في المقاطع الأخرى – يوظّف الشاعر هذه الآلية فتجد "العري" يقابله "الستر" من ناحية وتتواشج معه "العورة" من ناحية أخرى . طبعا مع تنامي الدربة والممارسة – والشاعر كالرياضي عليه أن يتدرب يوميا قراءة أولا ثم كتابة ثانيا – تُصبح هذه السمة تلقائية بعيدة عن التخطيط "الهندسي" الذي يكتّف الفطرة الشعرية .

وقد يتهرّب بعض النقّاد "النباتيين" – والوصف للناقد "إيفريم كارانفيلوف" – من النصوص التوريطية ذات السمة التحرّشية الأعمق وكأن يحيى مجدّف ديني فعلي ينبغي أن نمسك نصوصه بملقط أو قفّاز . والمشكلة أن هؤلاء النقّاد الأشاوس هم أنفسهم أصحاب أعلى الأصوات الشرسة في مجال النقد الحداثوي وما بعد الحداثوي، وهذا يعكس جانبا من ازدواجية الناقد العراقي والعربي مستعيرين المصطلح الدقيق للعلامة الراحل علي الوردي .

في النص الرابع والعشرين يقتبس يحيى إشاريا من الآية الثانية عشرة من سورة "طه":

(إني أنا ربُك فاخلع نعليكَ إنك بالوادي المقدّس طُوى)

فيقول:

(حتى وهما مغمضتا الأنامل

نوارس يدي

لن تضلّا سواحل صدرك ِ

فاخلعي قميصك ِ

أنت ِ الآن

في الكوخ المقدّس)

وهو مخطط يخالف بنواياه المسمومة المضمون المتعارف السابق . فيحيى لا "يفتش" بل "يجد" – والتعبير لـ "بيكاسو" وهو يصف أوالية عملية الخلق عنده -، إن أنامل نوارسه لا تضل طريقها أبدا فهي راكزة وعليمة في معرفة أهدفها الكامنة على سواحل صدر الأنوثة البهي . وحسنا فعل الشاعر حين اختار طائر النورس الذي يُلقب – ويا للطرافة – بـ "قرصان البحر" ويدكّ رمل الشواطىء بقدميه وبصبر مثابر حتى يُخرج الكائنات المختبئة التي يطعم عليها . لكن الأهم هو مكان الطمأنينة ومناخ الأمن اللذان يتعهد بهما يحيى لتحقيق عملية الإلتحام . فالعري يبلغ ذروته المشروعة في الأماكن المقدسة كما كان عبّاد المعابد القدماء والبدائيين يفعلون متطهرين ومتخففين – وبالمناسبة حتى مراسم الحج الجاهلي في البيت الحرام كانت تجري على هذا المنوال - . وبتوفّر هذه الشروط تحصل اللحظة الفائقة المثلى التي يتحوّل فيها الجسد المغرم إلى نار ولهب لا إلى تراب .. إن أنموذج النار الذي "اخترعه" الإنسان إنما تكمن نواه العميقة في جمرات الغريزة المستعرة تحت رماد الجسد – راجع كتاب "النار" لغاستون باشلار - .. رماد لا تزيحه سوى أنامل شاعر قادرة على الإمساك بـ "جمرته" ليتصاعد الأنين المقدّس:

(أنين السرير:

غليان روحينا

في

مرجل العشق) .

لكن هناك اقتباسا أخرى لم يلتفت إليها من تناول نصوص يحيى هذه: "مناديل من حرير الكلمات" منها الغقتباس الإشاري الذي قام به الشاعر في النص الثالث والأربعين من بيت شهير للمتنبي:

أنام ملْ جفوني عن شواردها

ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ

وهذا البيت قاله أبو الطيب من ميميته العظيمة، آخر قصيدة قرأها بين يدي سيف الدولة قبل رحيله المرير والمُذل الأخير . يقول يحيى:

(تنامين ملْ عيونك ِ

عن شرودي

وأسهر الليل

ناصبا في براري وسادتي

فخاخ أحضاني

لعصافير الأحلام)

فيا لها من مقابلة انقلبت فيها الأدوار وصار الشاعر الذي كان نرجسيا منتقخا ومعاندا يقف في موقع الكسير الآسي على ضياع اعتباره الذاتي . لقد كان يطلق صيحاته الشعرية ثم يروح غارقا قي نوم عميق جدا ومشبع غير ملتفت لانشغالات الناس بشوارد تلك الصيحات المدوّخة الأخاذة . أما الآن فإن يحيى المتماهي به قد وجد سيف دولة من نوع مضاعف .. متجبّر ومتغاض عن آلام عاشقه . ينام آمنا مطمئنا والشاعر يتقلّب على حمرات "شروده" .. شوارد الحبيبة السيف هي التي صارت تشغل الشاعر وتشوّشه بإشارات لا يستطيع لها تفسيرا . لكنه يقضي ليله ساهرا أرقا في عمل مضن ومثمر نفسيا لأنه من "جنس" الشوارد . فمثلما كان الخلق يأرق ويختصم حول شوارد أشعاره، فإنه يسهر ناصبا فخاخ أجفانه في براري وسادته لتصيّد عصافير الأحلام التي قد تأتي حاملة طيف المعشوقة . فيا له من شغل معقّد ومربك لا يمكن أن ينجزه أي عالم في الدنيا على الإطلاق .. إنها تجارب تُجرى في مختبرات اللاشعور وعلى يدي شاعر .

لكن أفظع ما يُضني الشاعر العاشق (وكل عاشق هو شاعر) ويوغل في إحباطه هو "الصمت" .. الإحساس بأن نداءاته لا تُستقبل ولا تُستلم .. فالمعشوقة نائمة .. والنوم نوع من الصمت لغته الأحلام . هذا الأمر يحفز الشاعر إلى نوع مقابل من الصمت المُنتج وهو "الصبر" فتتقابل حالتان من الصمت المُعاند: واحدة في "الأعلى" حيث تتدثر الحبيبة الغافية بالغيوم، والأخرى في "الأسفل" حيث قلب الشاعر المتدثّر بالرمل على شواطيء الإنتظار، وقد يبست لهاته في انتظار المطر، أن تتمزق شرنقة الصمت وتلتفت الحبيبة النائمة ملء جفونها إلى شوارد الشاعر:

(صمتكِ لم يُتعبني

أنا الذي سأتعبك بصراخي

فتثدّري بغيومك ِ

لعل قلبي المتدثّر بالرمل

سيُعشب

حين تهطلين عليّ)

# أما في المقطع الخامس والسبعين فقد زاوج يحيى بين اقتباسين، الأول عن مقولة ماثورة لأم إبن حواري رسول الله (عبد الله بن الزبير) عندما قطع رأسه وصلبه الحجّاج الذي يراجع بعض المفكرين العرب منجزاته الثورية الآن، وظل أياما لا يجرؤ أحد على إنزال جسده عن خشبة الصليب، فجاءت أمه أسماء بنت أبي بكر ووقفت أمام جسد ولدها المصلوب وقالت: (أما آن لهذا الفارس أن يترجّل ؟!)، والثانية عن الآية التاسعة من سورة النجم:

(فكان قاب قوسين أو أدنى)

يقول يحيى:

(أما آن لأمطارك أن تترجل

عن سرج غيومها ؟

حقولي حرثتها بأضلاعي

والربيع قاب قبلتين أو أدنى)

ومن المهم أن نلفت انتباهة السادة القرّاء إلى أننا لا ننسى أبدا أن الشاعر – أي شاعر – من حقّه ان يبني أبياتا وصورا على "غرار" أبيات وصور شعراء سبقوه أو يُضمّن قصائده إشارات من مصادر مختلفة بضمنها الكتب المقدّسة من دون أن تكون ضمن غاياته المسبقة التحرّش بتلك المرجعيات . هذه الغايات نحكم عليها من خلال الوظيفة الجديدة للمقبوس والسياق الذي سوف يأتي ضمنه وطبيعة العلاقات الجديدة التي سينشئها الشاعر . فحين يقول عبد المؤمن الأصفهاني مثلا:

(لا تغرّنك َ من الظَلَمة كثرةُ الجيوش والأنصار "إنما نؤخّرُهم ليومٍ تشخصُ فيه الأبصار")

أو حين يقول سناء المُلك:

رحلوا فلستُ مسائلا عن دارهم

أنا "باخعٌ نفسي على آثارهم"

فإن المقبوسين القرآنيين المعروفين جاءا في السياق الدلالي والبنائي نفسه تقريبا بمعنى أن الظلمة مثل الكفرة في القرآن يؤخرون ليوم القارعة الذي لا تطرف فيه عين ابدا، وأن الشاعر سيقتل نفسه – مثل حال المُخاطب" في الآية الكريمة – همّا على آثار أحبته . لكن لاحظ أن سياق الإقتباس الأخير قد تغيّر حيث حل الأحبة محل الكفار ولكن ليس بالعلاقات المقابلة بل باستعارة دلالة الىية فقط .

أمّا يحيى فإنه يصمّم مسبقا وظيفة جديدة للمقبوس وفق سياق جديد وعلاقات جديدة، فبعد أن ساءل الحبيبة التي حلت محل المصلوب عن الأوان الذي سوف تترجّل فيه أمطارها عن سرج غيومها – وقد أحالنا بدقة إلى المقولة الأصل التي تتساءل عن "الفارس" من خلال مفردة "السرج" – فإنه يحثّها على أن توقظ:

(البيادر من سباتها

فالعصافير مصلوبة السقسقة)

أصبح الصلب شفيفا آسرا واعدا بالنماء والإنتعاش والحياة . وباستخدام مفردة "البيادر" يغلق يحيى تساؤله الأول الذي استهل به نصّه حين جاء مبعوثا من "البيادر" المثكولة:

(حقولي المُثكلة البيادر

بعثتني إليك ِ

حاملا بذور أبجديتي

متوسّلا حدائق كتفيك ِ أن تعلّمني

سرّ انفلاق الياسمين)

وبعد هذا التساؤل يأتي تساؤل آخر مكمّل لكنه يكشف جانبا من السمات الأسلوبية للشاعر:

(ما لي وحقولهنّ؟

عشبةٌ واحدةٌ منك ِ

تكفي لإغواء ينابيعي بالتدفّق)

وتمثل هذه السمة في القاموس اللغوي الذي أنشأه الشاعر لنصوصه هذه . وهو جزء من القاموس اللغوي العام الذي يشكل المورد الرئيس للشاعر ويضم المفردات التي تحضر فورا وتقفز من مخزون ذاكرته لتشكل المادة الأولّية للتعبير عن أفكاره صورا واستعارات . ولكل شاعر مبرز قاموس شعري لغوي . ولو تأملت هذه النصوص التي بين يديك سيّدي القارىء لوجدت أنها تشكل قاموسا لـ "فلّاح" شعري .. لسانه من لسان الطبيعة بكل مكونات الخصب فيها .. وهذه من عطايا الظلال الأنثوية اللاشعورية في الشخصية، تلك الظلال التي اشبعناها بحثا في كتابنا "سماويّات " عن الشاعر الذي صدر في العام الماضي بدمشق . وفي هذا النص الخامس والسبعين تجد ما يلخّص روح هذا القاموس من مفردات الخصب وفعل الطبيعة الذي يتضمن أيضا إيحاءات الفعل الجنسي وتمظهراته كما سنرى لاحقا: العشب، الحقل، البيدر، البذور، الحديقة، الإنفلاق، الياسمين، الينبوع، المطر، الغيوم، الحراثة، الربيع، العصافير .. وهذا في نص واحد معبّر .  

ولتوضيح الكيفية التي تتلاعب بها الوظيفة الجديدة والسياق الجديد والعلاقات الجديدة بالدلالات المؤسّسة في وجداننا ولاشعورنا الجمعي يبشّر يحيى ذاته بجنّات تجري من ..:

(وابشّرني بجنّات تجري من فوقها المواويل)

فما اعتدنا عليه قرآنيا هو أن الله يبشّر المؤمنين بجنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ابدا . ويتسق الفعل "تجري" مع طبيعة حركة "الأنهار" . لكن جنّات يحيى "تجري" من فوقها "المواويل" . كما أنه هو الذي "يبشّر" نفسه بهذا الثواب العظيم بعد أن جعلته معجزة الحبيبة "رسولا":

(أعيديه عصر معجزات ٍ

وكوني معجزتي لأغدو رسولك

أبشّر:

العانس بالأمومة

الأطفال بالأراجيح

العشّاق بالسفرجل

الصحارى بالكلأ)

ولاحظ أن إنسانية هذا الشاعر الرسول لا تبشّر العانس بالزواج بل بالأمومة في مداورة تطهرية ذكية وهو يعلم أن الأمومة تتضمن الجنس .

وليس غريبا أن يتوقف القارىء عند تبشير الشاعر الذي غدا رسولا "العشّاق بالسفرجل" وسيضع الكثير من علامات الاستفهام والتعجّب . ولا أعلم كم يحتفظ أرشيف ذاكرتنا الديني من أحاديث نبوية عن "السفرجل" وصلته بالرسل وبجمال الوجه والقوة الجنسية .. إلخ . لنقرأ: عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: كلوا السفر جل وتهادوه بينكم، فإنه يجلو البصر وينبت المودة في القلب . وأطعموه حبالاكم، فإنه يحسن أولادكم . عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: السفرجل قوة القلب وحياة الفؤاد ويشجع الجبان.  عن الصادق (عليه السلام) قال: من أكل السفرجل أجرى الله الحكمة على لسانه أربعين صباحا . وقال (عليه السلام): رائحة السفرجل رائحة الانبياء . قال (عليه السلام): من أكل السفرجل على الريق طاب ماؤه وحسن وجهه.  من كتاب الجامع لابي جعفر الأشعري، عنه (عليه السلام) قال: ما بعث الله نبيا قط إلا وفي يده سفرجلة أو بيده سفرجلة.
وقال (عليه السلام) أيضا: رائحة الانبياء رائحة السفرجل . ورائحة الحور العين الآس . ورائحة الملائكة الورد . وما بعث الله نبيّاً إلا أوجد منه ريح السفرجل .

 

وقفة تبشيرية أخرى:

في مقطع آخر هو المقطع الثالث والستون يعود يحيى إلى موضوعة الدور الرسولي التبشيري، واعدا العانس والأشرعة والتويجات ويومه بوعود جديدة، ومكررا – نصّاً - وعد الصحراء بالكلأ، ومشترطا تحقيقها بالإلتحام الجنسي الرمزي كما سنرى لاحقا:

(نازلاً في صعودي إليك ِ

إلى حيث تُقيم الفسيلة في جذورك ِ

مُبشّرا:

نهد العانس بالدُر

والصحارى بالكلأ

والأشرعة المشلولة بالريح

والتويجات بالمياسم

ويومي بغدك ِ

فافتحي مِكحلتك لمرودي

لتغدو أجفان الليل ِ

أبهى)

 

عودة لاستكمال الديانة الجديدة:

ولكي يستكمل عالم "الديانة" الجديدة ملامحه فإن الشاعر لا ينسى أن العدوانية سلاح أساس بيد الفضيلة على عكس الصورة المنزّهة السابقة:

(وانذر المارقين بالبرص واللعنة

وحفّأري القبور بتعلّم مهنة جديدة

مادام الموتُ

سينحسرُ

في مملكة العشق)

وكل هذا التحوّل لن يتم إلا إذا توفّرت – كما هو معروف – "معجزة" للشاعر كي يكون رسولا .. ومعجزة يحيى هي معشوقته !!، وهذا ما أكّده قبلا في المقطع الثاني والعشرين الذي أعلن في نهايته:

(لا حاجة بي للسير على الماء

حبّك ِ معجزتي

وكتابي هديلك)

إن معجزات يحيى وكتابه "أرضيّة" تغنيه عن اعادة إجتراح معجزات معروفة لمن جاءوا قبله . إنه – كما يفصح بجلاء شعري لا غموض فيه – في غنى عن "مستلزمات" النبوة المعروفة من عُزلة ووحي وآية أولى .. كلّ هذه "المستلزماتط نعرفها في الديانات السابقة . في "ديانة" يحيى تكون المستلزمات أرضية من طبيعتها: فالخدر هو الغار، والملاك هو "صوفائيل" .. أما آيته الأولى فتبدأ بالفعل "إعشق" .. هذه ديانة الحب التي أحوج إليها حياتنا الكسيحة الراهنة التي نخرها الكره والمقت والغل:

(خدرك ِ حرائي

فيهِ

تنزّل عليّ صوفائيل

هاتفاً:

إعشق ْ

باسم نخلة الله

في

بستان عينيك)

والشاعر هنا يقتبس إشاريا من الآية الأولى من سورة العلق:

(إقرأ باسم ربّك الذي خلق)

.. ثم يزاوج يحيى بين الإقتباس القرآني واستعادة النهايات المأساوية لبعض الرموز الإسلامية الصوفية الإشكالية ممثلة بـ "الحلّاج" وذلك في المقطع الثامن الذي يقول فيه:

(سأكون "الحلّاج الجديد"

طمعاً بسيفك ِ

فاشطريني نصفين ِ

ليعلّقني الهوى على جسر صدرك ِ)

وقد قُتل الحلاج بتهمة الزندقة والقرمطة شرّ قتلة، فقد قُطع رأسه ثم قُطعت يداه ورجلاه، وصُلب على جسر ببغداد على نهر دجلة .. وقتلة يحيى / الحلاج الجديد هي قتلة مقاربة حيث يُقطّع ليس بسيف جلاد صاحب شرطة بغداد ولكن بسيف الحبيبة . ويُصلب على أروع الجسور وهو جسر صدرها بعد أن يُشطر نصفين:

(نصفٌ فوق قبّته اليمنى

والثاني عند بقايا فمي

على ياقوتته اليسرى)

وهذا "الفداء" يحاول الشاعر إعطاءه مسحة قداسة يسيرة من خلال وصف النهد بـ "القبة" ذات الإيحاءات المعروفة التي تتعزّز برمزز "الياقوتة" اليسرى التي تلثمها آخر بقايا التمزّق الجسدي، البقايا الفموية . وإذا كان "الحلاج القديم" قد ارتعد ولو قليلا أمام سيف الجلاد وحاول الخلاص كما تزعم الروايات التاريخية، فإن "الحلاج الجديد" يسعى إليه ويطلبه مستميتا من أجل غاية وحيدة يحددها من هذه الميتة "الإستشهادية":

(عسى أن ييسّر أمري

ويشرح صدرك)

والإقتباس الإشاري القرآني معروف . وقد نُذر جسد الشاعر المقطّع ليتيسّر أمره مع المعشوقة بفعل انشراح صدرها الذي عُلقت "الأضحية" على جسره .

ولأن يحيى قد استعاد رمزا صوفيا معروفا هو الحلاج الذي انهمّ بالنقطة أيضا ومدلولاتها المكتنزة (راجع "طاسين النقطة" في "كتاب الطواسين" للحلاج بتحقيق ماسينيون) فإنه يرسم نهاية "فنائية" جديدة هي في حقيقتها تمظهر للفناء الأول وإخراج "صوفي" للإتحاد الحسّي في حوض "نون" اللذة:

(مجدُ نقطتي:

أن تتحد بخطّك ِ

كاتحاد ماءينا في

حوضك ِ المقدّس)

# أما بالنسبة للأسطورة فقد وظّفها يحيى في بعض نصوصه هذه . فمن ملحمة جلجامش – درّة تاج أساطير الشعوب – استفاد في موضعين: الأول في المقطع السادس والخمسين حيث استعار وصف شاعر الملحمة المجهول لجلجامش الذي ثلثاه إله وثلثه بشر بأنه (هو الذي رأى كل شيء) . وفي الواقع فإن العنوان الاصلي لملحمة جلجامش هو (هو الذي رأى كلّ  شيء)  

  نعم، فتقدم إليه السياف فتبسم الحلاج وأنشأ يقول:
نديمي ليس منسوب *** إلى شيء من الحيف
سقاني مثل ما يشرب *** فعل الضيف بالضيف
فلما دارت الكأس *** دعا بالنطع والسيف
كذا من يشرب الراح *** مع التنين في الصيف

ثم ضربت عنقه فبقي جسده ساعتين من النهار قائما ورأسه بين رجليه يتكلم بكلام غير مفهوم، إلا أن آخر كلامه كان: أحد أحد أحد، فتقدم إيه ابن الخفيف الشيرازي فإذا بالدم الذي يجري مكتوب على الأرض الله الله أحد أحد في نيف وثلاثين موضعا، ثم أحرق بالنار

فاطمة بضعة مني فمن آذاها آذاني

 لا تنسى الجذر اسم في الحلقة الثالثة ثبل إرسالها ولا تكرر الغلطة   

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2176 الأثنين 09/ 07 / 2012)

في المثقف اليوم