قضايا وآراء

جابر خليفة جابر والكتابة السردية الجديدة في الفن الروائي .. تحليل رواية "مخيّم المواركة" (6) / حسين سرمك حسن

وقد يستطيع أحد المتلقين – ناقدا أو قارئا – النظر إلى لوحة إبن عزيز كـ "أطروحة" ولوحة قاسم العراقي كـ "طباق" على الطريقة الهيغلية إذا جاز الوصف ويتيح فرصة لرسام آخر أن يزاوج بين اللوحتين لينتج "تركيبا" جدليّا . وهذا ما فعله "يحيى المجريطي" الذي تابع المباراة في القاهرة، وانطبعت تفاصيل الجارية بصورتيها في ذهنه فأعاد رسم اللوحتين – وقد قلتُ أن جابرا يضرب أنموذجا للتناص الخلّاق – بعد أن حوّل الجارية إلى ثلاث فتيات أندلسيات رائعات يرتدين أزياء أندلسية زاهية الألوان وتغطي رؤوسهن باقات الزهور ؛ يمشين ويتضاحكن وهن يخترقن الحائط خارجات - وفق حركة الجارية في لوحة إبن عزيز – ويدخلن تجاه الناظر من خلال الحائط نفسه – وفق حركة الجارية في لوحة قاسم العراقي -  ووجوههن تشع بالجمال الأندلسي . ثم ربط اللوحتين ظهرا لظهر وأحكم شدهما بحبل . كان يحيى المجريطي يعيش في "تطوان" على الساحل الغربي، وهي من منافي الغرناطيين بعد سقوط مملكتهم – المكان يفرض نفسه – وأثارت الأندلسيين وحنينهم إلى أندلسهم المفقود يملأ قلوبهم "حركات الخروج والدخول - طبيعة المتلقي تفرض نفسها – (فترتفع صيحات الإعجاب والثناء للرسام الأندلسي المبدع كأنما كانوا في ذاك الزمان البعيد يشاهدون فيلما سينمائيا متحركا – ص 119 ) .

(أعطى المجريطي لوحته المزدوجة عنوان "بنات الأندلس"، ومضى بها إلى مصر، لكنه لم يصل، لا هو، ولا لوحته الآسرة، واختفت من حينها أخباره – ص 119 ) .

يختم يحيى المدريدي – جون ثاباتيرو سابقا – حكايته / حكاية خيمة مدريد الثانوية - وقد اتسعت الآن لتوازي الرئيسية نسبيا، وتملأ رحمها بالمعاني عن "يحيى المجريطي" – بالإعلان الصريح عن أن لوحة الأخير ذات الوجهين عن بنات الأندلس – والتي جاءت بعد قراءته مخطوطة المنافسة بين الرسّامين – أشاعت في روحه "السلام" والهدوء وملأتها بالعاطفة الإنسانية تجاه الآخرين ومنهم الموريسكيين المظلومين ودعته إلى أن يُدرك لماذا سمّى قاسم الكرخي الجارية سلام بدلا من دلال، وتأمل عميقا في دلالات موقف هذا الفنان فعرف سرّه العميق وفهم أن الإسلام – ويتحدثون عن مخاطر الأيديولوجيات على الفن ويعاتبون جابر على ذلك !! – هو الإطار الفكري الذي شكّل رؤية هذا الفنان إلى الكون والحياة، فالإسلام هو السلام بشقيه: النقسي الداخلي معبرا عنه بتماسك إرادة قاسم في وجه الطغيان وسطوة عقله على غريزته مع إيمانه بدور الجمال المهذّب، والإجتماعي الخارجي معبرا عنه برسالة الفن التي تدعو إلى الفضيلة والعدل والحب والإخاء . لقد "شرحت اللوحة صدره" كما يقول فآمن بالإسلام واتخذ اسم يحيى الرسام اسما له بدلا من جون ثاباتيرو (أنا الآن يحيى المدريدي . وهذا أول ما فعلته لإنصاف أبناء وطني الحبيب ؛ إسبانيا – ص 121) . وهذا هو دور الفن العظيم عندما يكون الفنان مؤمنا بأن له دورا بنّاء يعلي العقل والقيم الإنسانية النبيلة ويجعل الفرد – حاكما أو حاشية – ينفعل بـ "وجه" الإنسان بكل ما يعنيه الوجه من رمزية الفهم والسلام تحية وانكشافا، لا بـ "قفاه" بكل ما يعنيه القفا من رمزية الإنغلاق والجفوة والإنكفاء والنوايا المبيّتة .

في نهاية الرسالة يقول عمّار إشبيليو لجابر بأن حالة من الإنشراح والحبور قد اشاعتها حكاية لوحة بنات الأندلس (وكانت كارمن ومارتينا منفعلتين جدا بأجواء اللوحة كأنما كان المخيم يشاهد اللوحة واقعا في أيام "تطوان" تلك – ص 121 ) .

وليس تكرار ذكري لعمار – أو رودميرو وجابر – في نهاية كل رسالة سوى – في جانب من جوانبه الفنية – سوى انعكاس لسمة سردية لدى جابر الذي يعيد – من خلال عمار طبعا – تذكيرنا بأسماء شخوصه كي لا تسقط من الذاكرة القرائية . وما الإشارة إلى انفعال كارمن ومارتينا – بالإضافة إلى الصلة بمعاني الحضور الأنثوي التي اشاعتها اللوحة كما بيّنا – غير حركة فنية يبغي الكاتب منها جعل انتباهة المتلقي متوقّدة ونثر القرائن التي تجعله يتداعى إلى رموز سابقة فيحييها، أو يستعد لاستقبال توظيف جديد لها فيغنيها . وهذا ما سيفعله الآن عمّار وهو يُخبر جابرا بأن هذه الإنتعاشة التي سرت في أوصال المخيم كانت وجيزة حيث سرعان ما نغّصتها – بساعة أو اقل بقليل – "خيمة المرية" بتعليقها على الجملة السردية "كانوا يتطلعون" . وفي الحقيقة إن كل الحكايات الثانوية تقريبا كانت منغّصة يحدو بها حادي "المثكل" حسب الوصف الموفّق للموت الذي جهر به جدّنا جلجامش المثكول، وكأن جابرا يحيلنا إلى واحدة من السمات السردية الفنّية المهمة التي تعلنها سيدة الحكّائين شهرزاد حين تقول:
(وجاء هادم اللذّات ومفرّق الجماعات ) .. الحي الذي لا يموت: الموت .

( كانوا يتطلعون

غدا – سيمتنعون عن الطعام سرّا-

أو بعد غد،

ثلاثة رجال كانوا،

وثلاثة صبيان،

وطفلتين وكانوا – غرباً – يتطلعون، لرؤية الهلال،

فلم يروا الخيول وهي تحط عليهم..

بعد يومين فقط،

وشموا جباههم بالصليب،

وفي عيد الميلاد أحرقوهم .. – ص 121 و122 ) .

ليعيدنا وبصيغة الشعر إلى هذه الحكاية المنغّصة – وهل حكاية أهل الأندلس بأكملها إلا كارثة تنغيص تاريخي؟! – التي سبق أن ذكرها على الصفحة (104) . ولعل – وهذه شهادة وتذكير ضروريين – أروع وأدق من برع في هذا الإتجاه وابتكره في الحقيقة هو "مارسيل بروست" في روايته الشهيرة "البحث عن الزمن الضائع" .

والحكاية المنغّصة هذه هي حكاية "قرية السمّاكين" التي تقع عند الطرف الجنوبي للمرية والتي أحرق فيها عشرون رجلا وامرأة وطفلا لأن القشتاليين رصدوهم وهم ينظرون غربا لرؤية الهلال استعدادا لصوم شهر رمضان المبارك !

وفي نهايتها يذكّر عمّار إشبيليو جابرا بأنه سبق له أن أخبره بأن الهولنديين المشاركين في المخيم: الكاتب كورنيلوس وزوجته فيرونيكا لديهما إضافة سوف تسد ثغرة مهمة في سرديات أعضاء المخيم، وتربط بين حكايتين لخيمتي غرناطة وإشبيلية (ص 125) .

وفي الحكاية الثانوية التالية "حرير مارتينو" يقع محذوران حكائيان، الأول يتمثل في التكرار على وجوه المحنة ذاتها من قهر ومصادرة وتعذيب وإن حصلت من مقترب آخر، والثاني أشد أهمية ويعكس حماسة الكاتب موضوعته التي قد تغيّب انتباهته . فليس من المعقول أن يجلس موريسكي مسلم متنصّر هو ماركوس أو مارتينو لاحقا مع باستن الهولندي البروتستانتي ليستأمنه سرّ قصّته مع "ساندرا" القشتالية التي تعلقت به ورفضها لأنه متزوج ولأنه لم يطق رائحتها المقرفة !! هذا الموقف من الطهارة سوف يخدش كبرياء باستن نفسه وهو الذي سوف يضرب أروع أمثلة التضحية عندما يقرّر إنقاذ كارلوس (بدر أو بيدرو) وعائلته ولارنكا وابنتيها .. ثم اتفق معه على الزواج من كامرينا الموريسكية (قمرين زوجة كارلوس / بدر) كوسيلة آمنة لسفرها وابنها الثاني عمّار معه لأنه يحمل أوراقا إيطالية مزورة باسم السنيور كولاني . وهذا مثل عظيم على الروح الإنسانية المتسامحة التي كان يحياها المسلمون والنصارى والتي ضرب لها كارلوس مثلا آخر عندما لجأ – بعد إحراق والده هلال القرطبي بسبب صديقه علي الخير – إلى صديق طفولته النصراني "ألونزو" الذي آواه من مطاردات محاكم التفتيش ثم سهل له الهرب إلى فالنسيا . وهناك أيضا موقف التسامح والعفو المتبادل بين كارلوس والضابط القشتالي "خافير" زوج ساندرا . فقد التحق كارلوس بدر بعلي الخير المقاوم في الجبال وتزوج ابنته فاطمة، وذات ليلة تعرّض لدورية قشتالية هرب جنودها وتركوا ضابطهم خافير وزوجته ساندرا وبين يديها رضيعها . تذكّر بدر رضيع الحسين الشهيد فعفا عنهم برغم محاولات ساندرا المشينة التي أوصلته إلى الهروب ومصادرة بستان حريره (راجع حكايتي "حرير مارتينو" و"علي الخير"  من الصفحة 127 إلى الصفحة 139) . وفي موقف مقابل عفا خافير عن كارلوس بدر وهو يهرب مع كولاني وزوجته فاطمة وولده وزودهم بكتاب يساعدهم على الوصول إلى البحر . ومن وجهة نظري صار هذا العفو المتقابل والموقف الإنساني مصنوعا ومكررا .

والحكايات الأخيرة دوّنها – كما قلنا – حامد بن قمرين الذي بقي وحيدا من عائلته فغادرها إلى "بلد الوليد" ليتفادى الشكوك، وهناك عمل بكتابة القصص، وغدا جزءا من أوساط الإسبان هناك، لكنه كاد يُسجن عندما كتب قصة فروسية عنوانها "الكوندي دي ليريا" . وسيجد القارىء الكريم تفاصيل هذه الحكاية وطبيعتها التهكمية من قيم الفروسية القشتالية المزعومة على الصفحات (141 – 147 ) . ولكن ما يهمني منها – ودفعا للتكرار – هي إشارة جابر إلى الكيفية التي حصل فيها سرفانتس على جانب مهم جدا من روايته الشهيرة "دون كيخوتة" من حكّائها الأصلي حامد بن قمرين . وهي إحالة قد تشرخ النرجسية القومية للأمة الإسبانية بكاملها خصوصا وقد زرع الغربيون في عقولنا السردية والثقافية وعبر الترويج الذي يقوم به "مثقفون" عرب بارزون أعمتهم موجة الحداثة الأوروبية الكاسحة أن دون كيخوتة هي واحدة من بين روائع الأدب العالمي الأربع وهي: الإلياذة لهوميروس والكوميديا الإلهية لدانتي ودون كيخوته لسرفانتس وفاوست لغوته . ومن وجهة نظري فإن ملحمة جلجامش أحق في أن توضع بدلا من الإلياذة، ورسالة الغفران أو ألف ليلة وليلة بدلا من الكوميديا الإلهية . المهم، لا حياة لمن تنادي .

 

زلّة لاشعورية مباركة من "حسن حميد":

في زلة لاشعورية مباركة من الناقد "حسن حميد" في القسم "سرفانتس: صبغة الرؤى" الذي عالج فيه رواية "دون كيخوتة" من كتابه "البقع الإرجوانية"، تنسرب الدوافع اللائبة والمتحمّسة في أعماقه تجاه الموقف نفسه من الأعمال الروائية الأربعة العظيمة حيث يقول:

(.. الكتاب الذي أقصده هنا هو "دون كيشوت" لمؤلفه الإسباني سرفانتس، فقد عدّه نقاد الغرب من بين أهم أربعة كتب عرفتها البشرية كتأليف وهي الكوميديا الإلهية لدانتي وفاوست لغوتة وألف ليلة وليلة ودون كيشوت لسرفانتس) (51)

فوضع كتابنا "ألف ليلة وليلة" محل الأوديسة لهوميروس .

 

الآن: لماذا شطب جابر على سرفانتس:

والآن حلّت مناسبة التعرّف العميق والتفصيلي على الدوافع التي جعلت جابر لا يهدي روايته إلى "سرفانتس" صاحب "دون كيخوتة" بل يشطبه أيضا كما شطب أمين معلوف، وإحالته الصريحة إلى أن قسما منها قد كتبه حامد بن قمرين:

أنا أرى أن الرواية كلها ليست لسرفانتس (راجع الملحق رقم (2) . فإذا كان البعض يرى أن دون كيخوتة قد كُتبت اصلا للهزء من مدّ كتب الفروسية والسخرية من تفاصيلها التي عمّت أوروبا الغربية كلها أوانذاك، فإن جابرا الماكر وكأنه يخلق من خلال حكاية "الكوندي دي ليريا" موازاة أصيلة مع رواية دون كيخوتة عبر حكاية ثانوية قصيرة . فإذا شئت الدقة القائمة على التحليل والمقارنة المستترة فإن الكوندي دي ليريا هو الصورة " النيجاتيف " لدون كيخوتة والتي يظهر وجه فارس سرفانتس بعد تظهيرها . إن السخرية التي كتب بها حامد بن قمرين حكايته عن بطولات الكولونيل دي ليريا (ومن معاني "ليريا" الكذب والبهتان والتزوير) وهي سخرية مريرة تجد مثلها واقعيا في حملات "فرسان" قشتالة على الموريسكيين المدنيين العُزل . ويمكن أن نطالع الكثير منها في الفصل الأخير من كتاب واشنطون إيرفنغ أخبار سقوط غرناطة والذي سقط أيضا في مصيدة أكذوبة الفضائل "الرومانطيقية" لـ "الفرسان" القشاتلة . والكونت دي ليريا حسب وصف حامد بن قمرين وهو يقود خمسين من خيرة فرسان قشتالة لم يعرض نفسه لخطر الاشتباك وانسحب ظافرا (هاربا) ثم أظهر بطولاته بالعودة لاقتحام مسجد اجتمع فيه العشرات من الموريسكيين ممن لا يستطيعون القتال بعد هدم دورهم وقام بصحبة (فرسانه الشجعان) بذبح الجميع رجالا وأطفالا .. واغتصبوا النساء .. وقد كُرّم من قبل المقدّس الكاردينال "ثيسنيروس" (راجع الصفحات 141 و142 و143) . وهناك – تأريخيا – قصة قريبة منها عن الكاردينال ألونزو دي غويلار - .

 

وقفة: أخي جابر: إنهم فرسان قشتالة نفسهم:

إن المعنى الدموي لمفهوم الفروسية القشتالي لم يكن وليد موقف ظرفي عابر ولا هو نتاج إنفعال ديني وفكري طارىء ولا استجابة سلوكية مرتبطة بمؤثرات مرحلية . إنه نتاج "بنية" سيكولوجية وفكرية ثابتة هي المسؤولة عن دموية المستعمر (الرائد/ الفاتح) الغربي مع كل الشعوب المنهوبة . فإذا كان دون خوان قد أسس لطريقة صيد الرؤوس في التعامل مع المواركة الثوار فإن الحكومة البريطانية في عهد الملك جورج الثالث كانت تُعطي مكافأة لكل من يأتي بفروة رأس هندي أحمر علامة على قتله وقطع رأسه . أما الإبادة والنفي والتهجير وأعمال السخرة في السفن والتي مارسها القشتاليون في الأندلس فهي نهج ثابت في السلوك الغربي، فقد ( استمرت هذه التقاليد الغربية الإبادية بعد استقلال أمريكا، بل تصاعدت بعد عام 1830 م حين أصدر الرئيس جاكسون قانون ترحيل الهنود، والذي تم بمقتضاه تجميع خمسين ألفا من هنود الشيروكي من جورجيا وترحيلهم (ترانسفير) في أثناء فصل الشتاء سيرا على الأقدام إلى معسكر اعتقال في أوكلاهوما . وقد مات أغلبهم في الطريق ... وترتبط بالتجربة الاستيطانية في أميركا الشمالية عمليات نقل ملايين الأفارقة السود للأمريكيتين لتحويلهم إلى عمالة رخيصة . وقد تم نقل عشرة ملايين تقريبا، ومع هذا يجب أن نتذكر أن كل أسير كان يقابله بوجه عام عشرة أموات كانوا يلقون حتفهم إما من خلال أسباب "طبيعية" بسبب الإنهاك والإرهاق وسوء الأحوال الصحية أو من خلال إلقائهم في البحر لإصابتهم بالمرض .

وكانت أعمال السخرة الاستعمارية في أفريقية ذاتها لا تقل قسوة . ففي كتابه رحلة إلى الكونغو (1927 م) يبيّن "أندريه جيد" كيف أن بناء السكة الحديد بين البرازيل والبزانت السوداء (مسافة طولها 140 كيلومترا) احتاجت إلى سبع عشرة ألف جثة. ويمكن أن نتذكر أيضا حفر قناة السويس بالطريقة نفسها وتحت الظروف نفسها وبالتكلفة نفسها – ص 214-216 ) (52) .

 

إنه منهجهم: العنصرية والتهجير:

(لقد بيّن كاتب مدخل العنصريّة في دائرة المعارف البريطانية أنه ليس من المصادفة أن العنصريّة ازدهرت في وقت حدوث الموجة الثانية الكبيرة من التوسّع الاستعماري الأوروبي والزحف على أفريقية (حوالي 1870 م)- وهو وقت ظهور الصهيونية وبداية الاستيطان الصهيوني في فلسطين.

وقد بيّن المفكر النازي ألفرد روزنبرج- في أثناء محاكمته في نورمبرج- أن العنصرية جزء أصيل من الحضارة الغربية الحديثة، وأكّد لقضاته أن هناك علاقة عضوية بين العنصرية والاستعمار. وقد أشار إلى أنه عثر على لفظة سوبرمان في كتاب عن حياة اللورد كتشنر، وهو الرجل الذي قهر العالم، كما أكد أنه صادف عبارة العنصر السيّد في مؤلفات عالم الأجناس الأميركي ماديسون لفرد ألفجرانت والعلّامة الفرنسي جورج دي لابوج، وأضاف قائلا: (إن هذا النوع من الأنثروبولوجيا العنصرية ليس سوى اكتشاف بيولوجي جاء في ختام الأبحاث التي دامت 400 عام) أي منذ عصر النهضة في الغرب وبداية مشروع التحديث. ومعنى هذا أن العنصرية ليست مرتبطة بالإستعمار وإنما بالرؤية المعرفية العلمانية والإمبريالية وبمشروع الإنسان الغربي التحديثي. وقد كان روزنبرج محقا في أقواله، فالمركزية  التي منحها الإنسان الغربي لنفسه منذ عصر نهضته باعتباره كائنا ماديا متفوقا على الآخرين، وكيف تصاعد هذا الإتجاه حتى وصل الذروة في القرن التاسع عشر حين أصبحت العنصرية أحد الأطر المرجعية الرئيسية للإنسان الغربي. وظهر علماء مثل جورج دي لابوج الذي أشار إليه روزنبرج، الذي انطلق من نظرية المجتمع ككيان عضوي، وأكد أن الجنس الإنساني لا يختلف عن الجنس الحيواني، أي أن كليهما ينتمي إلى عالم الطبيعة. ولذا دعا إلى أخلاقيات جديدة مبنية على الإنتخاب الطبيعي وعلى الصراع الدائم والبقاء للأصلح بدلا من الأخلاق المسيحية. وانطلاقا من كل هذه المفاهيم المحورية في الحضارة العلمانية، فهذه هي فلسفة داروين ونيتشه ووليام جيمس، طرح دي لابورج تصوره لتفوق الجنس الآري باعتباره الجنس الأرقى الأقدر على الصراع وذبح الآخرين. ولم يكن دي لابورج وحده ضالعا في مثل هذه الأفكار، إذ كان يشاركه فيها جو بينو وهيبوليت تين وجوستاف لوبون وإدموند درومون. وقد روج لهذه الأفكار في ألمانيا أوتو أمون وأرنست هايكل وإدموند فينيننجر (المفكر الألماني اليهودي الذي تأثر به هتلر) وهوستون تشامبرلين (الإنجليزي الأصل). أما في إنجلترا فقد كان هناك و.ف. إدواردز وتوماس أرنولد (والد الشاعر والمفكر المشهور ماثيو أرنولد) وجيمس هنت مؤسس جمعية لندن الأنثروبولوجية الذي ذهب إلى أن الطريقة الوحيدة لجعل علم الأنثروبولوجيا أكثر حيادية هو تحريره من القيم الأخلاقية الإنسانية مثل نظرية الحقوق الداعية إلى تساوي البشر. وكان من أهم المفكرين روبرت نوكس الذي أثرت أفكاره في داروين صاحب نظرية التطور الذي كان من اليسير على دعاة العنصرية أن يتبنوا منظورها اللاأخلاقي كما فعل نيتشه – ص 184 و185 و186 ) (53).

 

عودة إلى شطب سرفانتس:

وأريد أن ألفت انتباه المتلقين ؛ قراء ونقادا، ومنهم الراحل عبد الرحمن بدوي الذي افاض في مقدمته لترجمة دون كيخوتة في شرح المعاني الرمزية المضمرة لهذه الرواية حيث عدّ – على سبيل المثال لا الحصر – أن دون كيخوتة يمثل روح الإنسان في حين أن سانشو بنثا رفيقه يمثل جسد الإنسان، وأن الرواية كُتبت اصلا للسخرية من مدّ كتب الفروسية المليئة بالخرافات والأكاذيب . اقول إن سيرة حياة سرفانتس والحروب التي خاض غمارها يجب أن تضعه في موضع الفخر بقيم الفروسية كمحارب . كما يذكر بدوي رأيا للباحث سلفادور دي مدرياجا كما أن سرفانتس كان من المدمنين على قراءة كتب الفروسية على نحو عجيب، وأنه كان يعرفها كلها تقريبا معرفة وثيقة ثابتة، وهو أمر أقل ما يُقال فيه أنه لا يوحي بأنه كان يكرهها كراهية لا يمكن التغلب عليها . ولهذا فنحن لا نعجب حين نجد سرفانتس، في شخص شماس طليطلة، بعد أن يعرض كل اعتراضاته ضد كتب الفروسية، يمضي للإشادة بها في موضع، وإن كان مختلطا في معاييره الأدبية، فإنه مع ذلك مدح واضح لها على أساس ما تهيؤه للعقل المبدع من مادة ) (54) .    

ولكن – وأستعيد هنا ما قاله جابر خليفة جابر على لسان "إبراهيم الطبيلي" عن أن الأخير قد اطلع على آخر قصة طويلة – تتجاوز المئة صفحة - جميلة ومضحكة أنجزها حامد بن قمرين:

(كنتُ لا أملّ من الضحك عند قراءتها . لكني نصحته بعدم نشرها، لأنها وإن كانت في الظاهر تنتقد الفروسية وفرسانها بسخرية واستهزاء، إلا أنها بشكل خفي لا يغيب عن القارىء الذكي تنتقد ما تدّعيه حكومة قشتالة من بطولات الفروسية وملاحمها ضد الموريسكيين العُزل من القوة والسلاح، ووصف حامد في قصّته من يسير وراء حكومة كهذه بالتابع الغبي أو الحمار، ورسم مشاهد سردية غاية في التندّر وإثارة السخرية من قشتالة وفرسانها -  ص 146 ).

لننتبه الآن إلى هذه المداخلات الخطيرة التي نعتقد أنها – برغم طبيعتها الإستنتاجية – هي دليل مضاف بل مؤكد على أن دون كيخوتة ليست لسرفانتس كلّها وليس الجزء الثاني منها فقط . وهذا لا يمنع من أن يقوم سرفانتس – ككاتب ذي خبرة ومران ومراس في حقل الكتابة السردية - بمحاولة لـ "أسبنتها" أو "قشتلتها" إذا جاز الوصف . فقد عُرف عن سرفانتس أنه معدم من الناحية المادية أولا ومبتلىً بظروف محطمة من الناحية الاجتماعية (أحكام قانونية، وسرقات، وأخت وبنت عاهرتين، ... إلخ) ثانيا، وأنه كان يستعمل الكتابة كطريقة للعيش بعيدا عن أية أخلاقيات أو قيم ثابتة ثالثا . كان يكتب ليتكسب على أبواب النبلاء ويكتب للفتيات الصغيرات اللائي لا يجدن الكتابة الإنشائية ليحصل منهن على مبالغ بسيطة يقيم فيها أوده . أي أنه من الناحية الشخصية والسلوكية الأخلاقية والمسار الإجتماعي ليس مهيئا لتقديم نتاج أصيل يزخر بالقيم النبيلة . أما من ناحية قيم الفروسية التي يرى أكثر الباحثين أنه حاول تحطيمها في روايته فهو أكثر المتحمّسين لها، سلوكاً من خلال خدمته كجندي في الجيش أو مع القراصنة، وكتابةً من خلال نتاجاته الأولى، وتوصيلاً من خلال دورانه على أبواب النبلاء وهم الراعون الأصليون لقيم وحكايات الفروسية .

في بداية القسم الثاني جاء "الإهداء" إلى "كونت ليموس" الذي يتحدث عنه الهامش بأن سرفانتس كان قد أهدى إلى كونت دي ليموس نائب ملك نابولي "الأقاصيص النموذجية" في عام 1613، فلقي منه رعاية وافرة دفعته إلى أن يُهدي إليه في عام 1915 "أولا ثماني هزليات وثماني وسيطات جديدة لم تُمثّل" ثم القسم الثاني من دون كيخوتة . وقبل وفاته بخمسة أيام اهدى إليه "أعمال برسيلس وسجسمندا". وفي الهداء حركة "استجدائية" ماكرة حيث يقول سربانتس للكونت أن امبراطور الصين أرسل أليه رسولا يعرض عليه أن يكون مديرا لأكاديمية لتعليم اللغة الإسبانية فرفض لأنه لم يحمل الرسول العرض المادي ولأن (إمبراطورا بامبراطور وعاهلا بعاهل عندي في نابولي كونت دي ليموس العظيم الذي يبذل لي يد العون، دون كل ألقاب الكلّيات والمديرين، ويسد حاجتي، ويهبني من فضله ما لا يزيد عليه ) .

ويختم إهداءه بالقول:

(وعلى هذا ودّعته، وعلى هذا أيضا أستودع وأنا أقدم إلى سعادتك "أعمال برسيلس وسجسمندا" الذي سأفرغ منه قبل أربعة أشهر إن شاء الله، وسيكون أسوأ أو أحسن ما أُلّف في لغتنا وأقصد بين الكتب التي قُصد بها الترفيه والتسلية، وأخطيء حين أقول "أسوأ" لأنه في رأي أصدقائي سيكون أوج الكمال الممكن . فليعد سعادتك بالصحة التي نرجوها، وستكون برسيلس هناك لتقبيل اياديك وأنا لتقبيل قدميك، نا الخادم الأمين لسعادتك .

مدريد في اليوم الأخير من شهر أكتوبر سنة ألف وستمائة وخمس عشرة .

خادم سعادتك

ميجيل دي ثربانتس سابدرا )

وكاتبا له مثل هذه الروح الإنتهازية المرتزقة لا يمكن أن يضع كتابا يسخر فيه من جانب في الحياة هو الفروسية يعتبر محور اهتمام الكونت الذي يكرمه ويغدق عليه هباته وأفضاله ومركز أحاديث مجلسه . لكن يمكن لكاتب موريسكي مضطهد من فرسان قشتالة أن يسخر منهم . ولكن كيف سيمرر سرفانتس ما استولى عليه ويستر هويّة المؤلف المعادية؟ هناك طريق واحد هو أن يكيل الشتائم للعرب والمسلمين الذين ينتمي إليهم الكاتب الظل/ الأب وهو سيدي حامد الذي لم يكتف بهجاء قيم فرسان قشتالة بل هجا قيم المجتمع القشتالي بأكملها .

كيف يعمد سرفانتس إلى تحطيم قيم الفروسية في عمل وزّعه على مجالس النبلاء منتظرا تكريمهم وعطاياهم؟ إن الإحتمال الأكبر هو أنه أراد إدخال المسرة في قلوبهم وإدخال نوع من الأدب الفكاهي في قراءاتهم . ولكي ينزع الشبهة عن أصلها المعادي الذي صممه حامد بن الإيلي أو الجيلي فقد ضم إليها مواقف من عندياته في كره العرب وشتميتهم ووصفهم بأقذع الأوصاف (55) . وهنا يأتي تساؤل عرضي: كيف ترجم عبد الرحمن بدوي العمل من دون أدنى إشارة إلى إهانة قومه ودينه أو قدر من الحساسية ضده عدا هامش فقير سنذكره لاحقا؟ .

المهم هو أن الإشارة الأخيرة في عبارة إبراهيم الطبيلي عن التابع الغبي الذي يسير وراء حكومة ظالمة وفاسدة يحيل بقدر ما إلى الدرس الذي استقاه يحيى المدريدي – ونحن كذلك – من لوحة "أمثولة العميان" لبروجيل، والموقف الإنتقادي الكلّي تجاه سلطة الفروسية التي كان يقبّل سرفانتس اقدام رعاتها يمكن أن يصدر من حامد الموريسكي المظلوم الذي ذاق الويلات منها، لا من الأول المتبجّح، خصوصا وأن جابرا قد مهّد لقناعاتنا بحكاية حامد عن "الكونت دي ليريا" ومفارقات "شجاعته" و فروسيته "المقدّسة" . بالإضافة إلى حقيقة مكملة أوسع وأهم هي أن "مخطوطة" حامد "الروائية" هي مصدر أغلب حكايات ماساة الموريسكيين في المخيّم التي يتبجح بخرابهم ودمارهم وقتلهم وتشريدهم، "فرسان" قشتالة .

 

على الروائي أن لا ينسى شخوصه:

ولاحظ أيها القارىء الكريم أن جابرا قد أشار في الصفحة 144 إلى أن "جون بيرز" هو صديق حامد وهو أديب من أصل موريسكي طُرد فيما بعد إلى تونس وهناك عُرف باسم إبراهيم الطبيلي نسبة إلى نهر طبيلة أحد فروع نهر شقورة في مدينة مرثية ... وهو نفسه الإشبيلي لويس بن سالم وقد هرب مع صديقه حامد إلى بلد الوليد ... إلخ . أي أنه يعيد إلى اذهاننا – وبعد سبعين صفحة من السرد المتشعّب والشائك - شخصية لويس بن سالم التي ذكرها في حكاية "كناريات" على الصفحة 74 .

على الحكّاء المقتدر أن لا ينسى شخوصه، وأن يخلق عُقد وصلٍ بها بين موضع وآخر في الرواية ويعزّز أدوارها . لا يجوز أن تظهر الشخصيات في الرواية وتختفي بلا دور ووظيفة . كما أن كل قارىء تثور في نفسه رغبة لمعرفة مصير كل شخصية من الشخصيات وما جرى للآخرين الذين مرت مدة من الزمن ولم يعرف فيها عنهم شيئا .  

... وينبغي علينا أن نؤكّد على أن تعرّض جابر في روايته، وقبله الناقد والروائي الفلسطيني "حسن حميد" في كتابه "البقع الإرجوانية"، لمعضلة نسبة رواية "دون كيخوتة" ليست أمرا يسيرا ولا هو بالإعتراض العابر (فمن لديه – من الأمم والأفراد - الإستعداد للتنازل عمّا سُجل تاريخيا باسمه من الآثار الأدبية العظيمة – ص 147).

فإذا كان الإسبانيون خصوصا والغربيون عموما غير مهيّئين فكريا ولا نفسيا بحكم النرجسية القومية لتقبّل أي حقيقة تتعلق بوجود مؤلف عربي لروايتهم وعلامة إبداع عقليتهم القومية "دون كيخوتة"، فلماذا يريدون – وببساطة – تجريدنا من "كتابنا" ومجمع "رواياتنا" التاريخية والروحية الأعظم وعلامة عبقرية أمتنا الفذّة ؛ "القرآن الكريم"؟ .

 

خيمة "العدوة": خيمة المصائر:

وفي ختام هذه الحكاية "الكوندي دي ليريا" تتدخل "خيمة العدوة المغربية" بما لملمته من أخبار عن بيدرو أو ماركوس أو مارتينو على اختلاف أسمائه القشتالية ونعني بدر بن حامد وزوج قمرين الذي أبحر إلى العدوة المغربية، لنتابع مع الروائي – عمّار إشبيليو الأول أو المتأخر "الكومبيوتري" أو جابر -  مصائر أبطال هذه الرواية أو "الملحمة" الموجزة التي حرّك فيها جابر عشرات الشخصيات عبر 171 صفحة من القطع الصغير . يبدو ان من مقاييس مهارة الروائي الحداثية هو أن يحرّك أكبر عدد من الشخصيات في أقل عدد من الصفحات بالوظيفة المؤثرة والربط العضوي والتفاعل الدرامي المحكم طبعا ! (يُقال أن تولستوي  قد حرّك ما يقرب من خمسمائة شخصية في روايته "الحرب والسلام"، ولكل شخصية طابعها الذي يميّزها بشدة من غيرها من الشخصيات كما أنها معروضة على القارىء بوضوح، وهذا في حد ذاته انتصار كبير كما يقول سومرست موم ) .

وفي نهاية هذه الحكاية الثانوية يشير عمّار إشبيليو إلى أن خيمة العدوة قد جمعت أخبارا كثيرة ووفرة من الأخبار والتفاصيل الدقيقة . لكن إدارة المخيم أصرت على ضرورة التركيز والإختصار . وإذا كانت الرواية الكلاسيكية هي "فن الإضافات" حيث كان بلزاك مثلا حين ينزل بطله لشراء فرشاة اسنان يقوم بوصف كل المقاهي والبيوت والمتاجر والعربات .. إلخ التي يمر بها، فإن الرواية الحديثة هي "فن الحذف" والوصف مأخوذ من الراحل "محمود درويش" وهو يصف فن الشعر . ورواية جابر مكثفة ومختصرة وكان من الممكن أن تمتد لمئات الصفحات لتصبح ملحمة حكائية عربية وعالمية . وكنت ومازلت أقول أن دروس السرد الحديثة  يمكن أن نجدها في القرآن الكريم خصوصا في سورة "يوسف" من تكثيف وإيجاز ولحظة تنوير وفراغات وفجوات وتركيز حوار وتعدد أصوات وغيرها . ولاحظ – مثلا – الإخبار المباشر والذي بلا مقدّمات في السورة: "وإذ قال يوسف لأبيه ..." . ولهذا جاءت رواية جابر رشيقة ملتصق ثوب مبناها على جسد معناها ليبرز مفاتنها الساحرة . أضف إلى ذلك عاملا آخر تحدثنا عنه سابقا ويمثل سمة سردية أسلوبية – موجودة حتى في حديثه الشخصي – وتتمثل في اعتماده على الجملة القصيرة في بناء الحكاية .

كما يخبر إشبيليو جابرا بأن أجازة المخيّم على الأرض الإسبانية أوشكت على الإنتهاء (وعلينا لمّ حكاياتنا (مثل " لمّ " الخيم مادامت الخيمة قد صارت حكاية – الناقد) بأسرع ما يتاح لنا من جهتي السرد والواقع المعيش معا، والعودة إلى عوائلنا، في إسبانيا وخارجها، فقد غبنا عنهم طويلا – ص 147 ) .

ففن السرد أو الحكي يبقى حكيا من دون أن يعود الحكّاء إلى الواقع . لقد كان " البعد المكاني" والعزلة في مخيّم مثّل حياة ومأساة المواركة نسبيا ضروريا للعودة – وليست الإستعادة – إلى مركز المحنة الملتهبة . فكانت دائرة المخيم هي دائرة العودة المتخيلة ووفّرت مسميات الخيّم "هويّات" الساردين الإجتماعية وبذلك يتوفر أساس جديد لضرورة ربط الفن بحاضنته الإجتماعية حتى على أجنحة المخيلة . لقد وفر التذكير بـ "ضرورة" العودة إلى العائلات وأرض الواقع الشعور بأهمية ضغط الواقع على المخيلة وليس الفرار منه، ليتحقق تزاوجهما الخلّاق .

ويدرك جابر أن الحكايات الثانوية المولودة من رحم الحكاية الأم حالها حال ما قلناه عن الشخصيات، يجب أن لا تكون تراكما سرديا محضا، بل أن تكون لها وظيفة . وقد استغل جابر كل حكاية تقريبا لملاحقة مصائر شخصياته الرئيسية والثانوية، ولكنه وضع لكل حكاية دورا وأهدافا أخرى حيث صوّر في بعضها أبعاد محنة قومه الموريسكيين من قتل وحرق ومصادرة واستعباد وقهر ديني، وعرض في البعض الآخر بطولات أبناء شعبه وتصدّيهم الاستشهادي لغزو القشاتلة وإصرارهم المستميت والعزوم على دينهم على الرغم من محاولات التنصير البشعة . وفي حكايات أخرى طرح رؤى فكرية مركزية عن الفن والحياة وأسس السرد الناجح .. وعن العلاقات الإنسانية .. وإشكالية دون كيخوتة .. وغيرها الكثير .

وفي حكاية "العدوة المغربية" القصيرة (صفحتان فقط 149 و150) هذه يعرض أولا مصير الهولندي بيتر باستن وقمرين وابنها عمّار الذي أصبح المساعد الأهم للأول، حيث تعرّض الثلاثة وهم في رحلة في الخليج العربي أو خليج البصرة إلى هجوم للقراصنة العرب قُتل فيه بيتر باستن، فيما استطاعت سفينة حربية هولندية إنقاذ عمّار وأمّه قمرين ونقلهما إلى البصرة .

 

لعبة الإيهام تتعقّد:

... أما ثانيا - وهو الأهم - فإن جابر يمهّد للإيغال في لعبة الإيهام التي بدأ بها حكايته وعبر خطوات محسوبة:

- إخبارنا أن عمّار إشبيليو أرسل الرواية على بريده الإلكتروني - ص 7 ..

- معرفة عمّار إشبيليو بتفاصيل حياته في الفاو - ص 12 ..

- إشارة عمّار إلى عيشه في الحلم، وأنه يحلم أنه جابر وبالعكس ص 56 ..

- ثمّ عززهذه اللعبة الباهرة بقوّة على الصفحة 58 حين قال:

(أحيانا أشك في نفسي وأكاد اصدّق بأني أنا من يختلق كل هذي الأحداث والحكايات ويكتبها .

بعد أيام افضيت بشكوكي وما أنا فيه من تشوّش إلى عمّار إشبيليو، والغريب أنّه ردّ ببرود:

- إنّ هذا ما يحصل لي تماما ! – ص 58 ) .    

وهنا يخبرنا جابر بأن عمّار أو أمّارو بعد أن أنقذته وأمّه قمرين السفينة الهولندية ونقلتهما إلى البصرة سكن منطقة العشّار وتزوج فتاة بصراوية، وقد تنقل في عمله بين ميناء المعقل أعلى شط العرب، وبين الفاو أقصى الجنوب العراقي .. وقد بقي في البصرة بعد أن أنتهت أعمال شركة الهند الشرقية الهولندية فيها .. وصار واحدا من ابناء البصرة . أي أن عمّار بن قمرين الذي قد يكون هو عمّار الأول، السارد الأصلي الذي وصلت – ولا أحد يعرف كيف ! - روايته الأولى إلى عمّار إشبيليو والذي أوصلها إلى جابر عبر البريد الإلكتروني، كان يقطن بجوار جابر السارد الحالي في القرن الحادي والعشرين !! . إنه القرين النفسي – "الأنا" المضاعف – لجابر .

وفي الحكاية اللاحقة "صيد الرؤوس 1 " عودة سردية غريبة إلى حكاية مبدع المايوركا كريم كاسياس ؛ إلى نهايته الجديدة بعد عدّة نهايات عرضناها سابقا . ولعل هذا الدور من أعظم أدوار الأدب في الحياة ويتمثل في تحقيق الإمتداد الخلودي للإنسان وهو يقاوم سطوة المثكل الرهيبة . وحسب معلم فيينا فـإن ( الحياة تفتقر وتفقد أهميتها حينما لا يتعرض للخطر أغلى ما في لعبة العيش نفسها من قيمة وهو الحياة نفسها . إنها تصبح مسطحة . إن روابطنا الوجدانية، وشدة حزننا غير المحتملة تجعلنا لا نميل إلى جلب الخطر لأنفسنا ولأولئك الذين ينتمون إلينا . إننا لا نجرؤ على أن نفكر في القيام بأشياء كثيرة للغاية تكون خطرة ولكنها مما لا غنى عنه . ويشلنا التفكير في من سيحل محل الإبن لدى الأم والزوج لدى الزوجة، والأب لدى الأبناء، إذا ما وقعت كارثة . ويجر استبعادنا الموت من حساباتنا في أعقابه عددا من الاستنكارات والاستثناءات . ونتيجة حتمية لهذا كله أنه يتعين علينا أن نبحث في عالم الرواية، في عالم الأدب بشكل عام، عن تعويض عن إفقار الحياة وتسطحها، فهناك لا نزال نجد أناسا يعرفون كيف يموتون، بل أنهم في الحقيقة قادرون على قتل آخر، وهناك فقط يمكننا أن نستمتع بالظرف الذي يجعل في إمكاننا أن نروّض أنفسنا على الموت . أي أننا خلف كل تقلبات الحياة، نحتفظ بوجودنا دون أن يمسّه شيء . ذلك أنه من المحزن للغاية أن يكون الأمر في الحياة كما في لعبة الشطرنج، حيث يمكن أن تؤدي حركة خاطئة واحدة إلى خسارتنا المباراة، ولكن مع اختلاف هو أنه لا يمكننا أن ندخل مباراة ثانية في الحياة، فلا مباراة إعادة ولا تعادل، أما في مجال الأسطورة والرواية فإننا نكتشف ذلك التعدّد في الحياة الذي نتوق إليه . إننا نموت في شخص بطل معين ومع ذلك فإننا نعيش بعده، ونحن مستعدون لأن نموت مرة أخرى مع البطل التاريخي بالقدر نفسه من الأمان) (56).

وهذا جانب مما توفّره رواية جابر ؛ مقاومة المُثكل والإلتفاف على حضوره الأسود الخانق الصاعق ولو بمقدار هذه الحكاية "صيد الرؤوس 1" والحكاية التالية "صيد الرؤوس 2" اللتين "يحيي" جابر فيهما كريم كاسياس و"يميته" من جديد بقطع رأسه أمام أنظار زوجته كناري وطفليه حامد والرضيع. كما يعيد إلى الأذهان وحشية وسفالة الدون خوان النمساوي – الذي يسميه المواركة بالنغل كونه ناتجا عن زنا الجرماني كارلوس الخامس ملك قشتالة بأمه،

 

وقفة: أباطرة السفاح:

 (أثمرت محاكم التفتيش وقتها أباطرة من الطغاة يسكنون المكان نفسه الذي كان يسكنه أباطرة روما الملاحدة لكن بزي لاهوتي مقدس ليقدسه من لا يستطيع أن يعرف عن باطنه أي شئ . فدوق "فيلا هرموسا" أخو فردناند بالسفاح هو الذي أوصل الى البابا اينوسنت الثامن سبايا ملقا من أجمل فتياتها العرب المسلمات اللواتي تمتع بهن قبل أن يسوقهن حاسرات شبه عاريات في احتفالات النصر في شوارع روما.

وكان لهذا الدوق أخ ثان بالسفاحة أيضا اسمه دون كارلوس مما يعني إن فردناند كان الإبن الوحيد الشرعي في أسرة من الزنات . وتأكيدا على هذا كان للأخ الثاني لفردناند بالسفاح دون كارلوس هذا إبن بالسفاح أيضا اسمه دون فيليب اوف اراون الذي قتله الزغل على جروف بازا فجزع فردناند على موته وسلم جيشه الى لويس فرناندز بيتروكاريرو واعتكف في كارافاكا سنة كاملة.

وإذا تساءلنا اين كانت زوجته إيزابيلا اثناء ذلك يأتينا الجواب من الساذج بورعه اغابيدا الذي نقل عنه واشنطن ايرفنغ احداث هذه الأخبار مراعيا سذاجته بأن اظفى عليه عبارات الورع والفاضل والمبجل وسواها من تهكم لإبراز عقلية كاثوليك القرون الوسطى به كنموذج لهم لا يجمع منطق تتابع الأحداث التي يؤرخ لها هو بحد ذاته يقول: (لقد كان هذان الملكان الحاكمان القويان كما أكد أغابيدا يعتبران بعضهما بشكل مختلف كحلفاء لا كزوجين لذلك أدّيا شعائر التعظيم الملكي) .

لذلك كان للملكة عشيق فعلي يصاحبها دوما محتميا بلقب كاردينال اسبانيا الأكبر اسمه غونزاليس . وكان الملك يعرف به جيدا ويذكره بالتهكم لمحضياته . وأمثال اغابيدا من عامة الرهبان الكاثوليك كانوا لا يلتفتون الى هذا، ويكتفون بذبح هذين الملكين للمسلمين بالتعاون مع كل ملوك اوروبا ضد حضارة الإسلام ) (57) .

وارتباطا بالملكة إيزابيلا (وحدها هجّرت 300000 مسلم من الأندلس) نذكر معلومة تأريخية أخرى لن يستطيع الكثيرون مواجهتها حتى لو استفزت ضمائرهم ما بعد الحداثية، وهي مرتبطة بالطهارة والحمّامات تقول بان الملكة "إيزابيللا" التي احتلت غرناطة مع زوجها الملك فرديناند قالت بعظمة لسانها أنها لم تستحم سوى مرّتين في حياتها ؛ الأولى حين وُلدت، والثانية عند زواجها . ولو جئنا إلى الواقع فإنها لم تستحم في حياتها سوى مرة واحدة وهي ليلة عرسها لأن غسلها يوم ولادتها ويوم موتها ليس من عملها كما يقول العلامة الفهامة الإمام محمد تقي الدين الهلالي المغربي رحمه الله في ترجمته لكتاب "مدنية العرب بإسبانيا" للكاتب الأميركي "جوزيف ماك كيب" .

إن أمرا جوهريا – أيها الأخوة – يتعلق بأسس الممارسة الدينية الطقوسية المسيحية ينبغي أن لا ننساه وهو أن الكنيسة كانت تنظر إلى التعميد كإجراء يوفّر الطهارة الدائمة للإنسان الفرد مدى الحياة . ظلّت هذه القناعة قائمة راسخة فكرة وممارسة لقرون طويلة حتى جاءت ثورة "باستور" العلمية في نظريته الجرثومية وسبل وقوع العدوى، فحصل ارتداد مؤقت في هذا السلوك . ثم عادت الأمور إلى ما كانت عليه .

 

عودة: قشتالة تكتب حكايات صيد الرؤوس:

والدون خوان النمساوي الذي واجه الثوار الموريسكيين في ثورتهم بقيادة علي الخير أواخر عام 1567 هو الذي سنّ شريعة صيد الرؤوس (رأس كل مسلم بعشرين دوقة ذهبية !!):

( وهكذا اشتهر عند القشتاليين ما سُمي بصيد الرؤوس، فكانوا يخرجون لحفلات الصيد جماعات، كما تخرج فرق صيد الطيور أو الغزلان وما شاكل ويتفاخرون كل منهم بعدد الرؤوس التي اصطادها – ص 152 ) .

وفي حكاية "صيد الرؤوس 2" نعلم أيضا أن علي الخير وحامد بن كناري نجيا بأعجوبة من المحرقة التي دبّرها جنود قشتالة للثوار المعتصمين في المغارة بعد أن حرقوا الحطب في مدخلها . ثم مات علي الخير تاركا حامدا لائبا لرؤية خاله عمّار بن قمرين .

وعند نهاية هذه الحكاية، تأتي الحلقة الحكائية الأخيرة ؛ حكاية "كارمن" التي ساهم فيها المدريديون الأربعة وتناولت – بحكم تخصّصهم التشكيلي – قراءة الإشارات المتبادلة بين أربعة نُصُب في إشبيلية وهي:

1 – تمثال حامد الملّاح أو خوان رودريغو أبو قمرين وزوج "كناري" إبنة كريستوف كولمبس . ولاحظ تداخل إيحاءات العنوان "كارمن" بين كارمن الأخيرة وكارمن الرسّامة ؛ عضوة خيمة مدريد التي صاغت هذه الحكاية . ولم يذكر أعضاء الخيمة "نيتهم" من العنونة هذه، ولكن المتلقي لا يمكن أن "يشطح" أبعد من هذين الإحتمالين المرتبطين بالصورة الكلية (الجشطلت) للنص والمحتواة دلالاته ضمن إطارها كأن يقول إن العنوان ذو صلة بأوبرا "كارمن" لجورج بيزيه !! . وفي الوقت الذي قد لا يتوقع فيه أحد المتلقين "الكلاسيكيين" مثل هذه "الشطحة" التاويلية، فإنني أتوقع أكثر منها في ظل المد "الدريدي" .

 

شطحة دريدية في تأويل عنوان "غودو":

لو رحنا إلى التأويل الأخير فسنصبح في موقف مماثل لمواقف التفكيكيين وزعيمهم الخالد "جاك دريدا" الذي تمادى وأسفّ وتضاحك في التعامل مع موضوعة خطيرة من نوع أطروحة "موت المؤلف" تماد وإسفافا وتضاحكا "فلسفيا" لم تنجم عنه سوى "تخمة" مبتذلة في التأويلات. و (تخمة كهذه، انسحبت على مسرحية صموئيل بيكيت "في انتظار غودو"، وهي تخمة ردّها صموئيل بيكيت وسخر منها، لأنه اعتبر، أنها تنحرف بنصّه، وتنزلق به إلى معان لم يقصد إليها، وإلى رموز ألسنية لا توافق نصّه، وإنما تقتحمه لتلبسه من الأزياء ما شاء لها . فالتفكيكيون الذين أقرّوا بـ "موت الفاعل" ليجعلوا النصوص عرضة للنهب والتحريف . كان عليهم التنبّه إلى أن بيكيت "الفاعل" الذي لم يكن قد مات بعد، استعاد نصه "المترف" وردّه إلى بساطة معانيه، وثبّت حقائقه الموضوعية، وأسقط عنه كل ادعاء غيبي أو ميتافيزيقي .

فبانتظار غودو مسرحية أتمها صموئيل بيكيت في 29 يناير من العام 1949، وكان في نيّته الهرب من كتابة "الفوضى الوحشيّة" التي تحملها الروايات والقصص . ولما جاءه مخرج المسرحية روجيه بلين يسأل: ماذا يعني غودو؟ قال بيكيت:

"لقد نحتّ هذا الإسم من لفظتين عامّيتين هما Godilot و Godasse، أي الحذاء العسكري، أو الحذاء الضخم الذي لا علاقة له بلفظة God الإنكليزية . وقد شئتُ في هذه المسرحية أن يكون "للأقدام" معاني الغلبة والتفوّق . ثم أن هذه المسرحية كُتبت بالفرنسية، يكون الله فيها هو "Dieu" وليس "God" ولو أن الله هو المقصود لقلتُ ذلك" .

لقد كتبت هذه المسرحية السيئة جدا بمنتهى العجالة والتردد . ولا أزال أحتفظ بمخطوطاتها ومسوداتها التي أبيت أن أبيعها . فأنا إذ كتبتُ مسرحيتي كنتُ أتمنى انفراط عقد الكتّاب الإيرلنديين الناشئين المتحلّقين حول جيمس جويس، طمعا بتكريس سلطتي والإقرار بتميزي وتفرّدي " .

لذا فإن مسرحية "غودو" التي تود التحرّر من سلطة "الأقدام" الكابوسية، لها ما يفسرها في التحليل النفسي، لأن انتعال المرء لحذاء غيره يدل على تمنّي الحلول محلّه . من هنا السؤال الذي أغفله النقّاد: هل كان حذاء جيمس جويس هو الحذاء الذي ينتظر صموئيل بيكيت أن ينتعله، وهذا ما يبرّر عنوان المسرحية؟

لذا فإن صموئيل بيكيت كثيرا ما اعترض على تأويلات لفظة "Godot " التي لا ترمز إلى المسيحية وإلهها أو إلى القيامة أو الانبعاث وقد ظلت كثرة التأويلات تثير ذهوله .

إن قراءات كهذه تجعل النقد "تسلّطاً" لا سلطة، وهو تسلّط يشبه تسلّط الأحذية الضخمة أو الأحذية العسكرية التي تبيح سرقة الغير وانتهاك حرماته " (58) .  

 

عودة: كارمن رمز الشعوب المقهورة:

.. لكن لوجه "كارمن" جانبه الرمزي الذي يفضح العدوانية الإسبانية التي أغرقت الأرض الجديدة التي أول من شاهدها خوان/ حامد، زوج "كارمن" بسيول الدماء واقترفوا على أرضها أبشع الفظائع التي تحاول الدولتان الإستعماريتان: إسبانيا والبرتغال طمس معالمها ومحوها من الذاكرة الإنسانية . لكن يبقى الضمير الشاهد والشريف يقظا ومتحفزا في أعماق المبدعين . يصوغ جابر شهادة للروائية "إيزابيل ألندي" من روايتها "إنيس .. حبيبة روحي" على لسان أحد أعضاء المخيم هو الناقد الأرجنتيني "كارلوس" – وهنا تتضح فكرة زج أرجنتينيين ضمن المخيم - والذي أقحمه جابر بلا مقدّمات بفعل حماسته:

(إن الإسبان إذا أرادوا تحريك مفرزة من فرسانهم في براري أمريكا الجنوبية، يقوم كل فارس باختيار فتاة مُرضعة أو أكثر من الهنديات بعد أن يجبروهن على ترك أطفالهن لمصيرهم، وقد يقذف الفارس بالرضيع جانبا فيتهشم أمام أمّه ... تُربط المُرضع الهندية بحبل ويجرها الفارس خلف جواده ماشية، يفعلون كل هذه البشاعة والوحشية والقسوة، فقط للإحتياط، لكي يرضعوا أثداءهن إذا تعرّضوا للجوع أو العطش في وسط الصحراء ) (59) .

ولكن جابرا لم يلتفت إلى مشاهد مروّعة نقلتها ألندي في مواضع أخرى من روايتها تمثل تعبيرات أفظع وأبشع تمزّق حتى إمكانيات المخيلة الوحشية ولا تُصدّق عن هذا المزاج الدموي لدى الجنود الإسبان في تعاملهم المرعب مع مواطني أميركا اللاتينية العزّل الأبرياء ؛ أميركا اللاتينية التي أغرقتهم بالذهب فأغرقوها بالدماء (ص 159) .

لقد ذكرت إيزابيل ألندي أيضا أن الجنود الإسبان كانوا يجرّون خلفهم الهندي بحبل مربوط حول رقبته في الصحارى ولمسافات بعيدة، وعندما يموت هذا المسكين، ولأن الجندي الإسباني يحتاج الحبل أكثر من الهندي، فإنه لم يكن يكلّف نفسه بفكّ عقدة الحبل، ولكن يقطع رقبة الهندي !! . هنا يتسع رمز كارمن لـ (تعني شعوباً، امّحت ألوانها، شُطبت برصاص الإسبان ووحشيتهم، المايا، الأزتيك، سلالات الهنود الحمر العريقة، وتعني وهي تنتقل بإشاراتها بين تمثال فرديناند وبين تمثال خوان الموريسكي، زوجها، تعني: الأندلس – ص 160 ) .

 

الديك الذهبي ؛ واشنطن إرفنغ وحكايات الحمراء:

فيوسّع جابر الرؤية لتشمل شعوبا مقهورة أخرى في العالم توحّدها بمحنة شعبه الأندلسي العدوانية الدموية الفظيعة للمحتل الإسباني . مثلما سيوسّع معانيها حين يتحدث عن تمثال الخيرالدا الذي حل محل "ديك الرياح" الذي اشار إليه واشنطن إرفنغ في حكاياته الأندلسية التي ضمها كتابه السردي "الحمراء" (60) . ولتأليف هذا الكتاب فيما يُروى قصة، إذ إن آرفنغ الذي غرق في حب قصر "الحمراء" ومافيه من الفن المعماري الأندلسي العجيب، وما توحي به أجواؤه وقاعاته وغرفه من قصص بعضها حقيقي وبعضها خرافي عدل عن مهمته السياسية الدبلوماسية وقرر البقاء في غرناطة عاماً وبعض العام يتردد إلى باحات القصر وحدائقه ومقاصيره يطيل في بعضها الجلوس أياماً، وهو يكتب ما يمليه عليه وحيه من تلك المشاهد التي يرى .‏

وفي مرحلة من الرحلة إلى الأندلس يرافقه أمير روسي يدعى دول غوركي . ولهذا الأمير فيما يذكر المؤلف اهتمامات بالأدب العربي والإسلامي . وسبق له أن شغل منصب سفير لبلاده في طهران . مما يفسر أو يلقي الضوء ـ بكلمة أدق ـ على انتقال بعض قصص الحمراء التي دوّنها واشنطن إرفنغ في هذا الكتاب إلى الأدب الروسي، وتأثر شاعر روسيا الأكبر "الكسندر بوشكين" (1799-1837) به، والذي يشير في بعض قصائده إلى حكاية المنجّم العربي التي وردت في هذا الكتاب .‏ وهذه الحكاية التي استثمرها بوشكين وأشار إليها جابر هنا هي في الواقع نتاج حكايتين وردتا في كتاب إرفنغ ؛ الأولى هي حكاية "ديك الطقس" التي ذُكرت أيضا في كتاب "المقرّي التلمساني" "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب" . فقد وردت فيه حكاية زعم فيها المؤلف أن "أبا الحسن" - والد أبي عبد الله الصغير -  أراد إظهار هيبة الدولة في عهده فنظم عروضاً عسكرية استمرت أياماً عدة .‏

وفي اليوم الأخير للعرض تغيرت أحوال الجو تغيراً مفاجئاً إذ غطت السماء سحابة كبيرة سوداء سرعان ما تدفقت منها الأمطار غزيرة مدرارة. وفاض نهر "حدارة" – هل هو النهر الذي يُسمّيه جابر بـ "حيدرة"؟ - وأدى الفيضان إلى كثير من الخسائر في الممتلكات والأرواح . وأدت هاتيك الخسائر إلى تراجع قوة المملكة فدبّ فيها الضعف الاقتصادي والعسكري مما عجّل في سقوطها .‏

وإلى هنا تبدو الحكاية رواية تاريخية لا أثر فيها للخيال الشعبي . إلا أن آرفنغ يعود بنا إلى زمن سابق . هو زمن "حبوس بن باديس" الذي يُنسب إليه بناء قلعة الحمراء وهي نواة القصر المعروف . وتقول الحكاية إن حبوساً هذا شيّد برجاً سماه "بيت ديك الطقس" وُضعت عليه صحيفة معدنية ذات محور يتحرك باتجاهات أربعة. وقد حفر عليها شكل ديك فإذا هبّت عليها الريح من الشرق مثلاً اتجه الديك نحو الغرب وأخذ يطلق صوتاً يشبه صياح الديك . فيعلم أن الريح شرقية، وهكذا. ويقال إن ابن باديس كتب على الصفيحة عبارات ترجمتها:‏

" القصر في غرناطة المشرقة يخبر بالقصة

فالفارس الذي من جماد يدور مع الريح‏

وهذا سر يعرفه العاقل،‏

فقريباً سيُدمّر القصر وملوكه "‏

وتضيف الحكاية أنه في اليوم الذي كان فيه أبو الحسن يستعرض قواته وهو اليوم الأخير للعرض ضربت الريح "ديك الطقس" من جهة الجنوب الغربي، ورُؤيت العاصفة وهي تتقدم، وكان ما كان، أي أن ابن حبوس هذا كان قد تنبأ بحتمية سقوط غرناطة وقصر الحمراء مع أنه هو أول من مصّرَ غرناطة، وجعل منها دولة من دول الطوائف.‏

ولا ريب في أن مثل هذه الإضافات من إنتاج الخيال الشعبي الإسباني الذي يحاول منذ وقت طويل إضفاء الطابع الحتمي على حروب الاسترداد .‏

أما الحكاية الثانية فهي "حكاية المنجّم العربي"‏ . يستهل المؤلف هذه الفصلة من كتابه بعبارة: "في غابر الزمان كان هناك ملك عربي يحكم غرناطة يُدعى ابن حبوس تقدّمت به السن"، وهذا الاستهلال لا يذكرنا بشيء مثلما يذكرنا بالقاص الشعبي إذ يبدأ سرد حكايته الشعبية على مسامع المستقبلين .‏

ويبدو أن هذه الحكاية من اختراع الخيال الشعبي الذي أرد إيجاد تفسير للإبداع الفني الخارق في بناء قصر الحمراء المنيف في قمة هضبة عالية تستعصي على الغزو. فتزعم الحكاية أن القصر بُني فوق قصر مسحور بناه منجّم عربي قدم إلى غرناطة في زمن حبوس بن باديس.‏

وتمضي الحكاية فتزعم أن إبراهيم بن أبي أيوب منجّم عربي عاش في عصر الرسول ص) وأنه شارك في فتوح مصر على عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وأنه تعرّف على ساحر ومنجّم مصري أفضى إليه بسر يتعلّق بكتاب سليمان الحكيم الذي هو بحوزة الكاهن الأعلى المدفون بأحد الأهرامات المصرية.. وتذكر الحكاية أن المنجّم ابن أبي أيوب لجأ إلى الدهاء والحيلة حتى وصل إلى مومياء الكاهن المصري، وهناك مزّق عنه الأكفان واستولى على الكتاب الذي كان يضمّه الكاهن إلى صدره، وعرف من هذا الكتاب الكثير من أسرار التنجيم والسحر.‏

وتدور الأيام بالمنجّم ليجد نفسه في بلاط حبوس بن باديس ملك غرناطة. وكان قد بلغ شأواً من العمر أعجزه عن خوض الحروب ضد أعداء مملكته. فأراد وسيلة تحميها من غير أن يخوض حروباً جديدة. فما كان من المنجم إلا أن تقدم عارضاً وسيلته وهي تعويذة سحرية تتألف من مجسّم كبش وآخر لديك يوضعان في برج يُبنى لذلك خاصة. وبينهما فارس يحمل رمحاً وترساً فإذا ما اقترب الأعداء من إحدى الجهات تحرك المجسّم فيصيح الديك ويوجّه الفارس رمحه في اتجاه الخطر. وأمام ذلك كله توجد رقعة تشبه رقعة الشطرنج يصطف فيها جنود يرمزون لجند ابن باديس وآخرون يرمزون لجند الأعداء، وما على ابن حبوس في حال الخطر إلا أن يوجّه الفارس لطعن أولئك الجنود فينقشع الخطر في الحال.‏

ويكافئ ابن باديس المنجّم العربي، فيمنحه ـ بناءً على طلبه ـ كهفاً وأثاثاً وفراشاً وثيراً فاخراً ومجموعة من الراقصات والجواري الحسان يقمن على خدمته.‏

وفي غمرة الإحساس بالسعادة والأمن اللذين تمتع بهما حبوس بفضل ذلك الطلسم حدث ما لم يكن بالحسبان. إذ فوجئ في أحد الأيام بصياح الديك، وتنكيس الفارس لرمحه.‏

وتسلق ابن باديس البرج لينظر في الرقعة فإذا جنوده الذين يصطفون فوقها صرعى. ووسط الإحساس بالخيبة والذُعر يرسل جنده للاستقصاء فيعودون بعد أيام ويخبرونه أنهم لم يجدوا أثراً للأعداء ولكنهم عثروا على فتاة نصرانية بارعة الجمال فاصطحبوها أسيرة. وقد شغف كل من حبوس والمنجّم بحب الأسيرة، كلٌ منهما أرادها لنفسه.‏

واحتال المنجم على سيده بأن وصف له مدينة "إرم" التي ورد ذكرها بالقرآن الكريم، وأوهمه أنه يستطيع بناء مدينة مثلها ذات بوابة كبيرة ينقش عليها طلّسم اليد والمفتاح.‏

وطلب أن تكون مكافأته أول من يدخل تلك البوابة. واختار الهضبة وبدأ بناء المدينة المسحورة وكانت أول من دخلت البوابة الكبيرة هي الأسيرة التي كانت تمتطي حصاناً فتيّاً صغير السن. وهنا اكتشف حبوس أن المنجّم نجح في الاحتيال عليه. وأن بناء المدينة المسحورة والبوابة الكبيرة لم يكن سوى خدعة الهدف منها حصول المنجّم على الفتاة. وهنا أراد حبوس التنكّر لما وعده به من مكافأة فانشّقت الأرض، وابتلعت المنجّم والأسيرة، وتلاشت المدينة المسحورة فوراً. وعاد ابن باديس إلى قصره حزيناً كاسف البال، فقد خسر الفتاة التي هام بها هياماً شديداً، وخسر المنجّم بما كان يعنيه له من عون يركن إليه للتغلب على أعدائه. بعد ذلك تناقل الناس أخباراً عن الغناء الذي يُسمع بصوت الأسيرة الجميلة في المكان الذي انشقت فيه الأرض. وزيد على ذلك بأن رُويت حكايات عن رعاة انشقّ لهم الصخر وتمكنوا من رؤية القصر القائم تحت الأرض.‏

ورأوا المنجّم مضطجعاً على سريره فيما كانت الفتاة الإسبانية الجميلة تعزف ألحاناً عذبة وتغني بصوتها الساحر الذي يذهل الجميع ويجعلهم يستسلمون لنومٍ عميق.‏

وتنتهي الحكاية الشعبية بوفاة حبوس. ثم تمر سنوات طويلة بعد ذلك يُبنى فيها قصر الحمراء على ذلك الجبل المملوء بالأحداث وبشكل تتحقق فيه المباهج الخفيّة التي تعد بها جنة "إرم". وأما البوابة التي نُقش عليها الطلسم، اليد والمفتاح فما تزال باقية حتى الآن، وهي البوابة المسماة "بوابة العدل"، وحتى زمن واشنطن إرفنغ كان الإسبان الذين يعيشون في غرناطة وما جاورها يعتقدون اعتقاداً لا يخامره شك بأن المنجّم العجوز ما زال في قاعة تحت الأرض يتمايل برأسه طرباً على إيقاع القيثارة الفضية والصوت الرخيم لتلك الأسيرة . وقد "استعار" بوشكين جوهر وشكل هذه الحكاية في قصّته "الديك الذهبي" وعلى أساسها بنى "ريمسكي كورساكوف" أوبراه الشهيرة "الديك الذهبي" . ويلخّص جابر موقفه من كل هذه المداخلات شعرا في "القراءة الثانية" من حكاية كارمن وهي عن المضمر في تمثال "الخيرالدا":

(.. أنجب الخيرالدا ديكا صائحا، لاشك أنه كان وريثا للمؤذن فجرا، لذا باض الخيرالدا فولد ديكا، حبّة حبة سيلتقط الديك الذهبي رمّانته ..

وعلى مبعدة كان فرديناند يردّد: سنلتقط غرناطة، حبّة حبّة كالرمّانة .

"عاش الديك آكل الرمّان الروسي

وفيفا فرديناند آكل غرناطة

كل شيء أحمر

كل شيء أحمر في غرناطة

إسمها

وقصرها

علم الثوار الموريسكيين في حي البيازين ؛ أحمر

وعلى باب الرمّان، تحت راية فرديناند

دماء الغرناطيين، لم تبهت بعد .. "

تُرى هل سيعزف كورساكوف أوبرا الديك الذهبي لو كان يعلم بكل هذي الدماء- ص 162 ) (61) .

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2179 الخميس 12/ 07 / 2012)


في المثقف اليوم