قضايا وآراء

مراودة الصبيّة / سعود الأسدي

  تحياتي وأشواقي وباقة نرجس جبلي وإكليل غار من "جبل عرايس" الرابض بجانب  قريتي دير الأسد، أقول جبل عرايس راجعاً بحالتي إلى طفولتي وريعان شبابي إلى درجة طفرة الدمعة الساخنة، ولكن مسحت دمعتي، أو أجّلتها لأقف بين يديك منشداً:

 

يا محسنَ الفعـلِ والأقوالِ أنت لنا

ذخـرٌ وكنزٌ مدى دهـرٍ وأحقابِ

يا خيـرَ من صادقَ الأقلامَ مُمْتَحِناً

أصحابَهـا من أولي شعرٍ وآدابِ

أُهديكَ شكـري بموسيقـى مؤلّهةٍ

في الشرق والغرب من أيّامِ زريابِ

ومن أتَوْا بعده في الغـرب تعرفُهم

وهم جميعـاً إذا ما شئت أصحابي

وكـم تمنّيتُ يا أستــاذُ تسعدُني

بالقربِ مني ونبقَى البـابَ بالبابِ

ونبدأُ العمـرَ مـن أولى مراحلِهِ

من صفّ أوّل نبـداهُ كطــلاّبِ

أو أنت ترعـى معيزاً في مرابِعنا

وأنْ أكـونْ أنا في زِيِّ حَطّـابِ

وأنت تعـزفُ نايـًا في مـراودة

حـوريةً برزتْ من غيرِ جلبـابِ

أمّـا أنا فأداري غيرَهـا طمعـاً

بشـدوِ شُبّابـةٍ عـزفاً على نابي

وما ينوبُنـا منهمـا شئٌ ويشغلُنا

عشقٌ طويل المدى من تحت مزرابِ

ههههههههههههههههههههههههههه

 

وذلك لما يلي:

يعُتبر الشاعر اليوناني ثيوقريطسTheocritus (310 ـ 250 ق.م ) أبا الشعر الرعويّ أو الريفيّ وهو شعر صور فلاّحية حياتيةIdyll ، وقد حفظ لنا الزمن من شعره الموثوق ما يصوّر به حياة الفلاّحين والرعاة في مراعي جزيرة رودوس وحقولها وسفوح جبالها وينابيعها وغيرها من أماكن في جزر المتوسط، وما أجمل تلك الأشعار بما تحمله من شعر مميّز يشعرنا بأنفاس الرعيان وهم يخطبون ودّ الراعيات وحوريات الينابيع، أو يتبارون في إداء الأناشيد الساحرة، فهذا أحدهم يطلب من راعٍ آخر أن ينشد له قصيدة دافنس Daphnis لقاء عنز وكأس مزخرفة . وتدور حول دافنس أساطير أقربها أنه كان راعياً وأحبّ " كولي" ولاقى من تباريح العشق وآلامه ما أفقده الحياة .

لقد أحببت هذا الشاعر لما تحمله أشعاره من حب وطبيعة ساحرة، وأنا سعود الأسدي أقولها بكل اعتزاز وبالفم الملآن إنني قد خبرت تلك الحياة الرعوية والفلاحية التي كانت على الفطرة، وقد غطست فيها إلى أذنيّ، وهي مرجع صوري وخيالاتي وكل ما كتبته ونشرته حول التراث الريفي الفلسطيني ومنبع قصائدي الفصحى المنشورة في المواقع الألكترونية والورقية وأشعاري العاميّة الموزّعة في خمسة دواوين شعرية صدرت باللغة المحكية الفلسطينية قصداً عمداً: أغاني من الجليل، نسمات وزوابع، عَ الوَجَع، شَبَق وعَبَق، ودَعْسَة بنت النبي على اسم صخرة على مقربة من قريتي انطبعت عليها صورة قدم بشرية ـ منذ آدم أبو الأوادم ـ اسموها دعسة بنت النبي !

أقول ثانية لقد أحببت تيوقريطس وشعرت أنه قريبي عاطفة وتجربة ووجدانًا، لأن صوره الشعرية في صقلية ورودوس وسائر بلاد اليونان هي نتاج طبيعة شواطئ البحر المتوسط نعرفها نحن في إقليم الجليل وسائر ربوع فلسطين، وهي في عموميّتها لم تتغيّر منذ زمن المسيح ابن مريم عليهما السلام إلى يومنا هذا .

كان لثيوقريطس تأثير كبير على من جاء بعده من شعراء الإيديلات الريفية الرعوية، فهذا بيون Bionوهو كذلك شاعر يوناني ولد في سميرنا بأسيا الصغري عام 100 ق. م، واشتهر بقصيدة رعوية بكائية على أدونيس، وهي وسواها كانت مزامير الأدونيسيين المقدّسة في أوروبا.وكذلك الشاعر اللاتيني فرجيل Virgil(70ـ19 ق.م) في " أناشيد الرعاة " وهو بلا شك استمرار للمدرسة الثيوقريطيسية وآخرون كثيرون إبان عصر النهضة وبعده .

قلت إني أحببت ثيوقرطيس بسبب تجربتي الريفية في بيئتي الفلاحية الأولى وقد ألحت عليّ قصيدتة " مراودة الصبية " حتى ترجمتها إلى العربية وهنا كلمة ترجمتها ربما تكون ظالمة لأنه وقر في ذهن الكثيرين أن الترجمة في غالب الأمر تكون أدنى فنيًا من لغة الأصل، وهذا الاعتقاد باطل ويظلم الكثيرين ومنهم ابن المقفّع في كليلة ودمنة، ولكي أدلل على مدى صحة قولي أنصح بالرجوع إلى كتاب Erotic Poetry لمؤلفه وليم كول والكتاب سفر جليل يقع في خمسمائة صفحة وصفحة صدر عام 1963 ويضمّ مختارات شعرية شهية جدّاً، تغطّي معظم الحضارات منذ البابليين إلى العصر الحديث، ومنها "مراودة الصبية" التي قمت بتذويتها الى العربية ولبيئة ريفية فلاحية بإضافة بعض الرتوش التجميلية المستمدّة من حياة الفلاح الفلسطيني التي عشتها بحذافيرها إلى أوّل شبابي.

وتجدر الإشارة قبل الشروع بمراودة الصبية إلى القول إنّ ثيوقرطيس عاش في صقلية وانتقل إلى الإسكندرية يوم كانت منارة العلم والأدب والحضارة، ثم عاد إلى رودوس هروباً من " نفاق المدينة وحسد شعرائها وغيرتهم " ليعايش الفلاحين والرعاة في الحقول والكروم والمراعي في السهول والجبال والأودية، ويصف حياتهم ويشعرنا بأنفاسهم وهم يخطبون ودّ الفلاحات والراعيات القرويات وحوريات الينابيع بلغة يومية حيوية معيشة، لا تكلّف فيها ولا صنعة، ولا مجازات أو كنايات لغوية مُقحمة ولا تعقيدات شعراء " المدرسة الإسكندرية " بل كانسياب ينابيع جزر صقلية وقبرص ورودوس في البحر المتوسط والقصيدة حوارية تقول:

الصبيّة: كيف وقعت هيلين الذكية في يد فلاح عاشق مثلك؟

دافنس: كلاّ فإنّ هيلين الحقيقية كانت تقبّلني منذ لحظة .

الصبية: لا تفتخرْ ! أيّها الشبق كتيس ماعز ! وهل هناك أتفه من القبلة ؟!

دافنس: ومع ذلك فإنّ في التافه اللذيذ نعمة وأيّ نعمة، هيّا نجرّبْ !

الصبية: كلا ابتعدْ ! سأغسل فمي بماء نقعة الصخر، فقد أكلت لتوّي بقلات الهندباء والشومر والمُرّار، وسأرى بعد ذلك إلى أين ستذهب قُبلُك .

دافنس: إلى أين ستذهب قُبلي ؟ وهل هناك غير فمك ؟! .

الصبية: إذهبْ وقبّلْ تحت ذيل بقرتك الكحلاء، أوعجلتها الصغيرة المحجّلة فإنها أشهى .

دافنس: لماذا تتكبّرين فالجمال حلم ثمّ يتبدّد .

الصبية: إنّ تقادم عنقود العنب يجعله زبيباً أحلى، والورد الشاميّ مهما ذبل فسيبقى عبيره فيه .

دافنس: الله ! يا زيوس العظيم ! منذ متى أنت شاعرة بوزن سافو(Sappho) الليسبوسية .

الصبية:ومن تكون سافو هذه أحضرْها لي ! وسأعلّمها الشعر، فأمّي رحمها الله كانت شاعرة مراثٍ وبكائيات من الطراز الأول .

دافنس: رحم الله أمّك دعك من ذكرها فانا على حافة البكاء عليها فقد كان صوتها يلعلع في الحارة وهي تشاجر الجارات .

الصبية: أمي تشاجر الجارات يا ابن الشلقطيّة !

دافنس: نعم كانت الجارة تنعتها بأم القمل ! وأمّك تردّ عليها انصرفي يا أم الرقاقيع !

الصبية:أمّي أم القمل يا ابن الفاعلة ؟!

دافني: آسف هذا كلام كان في زمان مضى ,, تعالي معي نأوِ إلى جذع تلك الزيتونة الغامرة فلا ترانا أعين الرعاة الخبثاء . وأنا عندي حكايات وقصص عن عاشقات القرية فكل فتاة لها عشيق وأكثر .

الصبية: لقد شوّقتني بربك أسرعْ ! هاتِ يدَك ! ولندخل تحت أغصان هذه الخرّوبة الغامرة !

دافنس: الحق بيدك الخروبة تسترنا أكثر .

الصبية:لا تقصُصْ علي خرافات ! فكم خدعتَني من قبل بكلماتك الرقيقة . أريد قصص غرامية جرت في الواقع !

دافنس: وهل هناك أحسن من هذا الواقع ؟!

الصبية: ماذا تقصد ؟

دافنس: لنترك القصص إذن ! وتعالي نجلس تحت شجرة الدوم تلك، وسأعزف لك على مزماري .

الصبية: إذهبْ الى شجرتك واعزفْ لنفسك ! عزفك يجعلني أبكي .

دافنس: تبّاً تبّاً ايّتها الصبية الحلوة ! وكفى هزءاً ببافوسي يعبد أفروديت.

الصبية: حتى إذا دام عطف أرتميس، فلا قيمة له بالنسبة لي .

دافنس: هُصْ ! لئلا تسمعك وتضربك بشدّة .

الصبية: لتضربني وتوقعني بحبائلها كما تريد .

دافنس: ومع ذلك فإن أرتميس تبقى مخلّصتك .

الصبية: ابعد يدك عنّي ! ولا تلمسني ثانية ! وإلاّ سأمزّق شفتك بأسناني .

دافنس: هيّا افعلي ! وهل ستبقين عذراء؟ دعي الحبّ ينساب !

الصبية: أقسم بالإله (بان) بأنّك متيّم، يستعبدك العشق، وأما أنا فلا .

دافنس: أشكّ أنّ والدك سيعطيك إلى من هو أفضل مني .

الصبية: كثيرون يتودّدون إليّ، أمّا أنا فلم أشعر بالميل لأحدهم .

دافنس: ولكن في النهاية سيأتي واحد مثلي، وتكونين من نصيبه .

الصبية: الويل لي من رباط الزوحية، ايها الفتى العزيز ! ماذا أستطيع أن أفعل ؟

دافنس: لا تقولي الويل لي بل افرحي وارقصي !

الصبية: سمعت كثيراً أنّ النساء يخشين الرجال .

دافنس: طبعا فإن الرجال قوّامون على النساء، ولكن ليس هناك ما تخشاه المرأة من زوجها، فكيدها في الغالب عظيم .

الصبية: كيدها عظيم يا .. يكفي النساء تعب الحَبَل والحَمْل تسعة أشهر، وسهم إلهة الولادة مؤلم جدّاً، أوّاه لي منه .

دافنس: ولكن رحمة إلهة الولادة قريبة، وأرتميس مليكتك .

الصبية:لعلّ ما تقوله صحيح، وما هو المهر الذي ستدفعه لي ؟!

دافنس: لك الجَمَل وما حَمَل، هو ذا قطيعي، وتلك أرضي، وذا الوادي،

الكلّ لك .

الصبية: كلاّ أقسم لن اتزوّج اتركني لأحزاني !

دافنس: أقسم بالإله بان Pan لن أتركك . أمن أنت فلا تقولي لي اذهبْ !

الصبية: وهل سيكون لنا كوخ، وأرض أزرعها، وصيرة للغنم ؟

دافنس: أن كوخنا يوشك أن يتمّ بناؤه، والكباش المخصيّة ستغطّي السفح .

الصبية: حسناً وكيف سأخبر والدي العجوز ؟

دافنس: إنّ والدك حال سماع اسمي سيوافق .

الصبية: اسمح لي بان أقول:إننا كثيرًا ما تخدعنا الأسماء .

دافنس: ولكن أنا دافنس ابن لوسيد ونومايا .

الصبية:أعرف أنّك دافنس على سن ورمح، وابن حسب ونسب، ولا تنسَ أنني كذلك !!

دافنس: أعرف أنك ابنة مَنَلْكاس، وأنك تستحقين رجلاً ذا مكانة مثلي .

الصبية: أرني من فضلك تلك الأجمة الخضراء حيث يرعى قطيعك !

دافنس: بل انظري هناك كم أشجار صُباري خضراء وباسقة.

الصبية: وأنت إذا حكم النصيب فسترعى الماعز، وأمّا أنا فسأتعلم حرفة تجارة القطعان ،

دافنس: هَه .. بدأنا نختلف، بل ستطعمين الثيران! تعالي يا حلوتي سأريك أشجاري الملتفّة .

الصبية:لماذا ندخل بين الأشجار الملتفّة إنّ دخولي مع شاب شبِق بين الأشجار الملتفّة يثير ريبتي ؟ ماذا تعني أيها العاشق ؟ وتجرؤ إلى حدّ بعيد !

دافنس: هنا لا يرانا أحد هذا الخصر الرقيق ما أجمل أن أضمّه !

الصبية:أرجوك أستحلفك بالإله بألاّ تلمسني ! أكاد أن أغيب عن الوجدان .

دافنس:لا تخشي شيئاً أيّتها الحسناء الجبانة ! لا تفزعي أنت بيدين أمينتين!

الصبية: هنا ضفة الجدول رطبة، وأخشى أن يلطّخ الوحل ريطتي .

دافنس: أنظري ها هنا الأرض جافّة، وسأفرش لك فروتي الناعمة .

الصبية: وأراك تحلّ تكّة سروالي ! ماذا يعني هذا ؟!

دافنس: سأقدّم تكّة سروالك هدية لمعبد أفروديت .

الصبية:لا تفعل أيّها النذل! لا تمد يدك أيّها الخسيس ! أسمعُ أحدهم قادماً، اسمعُ خرفشة ووشوشة ها اسمعْ !

دافنس: هذه خرفشة الخرفيش فهناك سلحفاة تقضم ورقه اليابس، لكن الوشوشة فهي حفيف أوراق صفصاف النبع تتهامس لفرحنا وهذه الأرض حولنا لا دومريَّ فيها !

الصبية: لقد قطّعتَ مدرعتي فأصبح صدري عارياً .

دافنس: سأهديك صداراً أوسع قليلاً من صدارك الضيق هذا ليضمّ رمّانتي صدرك.

الصبية: مذ متى أنت كريم؟ وفي يوم ما ستبخل عليّ برغيف الخبز .

دافنس: بل ساذبح لك كلَّ يوم قرقوراً .

الصبية: لتغفري لي يا أرتميس ! فالناسكة حنثت بقسمها أوّاه لي ! يا ويلتاه !

دافنس: الحبّ وحبّ الأمّ ذلك ما وجب بين البقرة وعجلتها .

الصبية أواه لي ! يا ويلتا !

دافنس: كوني امرأة ! كوني أمّا! فأنت لن تكوني فتاة بكراً بعد اليوم.

ويتمازج همس الحبيبين، ويتوهّج وجهاهما، ويطول أمد العناق والقبل .. ولما أزفت ساعة الوداع سارت الصبية في مسربها وفي قلبها نور وهّاج .

أمّا هو فقد جرى مسرعًا يلمّ شتات أبقاره وعجوله التي فرّقتها لسعات حشرة " القيقوب " فشالت ذيولها راكضة في كل اتجاه، ولاذ بعضها بأعباب أشجار الخرّوب المتدليّة، واغتنمت بعض عجوله فرصة انشغال الراعي عنها، وانفلتت ترعى الزرع المجاور، وكان يوم ذلك الراعي أسعد أيام حياته .

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2179 الخميس 12/ 07 / 2012)


في المثقف اليوم