قضايا وآراء

يحيى السماوي .. البساطة المُربكة (5) / حسين سرمك حسن

على "غرار" أبيات وصور شعراء سبقوه، أو يُضمّن قصائده إشارات من مصادر مختلفة بضمنها الكتب المقدّسة من دون أن تكون ضمن غاياته المسبقة التحرّش بتلك المرجعيات . هذه الغايات نحكم عليها من خلال الوظيفة الجديدة للمقبوس أولا، والسياق الذي سوف يأتي ضمنه ثانيا، وطبيعة العلاقات الجديدة التي سينشئها الشاعر بين أطراف السياق ثالثا . فحين يقول "عبد المؤمن الأصفهاني" مثلا:

(لا تغرّنك َ من الظَلَمة كثرةُ الجيوش والأنصار "إنما نؤخّرُهم ليومٍ تشخصُ فيه الأبصار")

أو حين يقول سناء المُلك:

رحلوا فلستُ مسائلا عن دارهم

أنا "باخعٌ نفسي على آثارهم"

فإن المقبوسين القرآنيين المعروفين جاءا في السياق الدلالي والبنائي نفسه تقريبا، بمعنى أن الظلمة مثل الكفرة في القرآن يؤخرون ليوم القارعة الذي لا تطرف فيه عين أبدا، وأن الشاعر سيقتل نفسه – مثل حال المُخاطب" في الآية الكريمة – همّاً على آثار أحبته . لكن لاحظ أن سياق الإقتباس الأخير قد تغيّر حيث حل الأحبة محل الكفار ولكن ليس بالعلاقات المقابلة بل باستعارة دلالة النيّة فقط .

أمّا يحيى، فإنه يصمّم مسبقا وظيفة جديدة للمقبوس وفق سياق جديد وعلاقات جديدة، فبعد أن ساءل الحبيبة التي حلت محل المصلوب عن الأوان الذي سوف تترجّل فيه أمطارها عن سرج غيومها – وقد أحالنا بدقة إلى المقولة الأصل التي تتساءل عن "الفارس" من خلال مفردة "السرج" – فإنه يحثّها على أن توقظ:

(البيادر من سباتها

فالعصافير مصلوبة السقسقة)

أصبح الصلب شفيفا آسراً واعداً بالنماء والإنتعاش والحياة . وباستخدام مفردة "البيادر" يغلق يحيى تساؤله الأول الذي استهل به نصّه حين جاء مبعوثا من "البيادر" المثكولة:

(حقولي المُثكلة البيادر

بعثتني إليك ِ

حاملا بذور أبجديتي

متوسّلا حدائق كتفيك ِ أن تعلّمني

سرّ انفلاق الياسمين)

وبعد هذا التساؤل يأتي تساؤل آخر مكمّل لكنه يكشف جانبا من السمات الأسلوبية للشاعر:

(ما لي وحقولهنّ؟

عشبةٌ واحدةٌ منك ِ

تكفي لإغواء ينابيعي بالتدفّق)

وتتمثل هذه السمة في القاموس اللغوي الذي أنشأه الشاعر لنصوصه هذه . وهو جزء من القاموس اللغوي العام الذي يشكل المورد الرئيس للشاعر ويضم المفردات التي تحضر فورا وتقفز من مخزون ذاكرته لتشكل المادة الأولّية للتعبير عن أفكاره صوراً واستعارات . ولكل شاعر مبرز قاموس شعري لغوي . ولو تأملت هذه النصوص التي بين يديك سيّدي القارىء لوجدت أنها تشكل قاموسا لـ "فلّاح" شعري .. لسانه من لسان الطبيعة بكل مكونات الخصب فيها .. وهذه من عطايا الظلال الأنثوية اللاشعورية في الشخصية، تلك الظلال التي اشبعناها بحثا في كتابنا "سماويّات " عن الشاعر الذي صدر في العام الماضي بدمشق . وفي هذا النص الخامس والسبعين تجد ما يلخّص روح هذا القاموس من مفردات الخصب وفعل الطبيعة الذي يتضمن أيضا إيحاءات الفعل الجنسي وتمظهراته كما سنرى لاحقا: العشب، الحقل، البيدر، البذور، الحديقة، الإنفلاق، الياسمين، الينبوع، المطر، الغيوم، الحراثة، الربيع، العصافير .. وهذا في نص واحد معبّر .

ولتوضيح الكيفية التي تتلاعب بها الوظيفة الجديدة والسياق الجديد والعلاقات الجديدة بالدلالات المؤسّسة في وجداننا ولاشعورنا الجمعي يبشّر يحيى ذاته بجنّات تجري من ..:

(وابشّرني بجنّات تجري من فوقها المواويل)

فما اعتدنا عليه قرآنيا هو أن الله يبشّر المؤمنين بجنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ابدا . ويتسق الفعل "تجري" مع طبيعة حركة "الأنهار" . لكن جنّات يحيى "تجري" من فوقها "المواويل" . كما أنه هو الذي "يبشّر" نفسه بهذا الثواب العظيم بعد أن جعلته معجزة الحبيبة "رسولا":

(أعيديه عصر معجزات ٍ

وكوني معجزتي لأغدو رسولك

أبشّر:

العانس بالأمومة

الأطفال بالأراجيح

العشّاق بالسفرجل

الصحارى بالكلأ)

ولاحظ أن إنسانية هذا الشاعر الرسول لا تبشّر العانس بالزواج بل بالأمومة في مداورة تطهرية ذكية، وهو يعلم أن الأمومة تتضمن المواقعة الجنسية .

وليس غريبا أن يتوقف القارىء عند تبشير الشاعر الذي غدا رسولا "العشّاق بالسفرجل" وسيضع الكثير من علامات الاستفهام والتعجّب . ولا أعلم كم يحتفظ أرشيف ذاكرتنا الديني من أحاديث نبوية عن "السفرجل" وصلته بالرسل وبجمال الوجه والقوة الجنسية .. إلخ . لنقرأ:

(عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: كلوا السفر جل وتهادوه بينكم، فإنه يجلو البصر وينبت المودة في القلب . وأطعموه حبالاكم، فإنه يحسن أولادكم . عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: السفرجل قوة القلب وحياة الفؤاد ويشجع الجبان. عن الصادق (عليه السلام) قال: من أكل السفرجل أجرى الله الحكمة على لسانه أربعين صباحا . وقال (عليه السلام): رائحة السفرجل رائحة الانبياء . قال (عليه السلام): من أكل السفرجل على الريق طاب ماؤه وحسن وجهه. من كتاب الجامع لابي جعفر الأشعري، عنه (عليه السلام) قال: ما بعث الله نبيا قط إلا وفي يده سفرجلة أو بيده سفرجلة.
وقال (عليه السلام) أيضا: رائحة الانبياء رائحة السفرجل . ورائحة الحور العين الآس . ورائحة الملائكة الورد . وما بعث الله نبيّاً إلا أوجد منه ريح السفرجل .

 

وقفة تبشيرية أخرى:

في مقطع آخر هو المقطع الثالث والستين يعود يحيى إلى موضوعة الدور الرسولي التبشيري، واعداً العانس والأشرعة والتويجات ويومه بوعود جديدة، ومكرراً – نصّاً حرفياً - وعد الصحراء بالكلأ، ومشترطا تحقيقها بالإلتحام الجنسي الرمزي كما سنرى لاحقا:

(نازلاً في صعودي إليك ِ

إلى حيث تُقيم الفسيلة في جذورك ِ

مُبشّرا:

نهد العانس بالدُر

والصحارى بالكلأ

والأشرعة المشلولة بالريح

والتويجات بالمياسم

ويومي بغدك ِ

فافتحي مِكحلتك لمرودي

لتغدو أجفان الليل ِ

أبهى)

 

عودة لاستكمال الديانة الجديدة:

ولكي يستكمل عالم "الديانة" الجديدة ملامحه فإن الشاعر لا ينسى أن العدوانية سلاح أساس بيد الفضيلة على عكس الصورة المنزّهة السابقة:

(وانذر المارقين بالبرص واللعنة

وحفّأري القبور بتعلّم مهنة جديدة

مادام الموتُ

سينحسرُ

في مملكة العشق)

وكل هذا التحوّل لن يتم إلا إذا توفّرت – كما هو معروف – "معجزة" للشاعر كي يكون رسولا .. ومعجزة يحيى هي معشوقته !!، وهذا ما أكّده قبلا في المقطع الثاني والعشرين الذي أعلن في نهايته:

(لا حاجة بي للسير على الماء

حبّك ِ معجزتي

وكتابي هديلك)

إن معجزات يحيى وكتابه "أرضيّة" تغنيه عن اعادة إجتراح معجزات معروفة لمن جاءوا قبله . إنه – كما يفصح بجلاء شعري لا غموض فيه – في غنى عن "مستلزمات" النبوة المعروفة من عُزلة ووحي وآية أولى .. كلّ هذه "المستلزمات" نعرفها في الديانات السابقة . في "ديانة" يحيى تكون المستلزمات أرضية من طبيعتها: فالخِدر هو الغار، والملاك هو "صوفائيل" .. أما آيته الأولى فتبدأ بالفعل "إعشق" .. هذه ديانة الحب التي أحوج ما تكون إليها حياتنا الكسيحة الراهنة التي نخرها الكره والمقت والغل:

(خدرك ِ حرائي

فيهِ

تنزّل عليّ صوفائيل

هاتفاً:

إعشق ْ

باسم نخلة الله

في

بستان عينيك)

والشاعر هنا يقتبس إشاريا من الآية الأولى من سورة العلق:

(إقرأ باسم ربّك الذي خلق)

 

توظيف مصير الحلّاج المأساوي:

.. ثم يزاوج يحيى بين الإقتباس القرآني واستعادة النهايات المأساوية لبعض الرموز الإسلامية الصوفية الإشكالية ممثلة بـ "الحلّاج" وذلك في المقطع الثامن الذي يقول فيه:

(سأكون "الحلّاج الجديد"

طمعاً بسيفك ِ

فاشطريني نصفين ِ

ليعلّقني الهوى على جسر صدرك ِ)

وقد قُتل الحلاج بتهمة الزندقة والقرمطة شرّ قتلة، فقد قُطع رأسه ثم قُطعت يداه ورجلاه، وصُلب على جسر ببغداد على نهر دجلة .. وقتلة يحيى/ "الحلاج الجديد" هي قتلة مقاربة حيث يُقطّع ليس بسيف جلاد صاحب شرطة بغداد كما حصل فعلياً للحلاج "القديم"، ولكن بسيف الحبيبة . ويُصلب على أروع الجسور، وهو جسر صدرها بعد أن يُشطر نصفين:

(نصفٌ فوق قبّته اليمنى

والثاني عند بقايا فمي

على ياقوتته اليسرى)

وهذا "الفداء" يحاول الشاعر إعطاءه مسحة قداسة يسيرة من خلال وصف النهد بـ "القبّة" ذات الإيحاءات المعروفة التي تتعزّز برمز "الياقوتة" اليسرى التي تلثمها آخر بقايا التمزّق الجسدي، البقايا الفموية .

وإذا كان "الحلاج القديم" قد ارتعد ولو قليلا أمام سيف الجلاد وحاول الخلاص كما تزعم بعض الروايات التاريخية، فإن "الحلاج الجديد" يسعى إليه ويطلبه مستميتا من أجل غاية وحيدة يحددها من هذه الميتة "الإستشهادية":

(عسى أن ييسّر أمري

ويشرح صدرك)

والإقتباس الإشاري القرآني معروف . وقد نُذر جسد الشاعر المقطّع ليتيسّر أمره مع المعشوقة بفعل انشراح صدرها الذي عُلقت "الأضحية" على جسره .

ولأن يحيى قد استعاد رمزا صوفيا معروفا هو الحلاج الذي انهمّ بالنقطة أيضا ومدلولاتها المكتنزة (راجع "طاسين النقطة" في "كتاب الطواسين" للحلاج بتحقيق ماسينيون)، فإنه يرسم نهاية "فنائية" جديدة هي في حقيقتها تمظهر للفناء الأول وإخراج "صوفي" للإتحاد الحسّي في حوض "نون" اللذة:

(مجدُ نقطتي:

أن تتحد بخطّك ِ

كاتحاد ماءينا في

حوضك ِ المقدّس)

وإلى الحلقة المقبلة سيّدي القارىء ..

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2180 الجمعة 13/ 07 / 2012)


في المثقف اليوم