قضايا وآراء

المسجد الإسلامي بعد انهيار القبة الفلكية

اطمأنت لهذا المعمار ووقر في أعماقها هذا الشكل، فكان تناقض المئذنة والقبة يمثل التكامل الروحي والمادي للمسجد الإسلامي.

ولم يكن مسجد قباء (أول مسجد بني في الإسلام) يحوي مئذنة أو قبة، ولا كان ضخماً يتربع على عرش المدينة، بل كان بسيطاً غاية في البساطة؛ إذ بني من اللبن وسعف النخيل، ولم تكن فيه أية زخرفة أو أي مظهر من مظاهر الترف المعماري! وقد اعتاد المسلمون أن يبنوا المساجد في كل مكان يصلون إليه لاسيما بعد الفتوحات الإسلامية، وهكذا بني مسجد في الكوفة وآخر في البصرة، وفي الشام ومصر والقيروان وغيرها.  

وقد ازدادت أهمية المسجد لدى المسلمين باطراد، وأصبح مكاناً لا يقتصر على العبادة، بل تضمن أموراً علمية وحياتية أخرى: كحلقات الدرس وحفظ الكتب والأموال، وكثيراً ما تجاوره السوق لذلك أصبح المسجد أظهر بناء في المدينة التي يقام فيها فاحتاجوا إلى (العمارة). على أن أول من فكر بوضع الزخارف وإضفاء نوع من الترف العماري لتأكيد الأهمية الروحية للمسجد هو الخليفة عثمان بن عفان (?)، فقد أعاد بناء مسجد قباء (مسجد الرسول (? )) مضيفاً إليه الزخارف ومظاهر أخرى مع علمه بأن الرسول (?) نهى عن الزخارف! ولكن لم يكن من بدٍّ بعدما تطور أثر المسجد وأصبح مدلولا حضارياً يمثل العمارة الإسلامية وواجهة تبرز أثر الدين الإسلامي.

وقد رافق اتساع المدن اتساع المسجد وظهرت (المئذنة)! وكان السبب المباشر لإضافة المئذنة إلى معمارية المسجد هو إسماع صوت الأذان إلى مساحة أوسع من الناس، على أن ظهور المئذنة لاقى معارضة ضارية من المتشددين الذين عدوها (بدعة)!! ولكنها استقرت أخيراً بوصفها جزءاً ضرورياً في عمارة المسجد الإسلامي، وقد شهدت المئذنة نفسها تطورات وتحولات في الزخارف والشكل.

ولما كان المسجد يعنى بالدرس والتحصيل العلمي، وكان علم الفلك من العلوم المهمة في الإسلام، فقد استحدثوا (القبة)، وكان استحداثها مبنياً على معطىً من معطيات علم الفلك، وهو القول: إن السماء على شكل قبة وان نجم القطب الذي يهتدى به ويعين به مكان القبلة، يقع في قمة القبة الفلكية تلك! وهكذا كانت القبة منبثقة من علم الفلك، فكانت تبعاً لذلك زرقاء أو خضراء.

وتعد الحقبة التي تلت سقوط بغداد من الحقب الذهبية في عمارة المسجد الإسلامي، إذ اندفع الناس بقوة إلى الله والدين والأولياء الصالحين من كرب وبلاء ذلك العصر المرعب، فكان الأمراء والسلاطين والتجار يكثرون من بناء المساجد، وقد أضيفت القبة إلى مراقد الأولياء أيضاً وبشكل واسع، وأشهر مساجد تلك  الحقبة (خان مرجان).

وبإضافة القبة إلى المسجد تكاملت معماريته، فأصبح حلقة وصل حقيقية بين السماء والأرض، بمئذنته الممتدة في السماء مشبهة القائم في المحراب، وقبته التي تفترش أرض المسجد مشبهة الراكع أو الساجد. وقد بقي المسجد الإسلامي محافظاً على معماريته هذه وان اختلفت التصاميم قليلا أو كثيراً فالفكرة الجوهرية واحدة في العمارة. ولكن إذا كان انطلاق القبة من علم الفلك، وخيار المئذنة سببه إيصال صوت الأذان إلى الأماكن البعيدة، فما الداعي لاستمرار شكل المسجد بهذه الهيأة مع انتفاء الحاجة إلى (المئذنة) واكتشاف حقيقة الكون بشأن (القبة)؟ 

ان علم الفلك الحديث يرفض فكرة (القبة الفلكية)، ويرى السماء فضاء لا حدَّ له، وان مجرتنا التي يلوح نجم القطب في قمة (قبتها) ما هي إلا مجرة من مجرات لا حصر لها في الكون المترامي، لذا فاننا نطالب المهندسين المعنيين ببناء المساجد أن يبحثوا عن تصاميم جديدة عصرية تبتعد عن الجمود على الشكل القديم كيلا يتحول المسجد إلى (مجرد رمز)، بل نريده أن يكون بناءً حياً متطوراً يفرض سحره وهيبته بعصرية ويؤكد تطور الدين وتماشيهً مع كل العصور. فالمئذنة ما عادت لها أهمية مع وجود التقانات الصوتية المتطورة التي توصل الى أبعد مما تستطيع أعلى المآذن إيصاله، والقبة ممكن استبدالها بالمعطى الحديث لعلم الفلك مثلما أنشئت من معطى سابق لهذا العلم. وقد دعا الله (?) إلى إعمار مساجد الله وبنائها دعوة مفتوحة إلى يوم الدين في قوله تعالى:" إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ" (التوبة18) وقوله" فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (النور36). فلنعمر مساجد الله بعصرية لتمثل روح الإسلام المتجدد الذي لا يصيبه الهرم أو القدم.  

 

د. محمد تقي جون

كلية الآداب/جامعة واسط

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1202 الاثنين 19/10/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم