قضايا وآراء

يحيى السماوي .. البساطة المُربكة (6) / حسين سرمك حسن

وعلى خطى هذا النهج نفسه، يقوم يحيى السماوي بتوظيف بعض الأحاديث النبوية . في المقطع الرابع والستين يذكر يحيى حديثا للرسول هو "الجنة تحت أقدام الأمهات" مزاوجا إياها بإحالة إلى "سدرة" يوم "الورود"، الذي جعل معناه مزدوجا، يرتبط بماء تطهير الآثام والخطايا من جانب، وبـ "زهرة اليمين" كمقابل للكتاب الذي يحمله باليمين المبارك في ذلك "اليوم" الموعود، الذي صار أليفا منزوع الرعب من جانب آخر . إنها حقا لـ "بساطة مركبة" و"مُربِكة" مفتاحها أن الغفران يُمنح الآن تحت قدمي المعشوقة المقدستين:

(إرفعي ساقيك ِ لأجثو

أليست الجنة تحت أقدامكنّ؟

خطيئاتي كثيرة

فطهّريني بماءك

كوني زهرة يميني

يوم الورود

تحت ظلال سدرة كوخنا)

وبالمناسبة فإننا نتداول هذا الحديث (الجنة تحت اقدام الأمهات) كحديث مؤكد للرسول (ص) في حين أنه يُعدّ موضوعا مكذوبا على النبي في علم الحديث .

يختم يحيى هذا النص بالقول:

(فأنا

بضعة من غدك ِ

وأنت ِ

غدي كلّه)

وبلطف يحيل ذهن القارىء من خلال مفردة "بضعة" إلى حديث آخر معروف للرسول (ص) ؛ هذه "البضعة" التي سبق ليحيى السماوي أن عالجها في المقطع التاسع:

(أحبّ الفيضانات

فهي تجلب زورقي

إلى سريرك

هات ِ كأسك وصبذني فيه

لأشربك ِ

قبلةً قبلة

رسولي بضعة منك ِ

ورسولك ِ بضعةٌ منّي

هو آيةُ صحننا

في مائدة العشق)

 

لكي لا يُفهم يحيى خطأ .. الشعر والدين والأخلاق:

عندما تقرأ ما قاله امرؤ القيس وهو "يتغزل" – في الواقع "يتعهّر" بتعبير أصرح - بحبيبته:

ومثلك ِ حبلى قد طرقتُ ومرضعٍ    فألهيتها عن ذي تمائم ِ محول ِ

إذا ما بكى من خلفها انصرفت لهُ    بشق ٍ وتحتي شقها لم يُحوّل ِ

عدّه البعض من النقاد والبلاغيين العرب القدامى بعد الإسلام قولا فاحشا يناقض مبادىء الرسالة الإسلامية وقواعدها الأخلاقية . لكن قدامة بن جعفر وضع النقاط على الحروف عندما قال: (وليس فحاشة المعنى في نفسه مما يزيل جودة الشعر فيه، كما لا يعيب جودة النجّارة في الخشب رداءته في ذاته) .

أي أن قدامة يرى أن ضعف الناحية الأخلاقية لا يمكنه أن يلغي جودة الشعر في شعر الشاعر .

ولكن هناك موقفا آخر شديد الثورية طرفاه: السيّدة "سكينة بنت الحسين" ناقدة إذا جاز الوصف، وكان لها فعلا مثل هذه الذائقة وهذا الدور، والشاعر جرير، وبيت شعر له نصا منقودا ؛ موقف ذكره أبو فرج الأصفهاني في موسوعته الضخمة "الأغاني"  - الجزء الثامن، ص 38 – قال:

(جاء جرير يستأذن عليها فلم تأذن له، وخرجت إليه جارية لها فقالت: تقول لك َ سيّدتي أأنت َ القائل:

طرقتك َ صائدة القلوب ِ وليس ذا    حين الزيارة ِ فارجعي بسلام ِ

قال: نعم .

قالت: فألا أخذتَ بيدها فرحبت َ بها وأدنيت َ مجلسها وقلتَ لها ما يُقال لمثلها . أنتَ عفيف وفيك َ ضعفٌ ؛ فخذْ هذين الألفي درهم فالحق بأهلك) . 

أما ما هو أكثر عمقا وأشد جذرية، فيتمثل في رأي الكثير من النقاد الإسلاميين في أن الإلتزام الديني يُضعف القوة الشعرية لدى الشاعر . وهو رأي "ثوري" وخطير قياسا إلى ما يجري على ساحة الثقافة العربية في الوقت الراهن . لقد أعلن أولئك النقاد صراحة إن الإلتزام الديني والأخلاقي لا يساعد على تفجير طاقات التعبير الشعري لدى الشاعر، ويضع الحواجز في طريقه ويقيّد إمكاناته الخلّاقة . وآية ذلك، الضعف الذي أصاب الشعر العربي في مرحلة إلتزامه القصيرة بأسس الفضيلة والسلوك الديني التي أعقبت ظهور الدعوة الإسلامية .

وفي خبر لأبي حاتم عن الأصمعي قال:

(قال لي الأصمعي: شعر لبيد كأنه طيلسان طبري، يعني أنه جيّد الصنعة وليست له حلاوة . فقلتُ له: أفحلٌ هو ؟ قال: ليس بفحل ...

وقال لي مرة: كان رجلا صالحا، كأنه ينفي عنه جودة الشعر) .

(وهي قضية أثبتها لهم أكثر من شاهد . "هذا حسان بن ثابت، فحل من فحول الجاهلية، فلما جاء الإسلام سقط شعره" (راجع إبن قتيبة والمزرباني) .

وقد قال الأصمعي في مرة أخرى:

"شعر حسان في الجاهلية من أجود الشعر، فقطع متنه في الإسلام لحال النبي صلعم" (راجع إبن سلام) . وكذلك النابغة، وهو، كما نعلم، فحل من فحول الجاهلية المقدمين، قد ظهر الضعف في شعره عندما توخّى تعاليم الدين . ويروي إبن سلام أنه أنشد بعد إسلامه "الحسن بن علي"، وقد استنشده شعرا:

الحمدُ لله لا شريك َ لهُ    من لم يقلْها فنفسه ظلما

فهو كما نرى أقل من شعره القديم بكثير . وكأن هذا الضعف وحده كان كافيا لأن يبعد بالشعراء الآخرين عن ميدان الدين خشية على فنّهم . ولذلك نلاحظ أن الشعر كما كان يلقى القبول والإعجاب حينما ينحو منحى أخلاقيا بصفة عامة، ويلقى الرفض، ويعرض قائله للقتل، إذا هو عارض تلك النزعة، فإنه يعود سريعا ليلقى القبول والإعجاب، كما كان من قبل، إذا هو كان مخالفاً لتعاليم الدين والأخلاق الفاضلة، ويلقى الرفض، ويعرّض صاحبه للسخرية المرّة عندما يلتزم أي موقف أخلاقي بجانب الدين .

ويبدو أن علاقتي بشعر يحيى السماوي الذي من هذا النوع، والشعراء الذين ينهجون نهجه في هذا المجال، كعلاقة (عمر بن أبي ربيعة بصديقه الناقد إبن أبي عتيق ؛ فقد كان ابن أبي عتيق يعجب بصديقه ايما إعجاب، ولعله كان يُعجب به رغم ما كان في شعره من عصيان، أو لأن شعره كان فيه عصيان . وهو يرد أحد مجادليه فيه بقول ذكره الأصفهاني في الأغاني: "لشعر عمر بن أبي ربيعة نوطة في القلب، وعلوق بالنفس، ودرك للحاجة، ليست لشعر ؛ وما عُصي الله عزّ وجلّ بشعر أكثر مما عصى بشعر عمر بن أبي ربيعة" (...) ومعنى ذلك كلّه أن المؤثر الديني سواء في الجاهلية والإسلام لم يستجب له الشعراء . وكأن فترة ظهور الإسلام كانت عارضة في حياة هذا الشعر، مالبث أن تحوّل بعدها إلى مجراه الأول واتجاهه القديم، فترك الدين وترك الأخلاق ؛ ترك لهما ميدانهما ووقف بعيدا لا يكاد يتأثر بهما، بل لعله كان يتأثر بهما تأثرا سلبيا حين يواجههما مواجهة صريحة . ولم يكن النقاد منعزلين عن الشعراء فوقفوا بجانبهم في موقفهم، ولم يتخذوا من الدين أو الأخلاق أساساً يرفعون به شاعراً ويخفضون آخر، واستبعدوا الخيرية من ميدان الحكم النقدي، وربما رأوا منزع الشرّ أقرب إلى طبيعة الشعر، أو أنه على الأقل مما يحسن به فن الشعر) (عن كتاب "الأسس الجمالية في النقد العربي للدكتور عز الدين اسماعيل) . 

.. وإلى الحلقة السابعة سيّدي القارىء ..

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2183 الاثنين 16/ 07 / 2012)


في المثقف اليوم