قضايا وآراء

رواية الزيني علالة لرياض خليف / هيام الفرشيشي

خفية عن عين تترصد كل شهادة عن  وتفضح مظاهر العنف السياسي. فظهرت رواية "برج الرومي" لسمير ساسي التي رصدت مظاهر التعذيب داخل سجن برج الرومي الذي اختص بأصحاب الآراء السياسية المخالفة لرأي الحزب الشمولي السابق وخاصة من المنتمين إلى حركة النهضة. كما ظهرت رواية "الزيني علالة" لرياض الخليف التي تتحدث عن حدود الحرية السياسية في "سيدي بوزيد" التي مثلت الأنموذج لما عاشته تونس من وضع سياسي أيام الرئيس السابق وروايات أخرى كتابها أبعد عن المعارضة السياسية بل ساروا في ركب الرواية السياسية بحثا عن مجد لا يستحقونه.

ويجوز القول بأن رواية "الزيني علالة" للكاتب رياض خليف رواية سياسية، فهي تعكس حقبة نظام بن علي التي اتسمت بقبضتها على النضال النقابي والحزبي والحلول الأمنية التي أدت إلى تهميش عائلات بأكملها. وقد عكست مذكرات كاتب استقى شخصياته من واقع المنطقة التي سيطرت عليها شخصيات للحزب الحاكم عرفت بفسادها على مختلف المستويات. مركزا على تزاوج التركيبة الاجتماعية والسياسية عبر ما يسمى بلوثة الفساد. وتدور أحداث الرواية في منطقة منسية تصنع التاريخ "سيدي بوزيد" التي حملت أوجاع حقبة "الزيني علالة" كاستعارة لترسيخ نظام زين العابدين بن علي في قرية ثارت مرتين، وزارها الرئيس السابق مرتين.

ومثل المقهى "سمرقند" مكان الاجتماعات السرية المراقب، الفضاء المكاني المهم الذي يؤمه المتسيسون والمهمشون والمثقفون المعدمون: " اقترب مني عثمان طالبا منه تمكينه من الجريدة البيضاء التي تصدر أسبوعيا واعتدنا أن نقتنيها من المكتبة المجاورة للمقهى وكنا كثيرا ما نعمد لإخفائها لأن المكان مراقب لكننا في بعض الأوقات ننسى العيون المتوثبة والآذان المركزة على كل كلمة وكل حركة ونشرع في التهامها بلا خوف"ص9

ولئن انطلقت رواية "الزيني علالة"من سيدي بوزيد فهي لم تفصل الهم الجهوي عن الهم الوطني والهم الوطني عن الهم العربي. بل لاحظنا انفتاح الرواية على هموم العروبة من خلال ما عرفته العراق من غزو أجنبي وسقوط بغداد في ما بعد. والاعتزاز بصدام وبانجازات حزب الله، دون التصريح بهذا الاعتزاز خشية تسربه إلى مخبري السلطة .ليكشف الكاتب عن مجتمع بوليسي تترصده أعين كثيرة. أعين لا يخشاها عثمان المعدم التائه الذي يعيش في بقايا حوش قديم، مع أم تصارع الأمراض المزمنة. في منطقة لا توجد فيها مراكز للعلاج عدا مستوصف القرية، وهو بدون تجهيزات طبية. أم لا تأخذ مساعدة من العمدة لأن أولادها معارضين كحال الفقراء والثكالى والمساكين. ومن المعارضين نجد أيضا مبارك صالح الذي جر إلى السجن وكان قد طرد من معاهد الدراسة لمشاركته في مسيرة سياسية. ومن الشخصيات المعدمة نجد عمران بائع الشاي وعم العربي الذي لا مأوى له في غياب الرعاية بالمسنين.

وان كان للشخصيات السياسية ذاكرة فان الراوي يتحدث عن تغييب صورة الزعيم "صالح بن يوسف" طوال سنوات لم نسمع عنه. فالتاريخ الذي يدرسونه لنا والبرامج التلفزية التي يبثونها تختصر الوطن في آخرين لكننا عرفناه لوحدنا..سمعنا به وقرانا عنه وأحببناه"ص65.

وبالنسبة إلى الشخصيات السياسية النافذة في الرواية، نجد العمدة بشير مسجل كمناضل مع أنه ابن عميل للاستعمار الفرنسي. انتقل في ما بعد إلى عميل لبن علي. ونجد علالة الذي لعب ورقة الحزب منذ حقبة بورقيبة. رفع صورة بورقيبة وضرب النقابيين. كلفه العمدة ليكتب التقارير. وبعد انقلاب 7 نوفمبر أصبح صاحب مليشيا للقبض على المعارضين الإسلاميين. وخاصة بعد مظاهر الاحتقان التي عرفتها سيدي بوزيد في بداية التسعينات حيث لم تفعل الحكومة شيئا أمام الفيضانات. ولعلالة الدمى التي تسيطر على المنطقة مثل شتربة رئيس الشعبة وضو الصحفي الذي يتحدث عن نجاحات سيدي بوزيد. الهادي البوزيدي الذي يبلغ أخبارالنقابة. وحليم رئيس فرقة الرقص العصري المخبر وصاحب العضلات المفتولة. وزهرة الشاعرة التي كانت تكتب مدحا للسابع من نوفمبر وللرئيس السابق لتصبح الشاعرة اللامعة التي تدعى في كل المناسبات السياسية والثقافية.هذا اضافة إلى عبد الواحد يد "علالة الزيني" الذي يساوم على كل الصفقات الاقتصادية ويتقاسم مع علالة الرشاوي وكل مظاهر الانغماس في الفساد.

ولكن في المقابل نجد شخصيات أخرى تعاني الخصاصة والبطالة مثل "عبدالله" المسرحي والشاعر المجاز منذ سنوات، وتقدم به العمر ولم يعثر على عمل. كما يشير الكاتب إلى ظاهرة التسول أمام انعدام فرص الشغل : "ضوء الصبح يتقدم ..المدينة فارغة ورائحة القهوة تفوح في الفضاء ..جسد ملقى قرب الشجرتين ..هو واحد من كثيرين يتسولون في النهار ويقضون لياليهم في الحدائق والبنايات المهجورة"ص82. بينما سكينة ابنة العمدة التي تزوجت من علالة المتسلق والانتهازي عثرت على شغل بعد تخرجها بعدما تحولت من نشطة سياسية إلى حزبية. ونادية إبنة السجين المعارض التي أحبها الشاعر لكنها اختارت أن تصبح دمية لعلالة من اجل الحصول على شغل.

فلكل شخصية في الرواية علاقة بالسياسة، علاقة تنتهي بالإحباط أو بالفجيعة أو بتحويل الوجهة نحو عالم مدنس أراده المتحكمين في خيوط هذه القرية التي استقطبت المعارضين ايضا لخدمة مشروع الحزب الحاكم. هي شخصيات لها هم إيديولوجي تتابع الأحداث العربية وعينها على همها الداخلي. ولم يصور رياض خليف صراع بين شخصيات سياسية من أحزاب مختلفة بقدر ما صور صراع الطبقة الشغيلة والشعبية والبسيطة مع الحاكم. وكأنها تركت همومها لنفسها واستعاذت عن هؤلاء بأخذ زمام المبادرة بعيدا عن كل تأطير إيديولوجي.

إن الرواية السياسية عند رياض خليف رواية تعكس التركيبة السياسية للمجتمع العربي الدكتاتوري وتوظيف قبضته الاستبدادية عبر سطوة البوليس وعبر تكليف شخصيات مدنسة تتوسط لمن دنس فكره وجسده وتقرب للسلطة بما في ذلك المعارضين الذين تحولوا إلى مخبرين للسلطة للحصول على مناصب. هي رواية شاهدة على العصر ومواكبة لوقائع وتفاصيل الاحتجاجات للخروج من عنق الزجاجة. حيث سجلت واقعة حرق البوعزيزي لنفسه ومظاهر الاحتجاج والاحتقان.

ولم تغب رؤية الكاتب عن هذه الرواية التي تجلت فيها شحنة إيديولوجية، حيث يرى في الفعل السياسي تطهيرا لممارسات السياسي القمعية. معرفا بأساليب الحكم وتطبيقها عبر شخصيات تتشابه من حيث الممارسات والسلوك. وحيث أن كل شخصيات الرواية مسيسة وكلها لها تجربة مع البوليس ومع رموز السلطة القاهرة. كما أن الهم السياسي لم يحصره الكاتب في قرارات سياسية حول مسالك الحياة اليومية والمرافق العامة بل لا بد أن تشمل العناية بتنمية المنطقة اقتصاديا.

إذن كشف رياض خليف عن بناء سياسي تنخره سوسة الانتهازية والفساد المادي والقيمي، وتحول المواطن إلى رهينة مفرغة من الكرامة. تدخله إلى مستنقع القذارة أو ترمي به في ظلمة السجن .. لقد استقطبت السياسة هذا العمل الأساسي نظرا لارتباطه بالثورة التونسية والاستناد إلى أسبابها الحقيقية التي ساهمت في تفجيرها واندلاعها. وكأن الصراع هو صراع الكاتب مع تراكمات سياسية، صراعه الكاتب نفسه كناقد لذلك الواقع ليبدو في مرآة الحقيقة وهو ينقل بكاميرا صادقة تكشف كل عناصر المشهد السياسي. ولعل الأسلوب الذي توخاه الكاتب في سرد الصور الاجتماعية التي عرفها المجتمع وعرفتها عائلات عديدة ما جعله يسلك مسلك الصدق وينجح في إقناع القارئ بالصورة الحقيقية والمحايدة دون زيف.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2197 الاربعاء 1/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم