قضايا وآراء

أَعشَقُني * - رواية للدكتورة سناء كامل أحمد الشعلان / عدنان الظاهر

هل ندر العشاق على سطح الكرة الأرضية أو هل أنها يئست منهم جميعاً ؟ ما الذي يُنقص الدكتورة الشابة الجميلة سناء كما نراها في الصور؟ تحب الصور ، نعم ، وتحب الخواتم وأحجارها الكريمة وربما تقتني مجموعة فاخرة من الملابس . كما أنها تهوى السفر وتسافر كثيراً تحاضر وتشارك وتقرأ في لقاءات ومؤتمرات ومهرجانات عابرة القارات والمحيطات من أستراليا حتى أمريكا وكوبا وما بينها من مدن وعواصم. فما يُنقصُ سناء وما أسباب تقوقعها والتفافها على نفسها حدَّ الوقوع في عشق نفسها نرجسةً ونرجسية جميلة يرتاح لها قارئها ويود قراءة المزيد ليتعرف عليها وربما ليكشف المخفيات ويسبر أغوار هذا اللغز المُغلق ـ المفتوح . لا أخالُ أنَّ للسيدة سناء ألغازاً وأحاجي مبطّنة لأني أقرأها فأجدها طفلة وصبيّة جسورة شديدة الوضوح لا تُخفي شيئاً بل ولا تستطيع إخفاء شيء فطبعها لا يسمح بالتعمية والتخفي والتواري. هكذا خُلقت والناس طبيعةٌ وتطبّعٌ وطبائع. أقرأ نصوص سناء فأجد مُتعة كبيرة فيما أقرأ وتسحرني رفقتها قارئاً متابعاً مخلصاً لما يقرأ. لا أعرف شيئاً عن نشأتها وتفصيلات حياتها وتأريخها الشخصي والعائلي لكنَّ تأريخها الثقافي والأكاديمي معروف وهي حريصة على نشره فيما تنشر من قصص وروايات وغيرها. وأعرف مما تنشرُ من صور لها أنها ولوعة بالتقاط الصور لوجهها الجميل وعينيها الملونتين بالشذر الزمرّدي . كما أنها محبّة لإقتناء خواتم الحجر الكريم ومختلف أنواع وأشكال الملابس تختارها بعناية كبيرة لتلائم المناسبات المختلفة. إنها طاووس متواضع يتكلم ويتحرك بدون ضجّة وضجيج وعجاج وعجيج . أضيف لكل هذا ما حققت بسرعة قياسية من نجاحات في الحقل الجامعي والأكاديمي فهي أستاذة اللغة العربية والنقد الأدبي في قسم اللغات في جامعة عمان. لماذا إذاً تلتف الدكتورة سناء على نفسها وتدخل جبّاً لم يَصمم لها أصلاً ؟ ما الذي يُنقصها وماذا تريد أكثر من هذا النعيم وهذه النجاحات وهذه الحياة الباذخة ؟ نقرأ رواية " أَعشَقُني " ونرى أسباب هذا الإلتفاف على الذات وحول الذات حدَّ اليأس من رجل يحبها ويعشقها كما تريد وكما تفهم العشق.

شخوص الرواية محدودون هم خمسة لا غير . (1) / فتاة قتلتها أجهزة مخابرات بلدها لأنها مناضلة سياسية ـ إجتماعية . أنحني لسناء لجوانبها الإنسانية ودفاعها عن حقوق الناس وحرياتهم ووقوفها ضد الظلم واستبداد أنظمة الحكم .. ولحبّها للأرض وما فيها ومن عليها ودفاعها عن السلام والبيئة لذا كنت مرة أسميتها رسولة السلام . نحن إذاً أمام جريمة ارتكبتها أجهزة مخابرات دولة عربية وما أكثر جرائم حكومات هذه الدول ! (2) / باسل المهري .. الشخصية الثانية لرجل عسكري في الأصل فقد جسده بسبب تفانيه المُفرِط في خدمة حكومته الإستبدادية .. يتمدد في صالة عمليات في مستشفى موازياً لجسد الفتاة القتيلة لتُجرى له عملية نقل دماغه السليم إلى جسد القتيلة التي ماتت للتو. لا تحتاج هذه الصورة المؤثّرة لشرح وتفصيل وتفلسف. جمعت الروائية المتفارقات العميقة معاً في مشهد مصوَّر دقيق بالغ الدلالات. عسكري، هو رمز لدولة القتل والعنف والإستبداد، بحاجة لجسد قتيلة ضحية دولة هذا العسكري أي أنها ضحيته وقتيلته. تقتل دول الظلم والعسف ضحاياها أكثر من مرة. تقتلهم أحياءً ثم تقتلهم أمواتاً لكنها تبقى بمسيس الحاجة لهم. بقاؤها رهن متصلٌ بموتاهم. لا تستقيم حيوات هذا النوع من أنظمة الحكم إلا بالقتل والإفادة مِن ثمَّ من المقتولين لإدامة أماد حكمهم. يتقابل الموت والحياة في هذه المعادلة الثنائية العناصر. الموت وجه آخر للحياة. يجتمع المقتول وقاتله وجهاً لوجه إجتماع أنانية وأَثَرة. يقتله ليتخلّصَ منه مُعارضاً لكنه يفيدُ منه ميّتاً. أحسنتِ سناء. (3) / العنصر الثالث هو جنين ما زال حيّاً في رَحِم القتيلة سينتقلُ مع جسد أمّه ليغدو جنيناً في أحشاء الرجل العسكري مع دماغ هذا الخناثي الجنس ! أية سخرية وأي تحقير لرموز أنظمة الحكم الطاغية والقاتلة وبشّر القاتلَ بالقتل والقتلُ أنفى للقتل ولكم في القِصاصِ حياةٌ يا أولي الألباب. أحسنتِ سناء الرائعة. (4) / الشخصية الرابعة في الرواية هي خالد رامي الأشهب، حبيب القتيلة الشمس النبيّة ووالد جنينها ، نبية البعد الخامس أو الحب. (5) / أخيراً الراوية سناء ، شاهدةً أو مُشارِكة في أحداث الرواية تقترب وتبتعد عنها حسب متطلبات القص والسرد وضرورات الخيال الفني.

نظرية البعد الخامس / الحب الكوني

الحب حسب سناء هو البعد الكوني الخامس بعد الأبعاد الأربعة المعروفة. سناء تنقل هذا البعد من والدتها ( الإهداء ) إلى المناضلة القتيلة النبية شمس. كيف تفسّر سناء هذا البعد ؟

(( وحدهم أصحابُ القلوب العاشقة من يدركون حقيقة وجود بُعد خامس ينتظمُ هذا الكون العملاق .. وحده الحب هو الكفيلُ بإحياء هذا الموات وبعث الجمال في هذا الخراب الألكتروني البشع، وحده القادر على خلق عالم جديد يعرف معنى نبض قلب وفلسفة إنطلاق لحظة ، أنا كافرة بكل الأبعاد خلا هذا البعد الخامس الجميل، أنا نبيّةُ هذا العصر الألكتروني المقيت / الصفحة 9 ، من يوميات امرأة عاشقة في مجرّة درب التبّانة )). الحب هو إكسير الحياة ، محرّكها وطبّها وشفاؤها. هذه هي نظرية سناء المقتنعة بها وعنها لا تحيدُ. تعتقد أنَّ لهذا البعد الفضائي طاقة جسيمة هي طاقة الحب، طاقة البُعد الخامس، فالحب طاقة كامنة فيه قادرة على تغيير الكثير من ظواهر ومظاهر حياة الإنسان. كتبت في الصفحة 61 ما يلي

( .. البعدُ الخامس، وحده مَنْ تتغيّر به حقائق الأشياء وقوانين الطبيعة ) . سناء إنسانة نبيلة مكافحة لكنها طوباوية الوسائل والأدوات تنهج نهج عيسى المسيح الذي سبقها وقال [ أحبّوا أعداءكم ] و [ مَن لطمك على خدكَ الأيسر أدرْ له خدك الأيمن ] .. أو بالعكس .. ضيّعني البعد الخامس. وكان هذا هو نهج المهاتما غاندي قائد ومحرر الهند والجنوب إفريقي نلسن مندلا بعده. الحب وحده يا سناء غير كافٍ لتغيير العالم ! ما قيمة بندقية لا تُطلق ناراً وما قيمة أسدٍ منزوع الأسنان ؟

لُب الرواية وعمودها الفقري :

المناضلة السياسية ـ الإجتماعية القتيلة تركت مذكرات مكتوبة على شريط ألكتروني، وقع هذا الشريط في يد القائد العسكري الذي زرع الأطباء دماغه في جسد ضحيته القتيلة. يقرأ هذا كل ما جاء في شريط المذكرات وقد أجادت سناء وبدّعت في كتابة هذه المذكّرات ولا سيّما الرسائل المتبادلة بين القتيلة وحبيبها خالد. نقرأ هذه المذكرات فلا يخامرنا أدنى شك من أنَّ رسائل القتيلة هي رسائل كتبتها سناء لحبيب مجهول سمّته خالداً، الحبيب المثال، وقد قالت في بدايات هذا الكتاب ما يلي [ أنا نبيّة هذا العصر الألكتروني المقيت فهل من مؤمنين ؟ لأكونَ وخالداً وجنيننا القادم المؤمنين الشجعان في هذا البُعد الجميل. خالد أنا أحبّكَ وأحب جنيننا كما ينبغي لنبيّة عاشقة أنْ تُحب .. ] وكررته على الصفحة 70. هذا صوت سناء وليس صوت القتيلة المناضلة.

مزايا وأهم خصائص الرواية :

1 ـ لأول مرة تخرج الدكتورة سناء على تحفظها الصارم وحرصها حتى على إخفاء شعر رأسها .. تخرج عن خطوط حيائها الشرقي والبيتي فتتكلم أشياء قريبة أو قريبة جداً من فن الآيروس والأدب المكشوف أو الموارب. أسهبت في الكلام عن الحب والجنس وقدمت أطاريح جديدة إستغرقت الفصل الثامن بطوله وعرضه . قدمت عروضاً غاية في الروعة في الأسلوب والروحانية الجسدية أو الجسدية الروحانية ووقفت بصلابة إلى جانب حق ممارسة الجنس مع الحب . عرضت ما عرضت على لسان المناضلة القتيلة النبية شمس . أقدم بعض النماذج التي شدّتني بقوة لعوالم سناء وسحرية سناء وأسلوبها السردي النادر الحدوث.

(( مطرٌ يقرعُ النوافذ وأغصان الشجر العارية تحتك بجنباتها، أوراق تحدث خشخشات لا تزيد الجسد إلا شهوةً وجموحاً، وصوت لحظتي يرتّلُ عليَّ أحداثي، وكأنني أشهدها كحاضر صامت لا شريك متفاعل فتتكاثر اللذة في نفسي وتكاد تقسمني إمرأتين أو يزيد / الصفحة 211 )).

ثم :

(( ما هذا أيها الواخز سطح أرضي؟ أنا الجسد الذي يشتهي الحرث الآن كي تتبدل ذراتي وتبعث خلاياي وتتنفس رائحة الجسد بأنفاس رجل أردته أنْ يخترقني ويدخل حدائقي السرية التي تركتها بستاناً مُزهراً بكل فواكه اللذة / الصفحتان 211 و 212 )). أنا الجسدُ الذي يشتهي الحرث ... أفادت سناء من الآية القرآنية [[ نساؤكم حرثٌ لكم فاتوا حَرثَكمْ أنّى شئتم .. الآية 223 من سورة البقرة ]]. في الفصل الثامن الكثير من هذه العروض المدهشة والمغرية حدَّ شعور القارئ أنه يتعرى أمام الراوية ويخجل مما يرتدي ويستر الجسد. إنها تعرّيك وتغريك لتحبها ولتمارس الجنس معها شرط أنْ تحبها وتحبك وهو شرط ليس يسيراً.

إستوقفني موقفان بهذا الخصوص . قالت سناء أو النبية شمس إنها تريد حباً بدون جنس ( أخاف الجنس وأراهُ سكّيناً مُرعبة قد تقسم المرأة قسمين. خالد يقول إنَّ الجنس وحده يلملم المرأة، وأنا أقول إنه يقسمها، عليه أنْ يَرضى بحبّي دون جسدي / الصفحة 206 ). ثم قالت ( أنا لن أحضر أبداً، أنا أخشى الجنس / الصفحة 208 ) . كيف نفهم هذا الموقف المتحفظ من الجنس في ضوء كل ما قالت وشخصّت وأسهبت في وصف الممارسات الجنسية كأية خبيرة في الجنس والطب الجنسي.

2 ـ جرت أحداث الرواية في عالم آخر غير عالمنا الأرضي. كتبت في الصفحة التاسعة عنواناً يقول [[ من يوميات امرأة عاشقة في مجرّة درب التبّانة ]]. يعرف علماء الفَلَك وقدماء منجّمي العرب والمسلمين دربَ التبّانة هذا كما يعرفون مجرّ الكبش والنجم القطبي والدب القطبي وبنات نعش وسواها من أفلاك ونجوم وكواكب سيّارة ومجرّات. ما الذي أغرى سناء في أنْ تختار درباً لا وجودَ له على أرضنا ومجرّة غاية في البعد عن هذه الأرض ؟ التغريب! الإيحاء ! إنها توحي للقارئ أنَّ ما يجري من حوادث لا حقيقة لها في الواقع وأنَّ ما كتبت وأبدعت عن الحب والجنس هو محض خيال والخيال رفيق الكتّاب والشعراء لا يفارقهم ولا هم يفارقونه. كتبت سناء عن الممارسات الجنسية في فصل كامل هو الفصل الثامن فأجادت فيما كتبت وكتبت كخبيرة في الجنس من الدرجات العليا. تُرى كيف تسنّى لهذه المخلوقة العجيبة أنْ تُبدع في الكتابة عن أمور لم تمارسها قطُّ ؟ إنه خيال وتخيلات عجيبة من طبيعة درب التبن والتبّانة وسَكَنة المجرّات والعوالم الأخرى البعيدة عنا التي يختلف أهلها لا ريبَ عنّا نحن قُطّان الكرة الأرضية. وفي هذا السياق الغرائبي وأحداثه غير المألوفة اختارت الروائية العام 3010 مسرحاً زمنياً لأحداث الرواية وأسمت الكثير من شهوره بشهر النور ( اليوم : 3 شهر النور عام 3010 م / الصفحة 83 ). هنا مع بداية الفصل السادس ، فصل ( النظرية : نظرية طاقة البُعد الخامس ) تبدأ سناء بتثبيت تواريخ أيام شهر النور فنحن هنا، مع الفصل السادس، في اليوم الثالث من شهر النور للعام 3012 الميلادي. لا أرى غرابة في هذا الأمر ما دمنا قد عرفنا آنفاً أنَّ البعد الخامس متعلق بالحب وأنَّ هذا البعد هو الحب بعينه. وللحب بدايات كما يعلمُ الجميع وكل بداية إنما هي ولادة جديدة لها تأريخها نحفظه كما نحفظ ونسجّل تواريخ ميلادنا. لدي ظنٌّ قوي قريب من اليقين أنَّ لكل تواريخ الأيام التي ذكرتها سناء دلالاتٍ ومعانيَ وعلامات في طريق نشأة وتطور هذه السيّدة المقدامة.

هل هناك شهور أخرى غير شهر النور ؟ نعم، مع الفصل السابع يظهر شهرٌ يحمل اسمَ شهر مسقط القمر ( الصفحة 143 ) بل وتتعدد أسماء الشهور فبعد شهر مسقط القمر عام 3008 م نرى شهر الشمس للعام 3008 وشهر الرعد للعام 3009 يليه شهر الكوكب العظيم لنفس العام ثم شهر المسرّات الأولى كذلك للعام 3009 ثم شهر المسرّات الثانية لعام 3009 م. تعود سناء في الفصل الثامن والأخير [ إنطلاق الطاقة ] لشهر النور 3010 م ولا تفارقه حتى نهاية الكتاب. ما تفسير هذه الرجعة لشهر النور وللعام 3010 الذي دشّنت به أول تأريخ لما سردت من أحداث؟ قد نجد الجواب فيما قالت الكاتبة في مطلع الفصل الثامن بلسان خالد عشيق الثائرة القتيلة [[ أنا لستُ مُلحداً، أنا مؤمنٌ متعصّب. أنا فيض القلب الذي ضاق به الإيمانُ فانفجر سيلاً من الحب، إذا كان المُلحدُ هو الذي يؤمن بكل شيء فأنا أكفر بكل شيء إلاّ بك، شمس الكبيرة ، تكبرين يا حبّي فيَّ كما يكبرُ الإيمانُ في قلب المؤمنين بالله. أنا أعرفُ الإيمان لذلك أعشقكِ وأعانقكِ وأُقبّلكِ. أشتهيكِ : خالد / الصفحة 171 ]].

على أنَّ النورَ إيمان ولشهر النور قصة أخرى بدأتها في بعض صفحات الفصل السادس . كتبت تحت عنوان فرعي ما يلي [[ الأم الطيّبة كانت أكثر نساء الدنيا حزناً وألماً، فقد وُلِدَ لها توأماها الجميلان بزوجي عيون دون نور، كانت عندهما عيون جميلة ولكنْ مُعتمة لا ترى. لم يستطيعا أنْ يريا السنونو في السماء وجري الخيول في الوديان ورقصة السنابل التي تداعبها الرياح في الحقول ونظرة العشق في العيون، ونظرة الحنان في عميق عيني أمهما. تضرعت الأمُ طويلاً للآلهة كي تهبهما نوراً لعينيهما بأي شكل من الأشكال. الآلهة كانت ثَمِلة في تلك الليلة وراغبة في تسلية جهنمية، إستجابت لضراعة الأم الطيّبة، وفي لحظة إرادة جبّارة أشاعت النورَ في عينيهما وأطفأته في عيني الأم . توقعت الألهةُ أنْ تضحك كثيراً من هذه المهزلة الإنسانية المُبكية ولكنها خجلت من نزوتها وحماقتها عندما غدت الأمُ ترى عَبْرَ عيون أولادها المسكونة بنور عينيها أسرابَ السنونو في السماءِ وجري الخيول في الوديان ورقصة السنابل التي تداعبها الرياحُ في الحقول ونظرة العشق في العيون / الصفحة 106 ]].

ألا يكفي هذا الكلام لإقناعنا بأنَّ الروائية الراوية كانت على حق في تسميتها لأحد شهور عام 3010 الميلادي بشهر النور ؟ توليفة ناجحة جداً ومُثيرة جداً أبدعتها سناء بإقتدار ومُكنة ووضعت القارئ أمام بعض معجزات السماء وما فيها من آلهة. لكنَّ سناء سخرت أشد السخرية من هذه الآلهة [[ كانت ثملة في تلك الليلة وراغبة في تسلية جهنمية ... إستجابت لضراعة الأم ... وفي لحظة إرادة جبّارة أشاعت النور في عينيهما وأطفأته في عيني الأم / نفس الصفحة ]]. كيف نفرز الحقيقة من الوهم وهل هذا الفرز ضروري ؟ آلهة السماء تسكر وتتسلى بألاعيب جهنمية ! تُنير العيون المُطفأة وتُطفئ النور في عيون أخرى سليمة رائية ! وعيون الأم المُطفأة ترى بعيون طفليها التي أضاءتها الألهة ! هذه معجزات كبيرة وسناء تؤمن بالمعجزات [ أو هكذا تبدو في روايتها ] وكافة أحداث الرواية صاغتها كمعجزات منذ بداية الرواية حتى منتهاها. لا، ليست كلها معجزات .. فحديث سناء عن الحب والجنس تندرج في باب الحقائق سواء حصلت على سطح كرتنا الأرضية أو في إحدى المجرّات الكونية السحيقة البعد عنّا. سناء .. أنتِ آلهةُ النور وسيّدة السلام.

3 ـ الحرب والسلام والبيئة

كانت وظلّت سناء مدافعة عنيدة عن السلم العالمي وعن سلامة البيئة وضد الحروب المدمّرة ولاسيما حروب القنابل الذرية والهايدروجينية . فضلاً عن مواقفها الجريئة والصريحة المناهضة للدكتاتوريات وأنظمة الحكم الإستبدادية التي لا تُطيق حتى مواقف إمرأة مُعارضة فتعتقلها في زنازينها وأقبيتها السرية ثم تغتالها هناك. بل ولا تُطيقُ شَعَرَ النساء الطويل فتأمر بتقصيره أو قصّه. وقد حدث مثل هذا بالضبط أوائل سبعينيات القرن الماضي في العراق !

الفتاة المناضلة والنبية شمس التي قتلتها أجهزة إستخبارات حكومتها ظلّت الشخصية المركزية في الرواية تتكلم من خلال ما دوّنت من مذكّرات أو في حواراتها الشائقة مع جنين رحمها " ورد ". هكذا أنطقت سناءُ القتيلة وخلّدتها ميّتةً ـ حيّةً وجعلت فضلها على الحكّام القتلة فضلا كبيراً وعميماً إذْ أنقذت حياة أحد رجالات ورموز هذا النظام من الموت وليس مُستبعداً أنْ يكونَ هذا نفسه أحد مستجوبيها ومعذبيها. للتعرف عن كثب على المناضلة الثورية القتيلة النبيّة شمس يكفي أنْ نطّلعَ على ما كتبت سناء في الصفحتين 128 / 129 . سأنقل مقتطفاتٍ ( حرفيّا وكما هي ) من هاتين الصفحتين وأترك النصوص الكاملة للقرّاء الكرام :

[[ ... وأُلقي بي في السجن عندما رفضتُ دفعَ غرامة وأقصّ شَعري وفق القانون. وكاد الأمرُ ينتهي عند هذا الحد لولا كلماتي التي كان لها الدور الثاني في تغيير اتجاه حياتي. فقد شرعتُ أكتب رواية متمردة جميلة أسمها " سيَر أصحاب الشَعر القصير " ضمّنتها أجملَ الأفكار التي قرأتها عَبرَ مطالعاتي الطويلة والمكثّفة لتاريخ البشر وسسيولوجيا الأدب وأنطولوجيا المكان وتطور الفنون وتاريخ الإبداع الإنساني في الألفية الماضية، واستفدتُ من معلوماتي عن قيم الجمال والحرية في الألفية المنصرمة من أجل لمز كل قوى الإستبداد في حكومة المجرّة. ووظفّتُ كل أساطير الحب والجمال والخَلق والوجود والنهايات والجحيم والفردوس في شحن هذه الرواية بكل مثير وطريف ومُقنع، وتثوير الشعب ضدَّ وجودهم المُفرغ من الروح والسعادة والذاتية في عالم ألكتروني مُبرمج وفقَ ما تقتضيه خارطة مصالح رجالات حكومة

المجرّة ]]. معلوم مَنْ هم رجالات حكومة المجرّة وأية عاصمة عربية هي هذه المجرّة! هذا بيان إنساني وموقف أخلاقي ثوري مفعم بروح التمرّد على كل ما يتعارض مع حرية الإنسان ويقف بحزم مع مبادئ الجمال والثقافة ويدين صرامة هذا العصر الألكتروني الذي عرف حكام التعسف والجبروت كيف يوظفونه ليخدم مصالحهم العليا إلى أقصى حد. سناء إنسانة ثائرة لكنَّ ثورتها مثالية تحت راية [ لا إلهَ إلاّ الله ] كما جاء في صفحات سابقة [ وأنت يا ورد من ستكملين الطريق من بعدنا وأنتِ مَنْ ستحملين الراية وتكتبين عليها : لا إلهَ إلاّ الله / الصفحة 113 ]. قالت على لسان العسكري على سبيل المثال :

[[ .. وإنْ كنتُ أشكُّ بأنها ستفرح بأنْ تتركَ جسدها عالقاً في عالم المادة مع رجل إخالُ أنه واحد من ألدّ أعدائها لا سيما وأنه فتك بالكثير من أصدقائها الثوار الذين أرادوا للبشرية أنْ تتراجعَ في ضوء مطالبتهم بمثاليات سخيفة بالية عتيقة قد تجاوزتها الحضارة الإنسانية منذ قرون، وباتت تأريخاً منسياً مغضوباً عليه في ذاكرة جمعية كادت تُجهضه تماماً من تاريخ خلايا تذكّرها / الصفحة 19 و 20 ]].

كتبت سناء في الصفحة 129 على لسان الثائرة القتيلة النبية شمس ما يلي:

[[ وهكذا تحولت قضية شعري ومن ثم سجني إلى قضية كونية تُثيرُ جدلاً كبيراً في كل الأوساط، وغدت روايتي القصيرة نسبياً كتاباً مُقدّساً للثورة والثائرين، ووجدتُ نفسي في غضون شهور قليلة عضواً شَرفياً في كثير من أحزاب العمال وأندية العلماء والمفكرين ومحافل الأحرار بل وعلى القوائم السريّة للمسجلين خطر في أجندات الحكومة والمخابرات والدوائر الأمنية تحت خانة الثوار في كل مكان لكل الأسباب .. ]].

بيّنت سناء في هذين المقطعين باقتدار كبير الفروق الجوهرية بين مواقف وقناعات ومعتقدات جلاّد قاتل وضحية ثائرة قتيلة. الجلاد وجلواز حكومته ضد الثورة والثوار وضد كل محاولات البشرية للتقدم وتغيير أنماط حيواتها فالفلسفة تغيير لا تفسير. عاصرنا في العراق نماذج من هذا العسكري وأمثاله من رجال الأمن والمخابرات والشرطة السرية.

4 ـ ملاحظات متفرقة

4 ـ 1 / لا أعرف أنَّ سناء متصوفة أو ميّالة للنزعات الصوفية لكنها كتبت على لسان العاشق خالد نفحات صوفية من قبيل [[ حبّي صوفي : 12 شهر المسرّات الأولى 3009 م : يا حبّي الشَبِق/ يا كأسي التي كلما شربتُ منها ازداد صحوي ثمالةً. إعلمي أني أحبّكِ حبّاً صوفياً لا تقوى اللغة على وصفه، ووحده الجسد حين يتحدث يمكنه أنْ يقتربَ من المعنى، ويمكنه من أنْ يجعل من الدال مدلولاً لكل قواميس العشق. أشتهيكِ: خالد / الصفحة 149 ]]. كما قالت في موضع آخر [[ ليست الحياة إلاّ إقامة جبرية نقضيها في أجسادنا، لا نغادرها إلاّ للتراب / الصفحة 180 ]].

4 ـ 2 / كانت سناء مكشوفة في لغتها وأدبها حيث تساهلت مع نفسها فوصفت الأعضاء التناسلية وأسمتها بأسمائها وذكرت ألفاظاً كان في مقدورها إهمالها من قبيل البراز والبول وزغب الإبط والعانة . هذا موقفي وهذا إجتهادي وهي بالطبع حرّة فيما تقول.

4 ـ 3 / لزيادة غرائبية النصوص والقص الخيالي كتبت سناء نصاً جميلاً جداً هو وصية امرأة لزوجها وولدها نسبتها لأستاذة في الجامعة الأردنية إسمها سُهى فتحي إستغرق الصفحات 180 ـ 188 . فهل السيدة سُهى فتحي هذه هي سناء كامل أحمد الشعلان بعينها وعيانها ؟

4 ـ 4 / في الرواية أخطاء مطبعية وأخرى ( ليست مطبعية )

ختامٌ وعَوْدٌ على بدء : سألتُ إبتداءً لماذا تعشقُ سناء نفسها؟ أجابت سناء عن هذا السؤال فكيف أجابت؟ أجابت على لسان الرجل العسكري ذراع حكومته الإجرامي الضارب الذي نقلوا دماغه إلى جسد القتيلة الثورية النبية شمس. في ساعة شدّته يتذكر ربّه ويُعلن عن إيمانه به ويهاجم الملاحدة فيقول مخاطباً الجنين " ورد " القابع في جسده / جسد أمّه القتيلة [[ فأنا منذ هذه اللحظة أبوه وأمّه ومعلّمه. فيه فقط سأغفر للمجهول كلَّ ما حدث معي من معاناة وسأبحث عن الوجه الآخر لحكمة هذا الجسد الأنثوي الذي أكتشفُ به ذكورتي وأنوثة نساء الكون من جديد. أنا الآن من المؤمنين الجُدُد بألوهية الجسد الأنثوي وبعظمة الخالق الكوني، أنا ثائر في هذه اللحظة على كل بلادة الكون وإلحاده السقيم وقوانينه المادية الجوفاء، أنا مؤمن بربِّ السماء، أنا في بعثي الجديد بهذا الجسد الأنثوي أصبحتُ من زمرة الثائرين الذين أفنيتُ عمري في محاربتهم، وعلى أيديهم أُغتِلتُ في الماضي وفقدتُ جسدي السالف، يا لسخرية القدر! ويا لجمال قدري الجديد! يا لجمال قدر يقودني إلى أنْ أعشقها!! أقصدُ أعشق جسدها، بل أعشق روحها وذاتها، من الصعب أنْ أشرحَ لنفسي هذه القضية المُلبسة، فأنا أعشقُ امرأةً هي أنا في واقع الحقيقة الملموس، وأنا إيّاها في السياق المنطقي نفسه، ولكن الحقيقة أنني رجلٌ يعشقُ امرأة في ظروف عجيبة، إذْ هو مادياً مفقود وهي روحانياً مفقودة ولكنْ كلينا في هذه اللحظة في ذات واحدة، هي إيّاها وإيّاي، إذاً أنا أَعشَقُني، ولذلك فأنا أعشقها / الصفحة 120 ]]. الجسد الأنثوي إله بالنسبة لسناء . أبدعت سناء في تصميم آلية عجيبة للتحول. فبتحوّل العسكري المجرم القاتل إلى جسد امرأة غدا إنساناً آخر مؤمناً بربه وبالثورة وواحداً من الثائرين. المرأةُ إذاً هي أداة التحولات الكبرى السحرية وهي مثال الإنسان ورمز السمو إذاً فهي إله.

 

* أَعشقني، رواية للدكتورة سناء الشعلان. الطبعة الأولى 2012. الناشر: مؤسسة الورّاق للنشر وللتوزيع، عمّان، الأردن.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2198 الجمعة 3/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم