قضايا وآراء

الشخصية الحكائية في قصة "يوسف والرداء" للأديب الراحل إبراهيم أصلان / دينا نبيل

فهي ليست موجودة وجوداً واقعيّاً وإنما هي مفهوم تخييلي له قواعده وضوابطه، بينما الشخص الحكائي هو شخص معين في النص السردي له سمات بعينها: جسمية ونفسية، ودور رئيس أو ثانوي في النص الحكائي . وقد كان الأدب فيما مضى يفصل بين الشخصية ووظيفتها وعملها داخل النسيج السردي، لكن صار السرد الحديث يُعنى بــــــ( انسجام هذه الأحداث التي تقوم بها الشخصية، مع طبيعتها النفسية والمزاجية، وهكذا ظهر المضمون السيكولوجي للشخصية في الأدب والنقد. وذلك بتقديم الحياة الداخلية التي تعيشها الشخصية)[1]. وقد بُذلت جهود كثيرة بُغية التوصل لقانون وتصنيف للشخصية الحكائية مثل ما وضعه هامون وبروب وليفي شتراوس وجريماس.

 

وقد كان استخدام إبراهيم أصلان للشخصية الحكائية ليس بمعزل عن تناوله الفريد لعملية القصّ، فلا يشعر المتلقي بالفاصل بين الشخصية ووظيفتها في هذا النسيج المتكامل، حيث تذوب الفواصل بين اللغة والمكان والزمان والثيمة والشخصية لتتماهى جميعاً في نسيج واحد محكم الترابط، بل ويصل إلى القارئ كما لو كان النص بلا كاتب، نظراً لغياب صوته وهذا ما لم يَسلم منه الكثير . فالشخصية عند أصلان معالجة بدقة بالغة تجعل حتى من يتكلمون بسذاجة عن أن الكاتب هو ذاته الراوي يتنازلون عن رأيهم فعليّاً.

 

وقد كانت مجموعة " يوسف والرداء " – ثاني مجموعة لأصلان – شاهدة على هذه الدقة والتمكن العالي من استخدام الأدوات إلى حدٍ يجعل القارئ مشدوهاً لاسيما من معالجة التشخيص . وقصة " يوسف والرداء " التي تحمل اسم عتبة المجموعة، تعالج قضية واقعية اجتماعية من خلال شخوص لهم مرجعية في قصة قرآنية وهي قصة يوسف عليه السلام، ومن المعروف أنّ القصة القرآنية ليست كالقصة الأدبية،(فمصدرية السرد في الخطاب القرآني تحيل على الله - جلت قدرته - وتهدف إلى الكشف عن عقيدة التوحيد للمتلقي، بينما مصدرية السرد في الخطاب السردي الأدبي تنبثق من الذات الإنسانية وأحاسيسها ومشاعرها من خلال صور الإبداع)[2]، فالقصة القرآنية ليست غايتها الإمتاع الأدبي والجمالي كالقصة الأدبية، وإنما هي وسيلة من وسائل الدعوة والعظة والعبرة .

 

المحاور:

1-   ماهية الشخصية المحورية

2-   أسلوب تقديم الشخصية المحورية

3-   علاقة الشخصية المحورية بالحلم

4-   علاقة الشخصية المحورية بالسترة

 

1-                    ماهية الشخصية المحورية:

الشخصية المحورية هي الشخصية الرئيسة التي تدور جًلّ الأحداث حولها، وتظل تتنامى مع الأحداث بشكل ديناميكي لما لها من عمقٍ يجعل المتلقي على دراية بكافة جوانبها المختلفة . وفي قصة " يوسف والرداء "، يُلاحظ أنّ جُلّ الأحداث تدور حول الراوي الذي يدفع بعجلة السرد ويجوب الأماكن ويقابل الشخوص ويتفاعل معهم، ولكن عند قراءة المتلقي للعنوان، قد يظنّ أنّ الشخصية المحورية تلك هي يوسف سواء بمرجعيتها القرآنية أو بطرح حداثي يمكن أن نطلق عليه " يوسف العصر "، لاسيما وأنّ الاستهلالية قد توحي للمتلقي بذلك " كنت أقف في الساحة الصغيرة المتربة، بين دائرة من البيوت القديمة العالية . كنت وحدي . وكان الليل في أوله "، فقد يوحي هذا المكان بالسجن ودلالته على سجن الواقع المعاصر الذي زُجّ فيه بيوسف العصر . إلا أنّ الكاتب يعمد إلى مخالفة أفق توقع المتلقي، ففي المقطع الثاني يجد المتلقي صفاتٍ لا تمت ليوسف بصلة لا من قريب ولا من بعيد . ليتأكد هذا الشعور في المقطع الخامس عندما توجّه هذا الراوي إلى يوسف في سجنه " ناديت . لم يردّ عليّ . لم يفتح الباب من أجلي . يوسف "، إذن فهناك شخصية أخرى مجهولة لا يصرّح الكاتب باسمها، مما يثير لدى المتلقي عنصر التشويق والتساؤل الذي يظلّ يُلح عليه حول ماهية تلك الشخصية التي تقوم بالرواية بل وتدور الأحداث حولها وتقوم هي بأغلب الأفعال .

 

تلك الشخصية الغريبة بدت منذ أول النص في مكان غرائبي أشبه بالحلم: " كنت أشعر أنّها لم تكن المرة الأولى، وأنّ المكان ليس غريباً، إلا أنني لم أكن واثقاً . لم أكن أعرف إن كان صديقي ( ع.ج ) قد سبقني إلى أعلى وتركني كعادته لكي أجيء وحدي " فهنا صفة أساسية تسيطر على الأجواء ألا وهي " النسيان "، فقد كان متواجداً في هذا المكان الغريب مسبقاً ولكنه لا يذكر، حتى صديقه في المقطع الرابع يؤكد على هذه الحقيقة " إنهم يعتمدون كثيرا على أنّنا ننسى "، وكذلك حديثه عن الشاب شاحب البياض الذي يشبه " شقيقه الآخر المختفي " مما يذكّرنا بيوسف عليه السلام واختفائه وعلاقته الوطيدة بشقيقه من الأم والأب " بنيامين "، فالشخصية المحورية تلك ليست يوسف ولا شقيقه " بنيامين " .

 

ويظل المتلقي متحيّراً حول ماهية تلك الشخصية التي تقوم بدور الراوي، فيبحث عنها في مخزونه المعرفي، إلا أنّه ربما كانت كلمة واحدة هي ما أضاءت النص " وفي طريق العودة، رأيت ( ع.ج ) معلّقاً " لتعيد المتلقي إلى القصة القرآنية للتذكير بصاحبي السجن اللذين رافقا يوسف عليه السلام، قال تعالى: ( وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[ يوسف: 36 ]، وكان تأويله عليه السلام لها في قوله تعالى: " يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ)[ يوسف: 41 ]، فإذا كان ذلك الصديق ( ع.ج ) هو المعلّق باعتباره الصاحب المصلوب، فإن الصاحب الآخر هو الذي نجا من السجن والذي نسي التذكير بأمر يوسف عليه السلام في السجن، قال تعالى: " وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ )[ يوسف: 42 ]، فمرة أخرى تتكرر صفة " النسيان " لتتفق مع ما يطرحه الكاتب في أول النص من الجو الغرائبي الذي يصاحب الحلم في الغالب، وظاهرة " النسيان " المصاحبة لتلك الشخصية. فكان صاحب السجن الناجي هو صاحب الرواية وهو الشخصية المحورية في القصة أيضاً .

 

2-                    أسلوب تقديم الشخصية المحورية:

اعتمد الروائيون طرقاً ثلاثة في تقديم الشخصية المحورية وهي:

** الأسلوب المباشر التقريري: فيقوم الراوي بتقديم هذه الشخصية من خلال تحديد ملامحها العامة ووصف أحوالها وعواطفها وأفكارها.

** الأسلوب التصويري: فيرسم الراوي الشخصية من خلال أفعالها وصراعها مع ذاتها أو مع غيرها، راصداً نموها من خلال الوقائع والأحداث.

** الأسلوب الاستبطاني: وهو عكس السابق، فيلجُ الراوي العالمَ الداخلي للشخصية الحكائية كما في روايات (تيار الوعي) حيث تعتمد هذه الروايات على تقنية الاستبطان والمونولوج الداخلي للشخصية .

 

وفي " يوسف والرداء " اعتمد أصلان المزج بين الأسلوب الاستبطاني والتصويري في تقديم الشخصية المحورية . ففي بداية النص يستخدم أصلان الأسلوب الاستبطاني في تقديم الشخصية ؛ فلم يلجأ إلى التقريرية ولا الرصد الخارجي، بل قدّمها بشكل أقرب إلى الغموض حيث غاص بالقارئ في داخل ذاكرة البطل لينقل ما يدور برأسه من حلم وذكرى عصف بها النسيان بينما هو يحاول استحضارها، واعتمد الكاتب هنا على ذكاء القارئ وقدرته على الربط بين المعطيات التي وفرّها له والمرجعية التي يستمدها من معرفته المسبقة بالقصة القرآنية والتاريخية . وقد كان لهذا الأسلوب القدرة على إدخال المتلقي إلى دواخل نفسية تلك الشخصية والتعرف على نقاط ضعفها ومشاكلها .

 

أغلب مقاطع القصة حتى المقطع السابع تدور أحداثها في الليل، ويُعتمد فيها على البنية اللغوية ( كان ): " كنت أقف في الساحة الصغيرة المتربة . كنت وحدي .. كنت أشعر أنها لم تكن المرة الأولى .. كنت أفكر .. كان الظلام حالكاً .. كنت مرهقاً . وكانت الساحة ما تزال خالية ومظلمة .. كان يتناول حبّات الفول بأصابعه .. وكانت العذراء تتكئ على كتفه الضامر "، فـــــــ (بنية الفعل الماضي ( كان ) [وهو متكأ سردي سائد في الرّواية العربية خاصة عندما تنزع إلى السرد عن الماضي])[3]، وكذلك سيطرة كلمة " رأيت .." بصيغة الماضي أكثر من مرة، رغم ما تمثّله أحياناً من عبء على انطلاق اللغة وإيحاءاتها، إلا أنّها تقف في المقابلة مع الوصف المكاني الدقيق حيث تعطي جواً غرائبياً لهذه الفقرات المسرودة تمنحها أجواء حلم يُبعث في الذاكرة من جديد . وهكذا قُدّمت هذه الشخصية من خلال سلسلة الأحلام التي يسردها الراوي – البطل– نفسه، فبدت كمن يحاول استرجاع مشاهد قديمة ويستحضرها إلى الحاضر ليتخلّص من وطأة " النسيان " التي سيطرت عليه.

يصوّر أصلان هذه الشخصية بشكلٍ مختلفٍ إلى حد ما عن الشخصية ذات المرجعية القرآنية عن طريق الأسلوب التصويري، مما يركّز على حركية الشخصية ودينامية تحولاتها، فمن ناحية يستحضر صراعها مع ذاتها وهي تتقلب بين الذاكرة والنسيان والرغبة والإحجام، ومن ناحية أخرى يصوّر صراعها مع الواقع الخارجي حيث الرغبة في التحرر في مقابل القيود ؛ فالبطل- صاحب السجن - ليس حبيس سجن حقيقي ولكنه وحيد حبيس سجنٍ مكاني من بيوت قديمة عالية أشبه بالمعتقلات تحوّطه في ساحة صغيرة . كذلك كان حبيس ذاكرته ؛ فلم يكن يعاني من مجرد نسيان طارئ ولكنه أشبه بالتشويش الشديد الذي يفقده التعرف على ماهية الأشياء " كنت أفكر .. أن الأمر لن يكلفني كثيراً . على أن أعود قليلاً إلى الوراء، حتى يروني ويحكوا لي، أو يرسلوا معي البنت الصغيرة لكي ترشدني " .

وهكذا غالبية الشخوص في عالم أصلان، فهي ( شخصيات متفرّدة وغريبة وكلها تعاني أحزاناً مبهمة وأمراضاً لا معنى لها، فضلاً عن انفصالها عن زمنها ومجتمعها)[4] . ثم يتوّجه البطل نحو المنحدر الذي يقسم المكان الروائي إلى عالم حبيس أعلى المنحدر حيث يوسف، وعالم طليق أسفل المنحدر حيث شقيق يوسف والذي بدا في أيامه الأخيرة شديد الشحوب والسقم " وكان هو يرقد على ظهره تحت الغطاء.. وعندما التقت عيوننا، لم يعُد أمامي إلا أن أدير وجهي، وأرتقي المنحدر .. ورأيت كيف أنّه أصبح في أيامه الأخيرة تلك، شبيهاً بشقيقه الآخر، المختفي " . يصل إلى المتلقي ذلك الشعور بالذنب الذي يعانيه البطل وشعوره بكونه مقصّراً بشأن أمرٍ ما لا يعرفه المتلقي حتى الآن .

عند متابعة الأحداث المتلاحقة من تنقل البطل بين المكانين، ثم قدرته على الذهاب إلى سجن يوسف وهو ليس سجناً عاديّاً وإنما سجن داخل سجن " وكانت الساحة ما تزال خالية .. دخلت . رحت أبحث عن الحاجز الخشبي.. رحت أصعد الدرج الحجري العالي .. وعندما وصلت إلى أول الدهليز الطويل الذي ينتهي بالفتحة المدوّرة .. وفي هذا الفراغ كان الهيكل الحديدي القاتم كاملاً على قوائمه القصيرة المتباعدة.."، فكل هذه المعطيات تدلل على ثمّة انتظار فعل من قِبل ذلك الناجي من السجن لإبلاغ الصوت والمظلمة، فما بدأ يتحرر من ذاكرته المهشّمة حتى وجد الواقع سجناً من حوله يحكم عليه الطوق . ربما أراد البطل اللجوء إلى يوسف لتأويل تلك الأحلام المتعاقبة عليه تصوّره في سجن البيوت العملاقة، والتي تنبئ عن سجنه الحقيقي في آخر النص: " كنت قد خلعت ثيابي ووقفت مائلاً في الماء الذي كان بارداً . داخل حجرتي الصغيرة ذات الجدران القريبة العارية .. وتهيأ لي وقع الضربات المكتومة على الأجساد البعيدة العارية " .

ولكن شخصية " يوسف العصر " تختلف عن الشخصية المرجعية له ؛ فلم يمنحه الكاتب صوتاً من البداية " ناديت . لم يرد عليّ . يوسف . ناديت، إلا أنه هذه المرة أيضاً، لم يرد عليّ . " حتى تصرفات يوسف وردود أفعاله كانت غريبة " كان يجلس وحيداً في ركن القاعة الحجرية العارية . مع الصيحة الأولى هبّ واقفاً .. راح يجري بقدميه الحافيتين من أول القاعة حتى آخرها وهو يعمل بذراعيه كمن يتقي شيئاً .. لقد عرفته، رغم اللحية، والفم الوارم، والحاجب المجروح "، فحبسه في السجن مدة طويلة قد أحاله إلى شخصٍ فاقدٍ لاتزانه قد أثّرت فيه الوحدة، فأفقدته عقله كما أفقدته مظهره الحسن، حتى بات التعرف عليه عسيراً!.

 

3-                    علاقة الشخصية المحورية بالحلم:

يعدّ الحلم أحد أهم تقنيات السرد وهو يستخدم عادةً كــ ( أداة من أدوات الاستباق، ففيه الرمز لأحداث ستقع فيما بعد أو إشارة لما يدور في العقل الباطن للشخصيات)[5]، وما الحلم في الأغلب إلا رموز يستقيها الفرد من المجتمع المحيط به، فـــ ( الرمزية في الحلم هي رمزية اجتماعية . وإن الحلم هو صورة مختزلة للواقع أو هو اختزال للعلاقات الاجتماعية عبر الرموز)[6]، وكثيراً ما استخدمت تلك التقنية في خدمة تكثيف القصة القصيرة، فتتحرك زمنياً إلى الخلف أو إلى الأمام دون الإضرار بعنصر التكثيف .

 

وفي " يوسف والرداء " استخدم أصلان الحلم في أغلب القصة معتمداً كما أسلفنا على البنية اللغوية " كان " و" رأيت ". وقد كانت هذه التقنية مفيدة في التعرف على ماهية الشخصية المحورية بالقصة . وعند ملاحظة المتلقي لسلسلة الأحلام التي تشبه التداعي في العقل الباطن للبطل، فإنه يجد التلاقي بين هذه الأحلام والحلم المرجعي في القصة القرآنية، قال تعالى: ( وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا)[ يوسف: 36 ]، ولا شك أن تلك الوحدة السيميائية ( الخمر ) لها دلالاتها على النسيان وذهاب العقل سواء في القصة المرجعية أو القصة هنا، إلا أنّ الحلم في هذه القصة يحمل وحدات أخرى ذات دلالات تخدم الهدف من القصة .

 

يبدأ الحلم بمحاولة لملمة بعض الشتات لمشاهد مرتبطة بدواخل البطل، حيث الساحة الصغيرة المتربة وإحساسه فيها بالتيه ثم مشهد أسفل المنحدر والمكان منزوع الأبواب حيث شقيق يوسف . وهنا تكمن المفارقة بين هذين العالمين في الأعلى " الساحة الصغيرة المتربة بين دائرة من البيوت القديمة " حيث السجن " الهيكل الحديدي القاتم على قوائمه القصيرة المتباعدة " والحرية " المكان الصغير الذي انتزعت أبوابه " في الأسفل .

 

وإذا كان السجن في ذاته وحدة سيميائية تحمل دلالات حبس الحقيقة والظلم لاسيما عند ربطها بيوسف ؛ فإن هذا السجن المتواجد في تلك الساحة ذات البيوت القديمة تحمل دلالة الواقع بقيمه وأفكاره البالية والتي تكاد من علوها تحجب الشمس . فإذا كانت القصة المرجعية تحمل دلالات متقاربة لأن الواقع الخاطئ هو ما زجّ بيوسف عليه السلام في السجن انتصاراً للباطل على حساب الحق، فكذلك هذا النص، فإن الحقيقة – المتجسّدة في يوسف - قد تمّ الزج بها في سجن داخل سجن شديد الإحكام والإقفال بسبب ذلك الواقع المظلم، في حين أن الشخصية الوحيدة ( الراوي ) التي تعلم بظلمها وبأمر سجنها أشبه بالمشوّشة وقد وقعت ذاكرتها في غيابات النسيان . حتى عند ذهابه إلى يوسف في السجن وندائه عليه، لم يكن يرد وكأن تلك الحقيقة قد فقدت صوتها العالي وقدرتها على سماع الصوت من حولها " وأنا أرى الأذنين القصيرتين كحربتين " كما أفقدتها ملامحها في النهاية بل وشوهت بعدما شوّه يوسف في السجن! .

 

4-                    علاقة الشخصية المحورية بالسترة:

في القصة القرآنية ارتبط القميص أو الرداء بيوسف عليه السلام في أكثر من موضع بالقصة وفي كل مرة من أجل إثبات الحق ودحض الباطل أو كشف الزيف والمكر أو من أجل البشرى في النهاية، ولكن بما أن القصة هنا تعرض لمرحلة السجن والتي مُزّق فيها القميص من دبر وكان شاهداً على براءة يوسف، فمن تلك الإحالة ينظر إلى رداء يوسف كونه دليلاً على تبرئته وإخراجه من السجن. إلا أنّ في " يوسف والرداء " لم يكن الرداء خاصاً بيوسف العصر فقط، وإنما كان يخص الشخصية المحورية – صاحب السجن وعلاقتها بالواقع المُعاش .

 

      جاء ذكر السترة مرتين في القصة إحداهما عند زيارة البطل الأولى ليوسف في السجن " خلعت سترتي وملت إلى الجدار القريب " وذلك بسبب الحرارة ورطوبة المكان وبلوغه أماكن وعرة مرتفعة حتى يفقدها في النهاية " ورحت أنحدر بظهري إلى الأعماق البعيدة المظلمة، وفقدت سترتي وأنا أتشبث بالحاجز الخشبي الناعم "، ويتلوّث قميصه، فإذا كانت السترة في معناها العام تحمل دلالات إيجابية مرتبطة بالستر، فإنها في هذه القصة كانت محاولة من البطل للتحرر من القيود التي حوّطته من بداية القصة، ابتداءً من الذاكرة المشوشة ونسيان الأشياء، وتجاوز المكان العالي وحيداً وصعوده السجن المتداخل، فكان خلع السترة للتخلص منها كبقية القيود، ومحاولة لكشف الستر عن ظلم قابع داخل السجن، إلا أنه فقدها تماماً ويظل معلقاً متشبثاً بالحاجز الخشبي، ثم يسقط وراءها ويصاب . تلك السترة لم تمزق بأي حال من الأحوال على عكس القميص في القصة المرجعية الذي مُزِّق في أكثر من مرة وتناثرت عليه الدماء، فكانت السترة السليمة هنا متماسكة أمام كل الأزمات التي مرّ بها صاحبها البطل . فلم تُجدِ كل هذه المحاولات لنجدة يوسف وتخليصه من حبسه الظالم. بل كانت الأحداث تتلاحق ليفاجأ بيوسف مشوهاً في السجن وصديقه ( ع.ج ) معلقاً أو مصلوباً.

 

ويأتي الذكر الأخير للسترة في القصة على لسان شقيق يوسف " ذي العينين الوسيعتين / الكبيرتين "، " سترتك، أخذتها بنفسي إلى البيت، أخبرتهم، أنك بحالة جيدة "، إلا أنها لم تكن للبشارة كالقصة القرآنية لتنير بصر يعقوب عليه السلام وتخلّصه من عماه، وإنما جاءت هنا للتدليل على استحالة التخلص من تلك القيود واستحكامها على البطل الوحيد القادر على الإنقاذ، ولتزيد العمى والحجب على أعين المجتمع فلا يرى للحقيقة بصيصاً .

 

خاتمة:

من خلال هذا المقال يمكن القول بل والجزم بتلك العبقرية في معالجة الشخصية من خلال رؤية جديدة لقصة يوسف عليه السلام، وربطها بواقع معاصر قد انهار فيه الجمال والطُهر وكثيرٌ من المسلمّات، لتُغيّب في ظلامات السجون المتداخلة، حينما تصير الحقيقة صماء بلا آذان تُذكر ولا صوت يسمع، فلا تتحرك، وإن تحركت فإنها هوجاء متخبّطة كالخفاش تخشى الحدود والجدران وقد شُوّهت تماماً . لقد قدّم أصلان شخصية محورية جديدة لتلك القصة الشهيرة ليخدم بها فكرته حول الواقع المُعاش، وهي شخصية صاحب السجن الناجي، مستفيداً من عمله كساقٍ للخمر ومن أحلامه التي يسيح فيها بلا هدى بتلك الذاكرة العقيمة التي عصف بها النسيان . فكانت معالجة فذّة من عبقرية نادرة تستحق التأمل والتوقف عندها كثيراً .

 

دينا نبيل - مصر

 

..............

الإحالات:

1- شعرية الخطاب السردي: محمد عزام، دراسة – من منشورات اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 2005

2- بنية الخطاب السردي في "سورة يوسف" "دراسة سيميائية": د/ بلقاسم دفة، الموقف الأدبي، عدد: تشرين الأول 438، 2007، اتحاد الكتّاب العرب – دمشق: ص 72

3- الطريق إلى النص مقالات في الرواية العربية: سليمان حسين، اتحاد الكتّاب العرب – دمشق 1997: ص 201

4- الواقع والأسطورة في أقاصيص أصلان: محمود حنفي كساب، مجلة البيان – الكويت 1981

5- الراوي وتقنيات القصّ الفني: عزة عبد اللطيف عامر، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2010: ص 207

6- نجيب محفوظ وعاشور الناجي بين الرمز والإسقاط: خالد محمد عبد الغني، مجلة إبداع، عدد 20 خريف 2011، الهيئة المصرية العامة للكتاب : ص 82

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2198 الجمعة 3/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم